q
خسائر المواطن الليبي قد فاقت حدود المواءمة والملائمة، بحيث ما عاد شيء يدهش أو يخيف، أو يكسر ظهراً، أكثر مما هو مكسور، هو خير وقت لاتخاذ القرارات الجريئة، والخيارات الصحيحة، والحلول الممكنة، والأشخاص الأكفاء، لتحصين ليبيا وزيادة منعتها، ولإصلاح أعطاب الباطن والظاهر والمتوقّع، ولرمرمة البيوت والجراح...

قد يحمل هذا العنوان في طياته شيئا من الإثارة، ولكنني وبكل تأكيد أريد لهذا الطرح أن يكون واعياً وموضوعياً ومسؤولا من البداية إلى النهاية.‏ فالحديث عن الفساد في ليبيا بجميع أشكاله ومستوياته أصبح مادة يومية، ومحورا أساسياً لكل نقاش أو حوار... وفي خضم هذا الحوار والجدل الدائر تكثر التساؤلات وتتكاثر علامات الاستفهام المشروعة وغير المشروعة والتي كثيراً ما تكون ذات أبعاد ودلالات وولاءات وانتماءات أسهمت وتسهم في شيء من عمليات الفساد هذه.

ومن المؤسف القول أنّ الفساد في ليبيا دخل مرحلة جديدة تجاوز فيها حالة الداء والمرض العضال ليتحول إلى لعنة سماوية تتكاثر فيروساتها في غياب المحاسبة والمساءلة، بل وبكل شفافية نقول: باتت الجهات الرقابية بحاجة إلى رقيب على عملها بعد أن تسللت إلى بعض مفاصلها فيروسات الفساد... وحسب العارفين والراسخين في علم الاقتصاد الليبي، فقد أنفقت الحكومات المتعاقبة بعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، أنفقت أكثر من 500 مليار دينار ليبي، هذا الإنفاق تمّ خارج الميزانية ودون أن يتحقق للشعب الليبي لا تنمية ولا هم يحزنون!

لقد علمنا المجاهد عمر المختار، أنه لا يمكن الجمع بين المشكلة والقضية، فالقضية الوطنية والدفاع عن الوطن هي أولوية وأسمى آيات الوجود، لكن حين يقع المجتمع فريسة الفساد ويحرم من أبسط حقوقه الحياتية، يصبح الفرد هائماً تائهاً لإيجاد حلول لمشكلته الكامنة في كيفية تأمين مستلزمات الحياة لأولاده وعائلته، وفي هذه الحالة فإن الالتزام بالقضية الوطنية والتقاط الحلول الناجعة، يتراجع عن الأولوية ويصبح أمراً ثانويا.

في ليبيا اليوم أصبحت ظاهرة الفساد سمة الحياة السياسية، فقد تفشى بشكل كبير في عهد حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وبشهادة مسؤولين، على سبيل المثل لا الحصر، وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، فقد أكدت في تغريدة سابقة على حسابها بموقع تويتر، أن "الفساد آفة فتاكة تنهش جسد دولتنا، وعلى الرغم مما تمر به بلادنا... لا يكفي لمحاربة الفساد تشكيل أجسام ومنظمات فقط، لكن لا بد من وجود إرادة حقيقية وجهود موحدة". نعم لقد تحوّل الفساد في ليبيا إلى معضلة وآفة أتت على أموال الليبيين وموازنات الدولة، ونقلت ليبيا من بلد غني إلى بلد فقير يمد يده للعالم لإقراضه.

وما يؤكد ما ذهبنا إليه ما كشفه التقرير السنوي لمؤشر مدركات الفساد لعام 2021، الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية، حيث صنف ليبيا ضمن تصنيفات متقدمة في مؤشرات تفشي الفساد المالي والإداري على مستوى العالم، فليبيا صنفت ضمن قائمة أشد الدول فساداً في العالم.

وصراحة أفكر أحياناً وأسأل نفسي: هل هؤلاء الفاسدون ينتمون فعلاً إلى ليبيا وشعبها وجيشها الذي دفع ثمناً غالياً من أجل أن يعيش سيداً حراً مستقلاً، وليس من أجل أن نرى هذا الفحش في الفساد وقلة الانتماء الوطني والنهش المستمر من دون رحمة بأبناء ليبيا؟ ولتأكيد المؤكد، فقد أصدر مؤخراً مكتب النائب العام، أمرا بحبس وزير الصحة الليبي علي الزناتي ونائبه سمير كوكو في الحكومة، احتياطيا على خلفية تورطهما في قضايا فساد مالي وإداري.

ويأتي قرار الحبس ''الاحتياطي'' ضمن سلسلة عمليات قضائية طالت عددا من كبار مسؤولي الحكومة الليبية، حيث قام النائب العام الشهر الماضي، بالأمر بحبس وزيري الثقافة والتعليم على خلفيات فساد مماثلة. وتكررت عمليات الحبس "الاحتياطي" للمسؤولين والوزراء في ليبيا طيلة السنوات الماضية، لكنها تنتهي عادة بإطلاق سراحهم أو الحكم عليهم بأحكام مخففة. ولا يمكن أن يختلف إثنان أو يتناطح عنزان، أنّ ليبيا منذ أكثر من عقد تعيش في حالة من الفوضى والفساد، ومضحك أو مبكٍ ما يقرأ عن كارثة الفساد في ليبيا، ومحزن أن تسمع كلاما كثيرا، أشبه بجعجعة بلا طحين، ولا ثمر يجنى ولا انتهاء موعودا، كل الحكومات التي حكمت ليبيا بعد غزو الناتو، اشتركت في صناعة الفساد باسمه، وعملت بضمنه وسخرت عقولها لأدائه، وجعلته مقدسها، أو صنمها الذي يعوضها في صحوتها. وفي كل مرة حين كانت تشتد المطالبات في محاكمة الفساد والفاسدين، تبرز تصريحات رسمية بأرقام وأعداد وملفات وترفع بعدها إلى الرفوف دون فعل حقيقي، وحكم ملموس.

منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، استغلت فئات وجماعات ليبيا والمواطن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وكدست الأموال والممتلكات واستأثرت بالمنتجعات ورفاهية العيش والكماليات عن طريق الفساد والمحسوبيات وسياسة اقتصاد الريع وتحاول اليوم الحفاظ على مكاسبها وأدوارها. ولكشف المكشوف، فقد اتهم مدير التوجيه المعنوي في الجيش الوطني الليبي اللواء خالد المحجوب، رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بالتلاعب بمقدرات الشعب الليبي، وأوضح أنّ حكومة الدبيبة صرفت خلال عدة أشهر ما يزيد على 90 مليار دينار، منها 20 مليار على تنمية الفساد بدلًا من تنمية الوطن، وأصبحت ليبيا تحكمها عائلة تتمتع بمزايا لم يعرفها التاريخ حتى في عصور الملوك الذين كانت في أيديهم كل السلطات"، وأضاف المحجوب: أنّ رئيس الحكومة قد أفلس، وتحول إلى أداة تجويع لليبيين ينتظرون رواتبهم ليسدوا رمق أبنائهم، ويسددوا نفقات علاج مرضاهم واحتياجات تعليم أبنائهم الذين لم يجدوا كُتبًا يقرأون بها فصار لزاما أن يلجأوا لزيادة عدد الكراسات والأدوات".

وأشار مدير التوجيه المعنوي في الجيش الليبي إلى أن "الحكومة تسيطر عليها عائلة لم تترك أي فرصة للكسب والسمسرة، إلا وكانت هي المتصدرة بكل الوسائل والوسائط في الداخل والخارج، حتى السفارات التي تحتاج لسيارات لابد أن تتم عبر شركاتها، وبدلًا من أن توجه هذه الحكومة عملها لأداء واجباتها في تحقيق إرادة الليبيين للانتخابات، والمصالحة الوطنية، وتوحيد المؤسسات، إذ برئيسها يوقف رواتب قرابة نصف مليون مواطن ليبي، انخرط أولياء أمورهم أو أبناؤهم في الجيش الليبي لحماية وطنهم، وتأمين مصدر رزق الليبيين، والنضال من أجل تحقيق السيادة".

والشيء المحزن أن حكومة الدبيبة حتى هذه اللحظة، لم تستطع وضع أزمات ليبيا المتتالية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في مواجهة صحيحة مع الفساد دون أي تشويه للحقائق، فمازالت إجراءات الحكومة عرجاء وكسيحة وسائرة في كرنفالات المحاسبة الاستعراضية، والدعائية والغارقة في مزادات البيع والشراء حتى الثمالة، فذلك المولود الذي يسعى الجميع (مواطن ومسؤول) لإعلان النية لتبنيه ليس سوى إصلاح صابوني متزحلق على صابونة الفساد إلى بالوعة استنزاف المال العام وشفط الثروات الليبية بكل أشكالها وألوانها.

وما تعيشه ليبيا من فوضى الميليشيات والمرتزقة... هي منتج طبيعي للفساد المستشري والذي بات ثقافة لا بد منها في المجتمع الليبي، وفي مرافق حكومة الدبيبة، أما الفساد الأخطر فهو ذاك الذي بات يستحكم بالنُخب وبخاصة النخب المثقفة التي ما برحت تروج لمقولة "خلصنا بدنا نعيش" دون الأخذ بالمعايير والقيم والمبادئ، الأمر الذي يفسر العجز الذي أصاب أولئك في التمييز بين الفريسة والمفترس أو العجز عن التقاط أو فهم اللحظة التاريخية والمصيرية بأن ليبيا أمام مفترق مصيري حقيقي ليس لبناء الحاضر إنما لضمان مستقبل ليبيا وهويتها وأجيالها.

وبعيدا عن الصراعات السياسية والانتخابية الرئاسية المرتقبة، وبعيدا عن الحكايات والاتهامات المتبادلة والتي لن تنتهي بين المتصارعين وبعيدا عن ديكتاتورية الفرد المختفي وراء شرعية الجماعة التي تغطي غابة تقنين الإقصاء والفساد التي تحملها الكثير من الأخبار الواردة... ها هو الشعب الليبي يدفع الثمن بالنفس والنفيس وتكون حياته مقابل صراعات سياسية وشخصية، لا علاقة لها بمطالب المتصارعين... فالشعب الليبي خبر الفاسدين والموتورين والمنافقين الذين ارتدوا أقنعة الغش والاحتيال والمراوغة وأتقنوا فنون النصب والكذب وتجارة المبادئ والقيم، إلا أنّ هذا الشعب الذي خبرهم في الماضي، لا ينطلي عليه هذا الرياء الذي يبدونه متمثلاً في الحرص على مصالحه والاهتمام بشؤونه وقضاياه، وهو بوعيه وحسه الوطني يعرف تماماً أنّ من كان سبباً في الأزمات، لا ينبغي له أن يكون جزءاً في حلها، والأجدر بهؤلاء الناعقين على شاشات الفضائيات أن يريحوا الناس من طلتهم غير البهية، ومشاعرهم غير الصادقة، وأفكارهم السوداء التي لا تؤدي إلا إلى الخراب والدمار.

والحقيقة التي يرفعها اليوم المواطن الليبي صادحة عالية صارخة ناصعة، وبوضوح شديد لمن هو معني بإدارة ملفات الخدمات والاقتصاد... وشؤون المواطنين: إنكم فاشلون فاشلون، فاسدون فاسدون، ولم تقدموا حلولاً إبداعية جديدة تخفف عن المواطن الليبي ظرفاً اقتصادياً قاسياً جداً، الأمر الذي يتطلب منكم الوضوح والصراحة ونظافة الكف، فمن أوكلت له مسؤولية معينة، عليه أن يتذكر في كل لحظة أن المسؤولية في هذه المرحلة التاريخية الحساسة جداً تتطلب تضحية، وليس أنانية، نظافة ونزاهة، وليس لصوصية وفساداً، واحترام تضحيات الليبيين الهائلة، وليس التعاطي وكأن شيئاً لم يحدث، الصراحة والشفافية وليس الصمت المطبق واستحمار الشعب الليبي بطريقة غبية...

فهناك مراكز قوى في ليبيا، تحول دون إيجاد حلول ناجعة للمجتمع الليبي، وذلك لاستمرار المنفعة الشخصية والهيمنة على مقدرات الدولة، وهنا يبرز السؤال: ما الذي يمنع المسؤولين في حكومة الدبيبة من اتخاذ خطوات عملية لإيجاد الحلول المطلوبة للمجتمع الليبي؟ وما الذي يمنع المسؤولين من اتخاذ إجراءات صارمة ضد الفساد والفاسدين وضد أي منفعة شخصية أو حزبية تقع على حساب تفكك المجتمع الليبي...؟

إنّ خسائر المواطن الليبي قد فاقت حدود المواءمة والملائمة، بحيث ما عاد شيء يدهش أو يخيف، أو يكسر ظهراً، أكثر مما هو مكسور، هو خير وقت لاتخاذ القرارات الجريئة، والخيارات الصحيحة، والحلول الممكنة، والأشخاص الأكفاء، لتحصين ليبيا وزيادة منعتها، ولإصلاح أعطاب الباطن والظاهر والمتوقّع، ولرمرمة البيوت والجراح، ولصق أقدام أحلام الليبيين المقطوعة، ورتق الوجوه والملامح والمشاعر والدموع، والتوقّف عن التظاهر بالعيش فوق ضرس الموت، لأن الشعب الليبي في بطن الموت، فالأزمات التي يعيشها المواطن الليبي غير مقبولة، ويجب إنهاؤها والعمل حثيثاً على إجهاض أدواتها وإفنائها، فالجهل مع الفقر يؤدي إلى الإجرام، والغرور مع الغنى يساوي الفساد، والأمية الفكرية مع الحرية تعمم الفوضى، وعدم الخبرة مع الإدارة تنجز التأخر والخسائر، واللاوطنية مع التديّن تنبت الإرهاب، ومن لا يميز بين السخرية والمأساة فهو إما معتوه وإما جبان...

ويقيناً أنّ للمراحل الانتقالية أعراضها وأمراضها... فكيف هي الحال في فواصل الانتقال القسرية ما بعد الأزمة أو في أطرافها؟!‏ فمهما كانت النوايا حسنة، والشعارات صحيحة، والآليّات مكفولة، يظلّ التعامل مع المواطن في فترة التعافي، أو الإجهاد أو استراحة المحارب... يقتضي الحذر والفطنة والتفهّم..‏. وعلى الشعب الليبي أن يشارك في ذلك، لأنّ في الانتظار أكثر خسائر مضاعفة، والتردّد مشكلة، والانكفاء خسارة، والسكوت تقصير وعجز، وإسهام في إطالة سيطرة الفساد واستشرائه، فيما ليبيا تحتاج إلى تقليص فترة العلاج، كي يكون المواطن الليبي أكثر أملاً وقناعة بالخلاص الآمن.‏

* كاتب صحفي من المغرب

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق