تمر علينا هذه الدقائق، الساعات، الأيام والشهور ونحن وحيدون في الألم والوجع؛ فكل لحظة تستنزف فيها طاقتنا وإنسانيتنا، نقص الماء والطعام والمال، النزوح المتكرر، درجة حرارة مرتفعة، ومحطات انتظار للقهر والموت، فلا شيء في هذا العدوان للمظلومين الأبرياء الصابرين المرابطين إلا أنه يشبه وتر عود أو...

انتهى عام دراسي كامل وتعاقبت علينا فصول أربعة، أتى شهر رمضان المبارك وعيد الفطر المبارك وجاءت أيام العشر الأوائل من ذي الحجة وانقضى عيد الأضحى المبارك؛ فهل تخيلتم أن تمر كل هذه المناسبات العظيمة وتلك الشهور الطويلة والعدوان مستمر على غزة؟! 

إن التغييرات والأحداث التي تحدث بصورة مفاجئة في حياتنا تجعلنا ننظر، نتفكر، ونقف أمام مرآة الحياة لنراها على حقيقتها لا على زينتها، فجأة تتغير ظروفنا، أولوياتنا ومسؤولياتنا ونظرتنا لأنفسنا وللعالم المحيط بنا؛ فكيف بالأحداث العظام الجسام كالعدوان على غزة الذي نحياه ونعيش أدق تفاصيله لوقت طويل؛ فماذا بقي من أهوال وشدائد ودماء وأشلاء، ودمار وخراب وتدمير وحرق ونزوح وتجويع وفقد لمظاهر ومعالم الحياة الحديثة يمكن أن تروى لكم وتبصر معها القلوب والعقول، وتستفزك كفرد، كجماعة، كوطن، كأمة، كعالم وكمؤسسات دولية يمكن أن تحرك قلوبكم وأفعالكم! فهل بقي أمل للنصرة والسند وفعل الواجب الأخلاقي والإنساني؟!

ككل شعوب الأرض نتمنى لو كان لنا وطن حر نبنيه بعقولنا وسواعدنا، يكون لنا فيه منازل جميلة لا تدمر، ومؤسسات تعليمية وعلمية لا تتحول إلى ركام، ومكتبات علمية لا تحرق فتصبح رماد، ومساجد لا تهدم قبابها على روادها، ومستشفيات لا تخرج عن الخدمة بفعل آلة التدمير والعدوان، وحدائق ومباهج، مؤسسات ومشاريع واقتصاد وعمران لا تتعطل فتصبح ذكريات. نحن نحب الحياة كثيرا، نحن نحب البناء والتعمير وأن يكون لنا أعراس لا مآتم!

ندخل شهرنا الأول فالثاني من الحرب والعدوان الظالم حتى أصبحنا نقترب من الشهر العاشر، وما زالت الأحداث مستمرة في ظل صمت عالمي رهيب وغياب نصرة حقيقية للمظلومين، وقد توقفت طيلة الشهور السابقة من أحداث العدوان عن الكتابة العلمية والبحثية؛ لما رأينا من اقتراب الموت كثيرا وقد خرجنا من تحت الركام، وزلزلت الأرض من أسفلنا وتموج الطائرات من فوقنا بالمسامع رعبا، وقد نزحنا بين المناطق المدمرة تسعة أشواط ويزيد، صعدنا فوق الركام، تجرعنا صنوف الألم والشدة والتخاذل العالمي وعشنا كل شدائد الأيام، ونحن ما زلنا تحت العدوان وآلة التدمير الممنهج لكافة مظاهر الحياة، نعيش الإبتلاءات المتعددة في تفاصيل أيامنا من العدوان المستمر، الخوف والجوع والعطش ونقص في الأنفس والأموال والثمرات حتى أصبحت أيامنا مصبوغة بالألم والحزن وترقب الأمل وبشر الصابرين.

كل ما حولنا يهتز من شدة القصف، قصف جوي وبري وبحري عنيف مع تحليق مكثف ومزعج للطيران ليلا ونهارا،‏ ننام على مجزرة ونستيقظ على أخرى، يرحلون فرادى يرحلون جماعة، كل أيامنا باتت مخضبة بالدم، بالألم، بالحزن وبالوجع الكبير، ضاقت بنا المسالك واحاطت بنا المهالك، وأغلقت في وجوهنا المعابر وتكالبت علينا الأمم، واشتد بنا الأمر وعظم علينا الخطب، واستحكمت حولنا الدوائر،وضاقت علينا الأرض بما رحبت وبلغت القلوب الحناجر، وليس لنا في ظل هذه الأحداث الجلل من تاريخنا المعاصر سوى الصبر الجميل الصادق على ما يرضي الله عزوجل، صبر بلا ميقات معلوم فيه امتحان القلب وزلزلته، لكن العاقبة الحسنى معه مضمونة.

تمر علينا هذه الدقائق، الساعات، الأيام والشهور ونحن وحيدون في الألم والوجع؛ فكل لحظة تستنزف فيها طاقتنا وإنسانيتنا، نقص الماء والطعام والمال، النزوح المتكرر، درجة حرارة مرتفعة، ومحطات انتظار للقهر والموت، فلا شيء في هذا العدوان للمظلومين الأبرياء الصابرين المرابطين إلا أنه يشبه وتر عود أو قصبة ناي، تضخم الدقات والأصوات والمشاعر والذكريات، ويشدنا الحنين والاشتياق كثيرا إلى ماضي عمره أقل من سنة؛ تنتظم فيه الحياة التعليمية فيعود الأطفال لمدارسهم والشباب للجامعات، والمؤسسات لدوامها ونشاطها لخدمة المجتمع، وتدور حركة العاملين وينشط الاقتصاد، تشدو الطيور الجميلة فوق الأرض المباركة، وتعود للأعياد بهجتها، وترتسم معالم البناء والتعمير لشعب يستحق الحياة الكريمة، ويصنع للأمة مجدها وعزها ونصرها.

تلك الشدائد والأزمات ستصنع العزائم، وتنبت أشجارا من الصبر الجميل لا يقتلعها عدوان وتدمير، ولنا في دروس التاريخ والأحداث العظيمة خير مرشد، وما أعظم شوقنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومدرسته ومنهاجه العظيم وقدوتنا في التعامل مع الأحداث العظيمة ولاسيما وقت الأزمات الكبرى والكوارث ؛ فقد كان يثبت صحابته في الأزمات والشدائد، ويبث فيهم آيات اليقين والعزم والثبات ومعاني الصبر الجميل، وأن كل ذلك سينجلي ويثبت الأجر العظيم وسيثمر عزة وتمكين. وفي الغد القريب سيكون عوضنا أكبر من الأحداث العظيمة الحالية، وسنصلي قريبا في باحات المسجد الأقصى الفسيحة، وسيعود البناء والعمران لغزة ومؤسساتها العلمية والمعرفية والمجتمعية، وسيعلو صوت الآذان. فلن تكون كلماتنا يوما جثثا دون روح ولكنها أجراس تعلن عن التواجد والوجود، وبداخل كل حرف نبثه حياة بأكملها ونبض قلوب عامرة باليقين ومتصلة بالسماء.

* مؤلف وأكاديمي فلسطيني

Email: [email protected]

اضف تعليق