أشاهد يومياً الكثير من الصور المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي يتداولها العراقيون بكثرة، تحاكي واقعهم المرير في العيش في بلد أنهكته كل مصائب الدنيا، من الحرب والفقر والجوع والتهجير والمرض والفساد وجور الحكام والتعصب المجتمعي ومما لايكفي للحصر في مقال واحد عن هذه المصائب. من هذه الصور صورة امرأة كبيرة بالسن ليس لديها معيل لانها فقدت ابناءها الشهداء في الحرب على تنظيم داعش الارهابي وهي تنام على الارض ولاتبعد مسافة 200 متر عن صحن امير المؤمنين في النجف الاشرف!.
للتقليل من الصدمة النفسية لهذه المصائب عليك بمطالعة بسيطة لكتابات "فولتير" العدو اللدود للتعصب والمتعصبين وللحكام الفاسدين والاقطاعيين، ممن أسهمت كتاباته والتي تجاوزت 90 كتاباً في تغيير مسار البشرية وبناء أسس الأمة والفرد، وساهمت كثيراً في ثورة الشعب الفرنسي وشعوب أوربا كافة ضد الأنظمة الرجعية، نجد تحليلاً لكتابه المشهور عن التسامح. وهو الدراسة التي أصدرها في عزّ المعركة التي كانت دائرة في فرنسا آنذاك بين الاصوليين والفلاسفة حول حرية الاعتقاد والضمير، وحول الاقلية البروتستانتية وهل يحق لها ان تتواجد أم لا، مهما يكن من أمر فإن كتاب فولتير يطرح مسألة "الممكن والمستحيل" في فترة من الفترات. فهناك أشياء يستحيل التفكير فيها في لحظة ما، ثم يصبح ذلك ممكناً بعد عشرين أو ثلاثين سنة. وعلى هذا النحو يمكن ان نفهم المسافة التي تفصل بين كتاب فولتير الذي ظهر عام 1763، وصرخة "رابوسانت ايثيني" عام 1789 أو بعدها بقليل. ينبغي ان ننتظر حتى تنضج الظروف ويصبح التغيير أمراً ممكناً، ينبغي إحداث ثورة في العقول قبل المطالبة بتغيير العادات السائدة والقوانين الراسخة، وهذا ما فعله فلاسفة التنوير.
إستناداً للعقلية "الفولتيرية" وما يمكن ربطه بالواقع العراقي اليوم نجد أن من يمتلك زمام التأثير في الشارع العراقي عدة تيارات أهمها "التيار السياسي" والذي يتحكم بنسبة كبيرة لدى المتلقي العراقي، وخاصة عندما يعزف على الاوتار الطائفية أو القومية، والذي ينقسم بنسبة متفاوتة لفئتين، الاولى وهي الأكبر "قوى الاسلام السياسي" التي تنقسم لتيارات معتدلة ومتعصبة ومن كل المذاهب، والفئة الثانية بنسبة أقل من تيارات تدّعي المدنية و"العلمانية"، وتأتي بعدهم "مجاميع الاقطاعيين الجدد" الذين هم عادة لايهمهم التوجه السياسي والديني والقومي بقدر مايهمهم السيطرة على منابع المال السياسي والصفقات المشبوهة والتي بالنتيجة تدعم القوى المذكورة اعلاه بالاستمرار في الحكم لمدة طويلة، وتأمين المستقبل لعوائل أو مجموعات اقطاعية يستمر بها السيطرة على المواطن البسيط، طالما أنه بقي تائهاً بمشاكله اليومية وعلى جميع الاصعدة.
هي عقلية "عفلقية" بامتياز ولكنها بخطاب ديني وعاطفي مُنمّق يحاكي الشخصية العاطفية العراقية التي من السهل التأثير بها أما عن طريق شجن الفن أو القصيدة الحسينية أو بحجة الدفاع عن العادات والتقاليد التي اغلبها مستهلكة!!
هذا الاسلوب بالخطاب يستخدم فيه طرق ل"تغييب" العقل العراقي بحرفنة عالية وجدنا من اللازم البحث والكتابة فيه، فبعد 12 عام من التغيير بعد سقوط النظام الشمولي من غير المعقول أن يبقى هكذا نوع من الخطاب مسيطراً على العقل العراقي، فنجد أن هذه القوى تدعي المحافظة على الدين والمذهب والوطن بالجوانب الدينية التي اكل الدهر عليها وشرب، وتغُّض الطرف عن مايعانيه الفرد من فقر وجوع وخدمات بائسة جعلت من العراق نموذجاً "صومالياً" جديداً وإن كابر الكثير من المحللين والكتاب عن هذه الحقيقة المُرّة!.
تابعت يوم أمس حملة في البرلمان العراقي لجمع تواقيع لحجب البعض من المواقع الاباحية والمواقع التي يعتبرها هابطة أو تُدمر عقول الشباب، تبناها أحد النوّاب والذي أوافقه في الطرح بكل تأكيد، ولكنه (نسي أو تغاضى) وطيلة 12 عام في البرلمان عن مجابهة الفاسدين أو على الاقل محاولة تأليب الرأي العام ضدهم ولو لمرة واحدة وخاصة أنه يُعتبر ممثلاً لتيار ديني يدّعي النزاهة والسير على خطى دولة الامام علي(عليه السلام)، هذا الكلام ليس موجهاً له شخصياً لأنه بالنهاية يمثل حالة عامة لمن يحكم ويسيطر على المشهد السياسي العراقي، كان من الاجدر بهم أن يشاهدوا مايعانيه الفرد العراقي من مآسي وويلات تنتهك حقوقه كانسان يعيش في القرن 21، وماتتعرض له المدن المقدسة التي يتفاخرون بالانتماء والولاء لها من خراب متعمد في بنيتها التحتية، وفقر مدقع أمام أعينهم وبالقرب من قصورهم الفارهة، فصورة المرأة الكبيرة بالسن والفاقدة لكل معيل، أفقدتني الوعي لدقائق واعتبرتها مشهداً إباحياً مُحرماً بكل النصوص الدينية والانسانية، عن أي إباحية تتحدثون ياقوى الاسلام السياسي فهذه إباحية مابعدها إباحية!
ولكن يبدو أن النواب والمسؤولين الحكوميين كافة لايمرون من هذه "الدربونة" على الاطلاق؟!.
اضف تعليق