فالجمود بمثابة البؤرة التي تضخ مختلف أشكال التعويق وانعدام الوزن. وتعطل كل علامات وإرادات النهوض المجتمعي. لذلك وبسبب ما تضخه عقلية الجمود من تبريرات وما تزرعه في الوسط الاجتماعي من معوقات ذاتية تبقى كل مشاريع التقدم والنهوض ذات طابع فوقي ولا تلامس بشكل جاد جذور الأزمة...
إن تبديد غيوم الجمود في المحيط الاجتماعي. بحاجة إلى حركة ذاتية ـ دينامية.. لا تنتظر المحفزات من الخارج. بل ينبغي ان تكون المجتمعات مولدة للإصلاح والتغيير وصانعة له.
ثمة حقائق ووقائع تاريخية. ينبغي استحضارها باستمرار في حركة الوعي المعاصر، حتى يتم الاستفادة منها وتمثلها وتجسيدها في واقعنا المعاصر. ولعلنا نرتكب جريمة كبرى بحق تاريخنا وتراثنا، إذا لم نعمل على استيعاب القيم والدوافع الإنسانية النبيلة، التي وقفت خلف تلك الحقائق التاريخية المجيدة.
ولعل من المسائل الشائكة التي تعترض راهننا. وتبحث عن إجابات واقعية لها. هو كيف ينبغي ان تكون علاقتنا مع حضارة عصرنا.
وبعيداً عن المضاربات الفكرية والايدلوجية، نحن بحاجة ان نستحضر تجاربنا التاريخية في هذا الصدد، لكي نستهدي بها، ونستفيد منها وصولاً لتأسيس رؤية عميقة. تحدد لنا طبيعة العلاقة التي ينبغي ان ننسجها مع حضارة عصرنا.
لهذا فإن السؤال هو: كيف تعامل المسلمون الأوائل مع حضارات عصرهم. وتحديات راهنهم؟.
من المؤكد ان الأمم لا تتمكن من تحديد إجابات وافية على هذا التساؤل الحضاري. إذا لم ترفع ما يحول بينها وبين قوانين الحياة الاجتماعية والتاريخية.
فالأمة التي تزيح عن كاهلها كل معوقات التعاطي الإيجابي مع قوانين الوجود الاجتماعي ستحتل مكان الصدارة، على الصعيدين الاجتماعي والحضاري. لأن كل فضاء معرفي ـ اجتماعي، يملي جملة من التصورات العامة. كما يملي جملة من أدوات التحليل الخاصة.
وإن تحقيق الانتصارات والمكاسب الحضارية في الماضي، لا يجعلنا إذا لم نتشبث بنفس الأسباب والعوامل التي أهلت وأوصلت آباءنا وأجدادنا إلى تلك الانتصارات والمكاسب، نحقق انتصارات راهنة في واقعنا المعاش.
فالإغراق في الماضي يعمي عن تحديات الراهن، ويشكل بشكل أو بآخر وسيلة للهروب من مواجهة العصر وقضاياه. فالمطلوب إذن من أجل حيوية وفعالية، علاقاتنا بماضينا وحضارات عصرنا وتحديات راهننا، هو نقد الجمود، جذوره والانعتاق من آساره وحبائله. لأن سيادة عقلية التقليد الأعمى والجمود والحرفية في المنهج والتفكير، لا يؤديان إلا إلى الذوبان في الماضي وقضاياه والهروب من الحاضر وتحدياته.
وبطبيعة الحال لا يمكن لأمة ان تعيش بلا ماض وتاريخ. ولكن الأمم الحية هي التي تستطيع ان تحدد منهجية واضحة وفعالة في علاقاتها بماضيها، بحيث يكون ماضيها وتاريخها وسيلة للنهوض المعاصر، لا وسيلة للهروب والانزواء عن الواقع.
فإن المهمة الكبرى الملقاة على عاتق الجميع. هي نقد الجمود بقوالبه الفكرية وآليات تأثيره المجتمعي لأنه بوابة العبور إلى علاقة حسنة وإيجابية مع الماضي وحضارات العصر. والجمود الذي نرى ان مهمة الجميع محاربته ومقاومته والخروج من آساره يعني:
1ـ التوقف عن العطاء الحضاري والإنساني والعيش على أمجاد الماضي ومكتسبات الأجيال الغابرة.
2ـ الانغلاق المميت على الذات. ورفض الآخر وإيثار التقليد على الاجتهاد والاتباع على الإبداع.
3ـ سيادة روح الإحجام والبعد عن الإقدام والانجذاب إلى الماضي لا إلى المستقبل ولا يقف الجمود عند حد معين، بل يتعدى ويصل إلى نقص في القدرة على التفكير السليم، ونقص في الشجاعة، وإلى تركيب مجتمعي غير متجانس مع وحدة الشكل الخارجي.
4ـ محاربة وعرقلة المحاولات التجديدية. تحت مبررات ومسوغات واهية. لا ترقى إلى أهمية إحداث تحولات نوعية في مسيرة مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فليس كل المحاولات التجديدية. تعد تجديفاً في الدين. أو خروجاً عن أصول الممارسة الفكرية السليمة. ولكن الجمود بمتوالياته النفسية والعقلية والسلوكية. هو الذي يقف دون تبني مواقف إيجابية من محاولات التجديد في مسيرة الأمة.
والجمود لا يعبر عن مرحلة تاريخية فحسب، ساد في الأمة وطبع وقائعها كلها بصفاته وآليات تعبيره، وإنما أيضا يعبر عن طبيعة المرحلة الراهنة. حيث إن الكثير من الظواهر السلبية والسيئة في جسم الأمة على مختلف المستويات هو وليد شرعي إلى مرحلة الجهود السائدة.
فانعدام الثقة بالذات أو ضعفها، والغرور والتميز الأجوف والذي يصل إلى حد العنصرية في بعض الأحيان والفصل بين الأقوال والأفعال، بين الظاهر والباطن كلها مظاهر وآثار مترتبة على سيادة حالة الجمود في المحيط المجتمعي.
فالجمود بمثابة البؤرة التي تضخ مختلف أشكال التعويق وانعدام الوزن. وتعطل كل علامات وإرادات النهوض المجتمعي.
لذلك وبسبب ما تضخه عقلية الجمود من تبريرات وما تزرعه في الوسط الاجتماعي من معوقات ذاتية تبقى كل مشاريع التقدم والنهوض ذات طابع فوقي ولا تلامس بشكل جاد جذور الأزمة ومنابع الخلل.
فعلى المستوى الفكري والثقافي تحولت غالبية مشاريع النهضة إلى مشروعات ثقافية انتقائية، تلفيقية متجاورة في ذلك مع كل أفكار التبرير ومشروعات ليس بالإمكان والمقدور.
وعلى المستوى الاجتماعي لم تستطع هذه المشروعات في غالبيتها إلا ممالاة الواقع والتساكن مع عناصره ورموزه.
ولعل الذي أوصل الحالة إلى هذا المستوى هو توفر حالة الجمود في المحيط الاجتماعي. وبقاء أفكار التقدم والنهضة من جراء ذلك ذات طابع نخبوي خاص.
فالجمود بما يشكله من عقلية واستقالة من المسؤولية العامة. وانكفاء على الذات بشكل لا يطاق. يعد هو العقبة الكأداء أمام مشروعات النهوض في العالم العربي والإسلامي.
وعلى ضوء هذا فإن مهمة العالم العربي والإسلامي نقد الجمود بأيدلوجيته وآليات عمله، حتى يتحرر الواقع العربي من آساره.
ونقد الجمود ومحاربة جذوره النفسية والعقلية والاجتماعية، ليست مهمة بسيطة أو وظيفة سهلة، وإنما هي من الوظائف المعقدة، والتي تتطلب الكثير من الجهود والامكانات والطاقات. وتوظيفها الأمثل في إطار محاربة كل عناصر الجمود والكسل العملي والاجتماعي. بمعنى ان إنهاء الجمود من الفضاء الاجتماعي، يتطلب القيام بعملية تغييرية شاملة، بحيث ان النظام القيمي الذي يعطي الأولوية للعمل والسعي والبناء والعمران. هو الذي يسود الفضاء الاجتماعي بكل أبعاده وآفاقه.
ومن أجل تحقيق هذه المهمة نؤكد على النقاط التالية:
تعميق الوعي التاريخي:
ان التاريخ الإنساني يشكل سلسلة مترابطة الحلقات، وسياقاً متواصلاً منذ فجر التاريخ وإلى الآن. لذلك فإن التعاطي مع التجربة الإنسانية والتاريخية باعتبارها مجموعة من القصص المتفرقة أو الأحداث المنفصلة والغريبة عن بعضها. لا تؤدي إلى الفهم السليم لهذا التاريخ ولا تحرر المحيط الاجتماعي من الجمود وسلطته. بينما التعامل مع التاريخ كوحدة إنسانية مترابطة ومتواصلة عبر الزمن. يعمق في نفوسنا وعقولنا الوعي التاريخي والذي يزيل الالتباسات، ويعرّي جذور الخلل الكامن في الجسد الاجتماعي. ويقضي على ما يمكن تسميته بالوعي الطفولي للتاريخ.
فتعميق الوعي التاريخي شرط ضروري للنمو والتقدم وتجاوز معوقات الجمود واليأس.
الحركة الذاتية:
إن تبديد غيوم الجمود في المحيط الاجتماعي. بحاجة إلى حركة ذاتية ـ دينامية.. لا تنتظر المحفزات من الخارج. بل ينبغي ان تكون المجتمعات مولدة للإصلاح والتغيير وصانعة له.
وإن الحركة الذاتية هي التي تفتح أبواباً جديدة لرؤية الراهن وبلورة آفاقه. فإن الإمكانات والقدرات التي يتضمنها أي مجتمع لا يمكن توظيفها في مقاومة الجمود. إذا لم تكن هناك حركة ذاتية في المجتمع. يتحرك بحوافزها ويسعى نحو الاستفادة القصوى من كل الامكانات المتوفرة في الإنسان والطبيعة.
القوة النفسية والإرادة الفاعلة:
إذ ان المجتمعات المهزومة نفسياً لا تستطيع توظيف إمكاناتها وقدراتها في مشروع نقد الجمود وإقصاء عوالمه من التأثير. لأن النفسية المهزومة لا تعكس إلا إرادة خائبة لا تستطيع القيام بأي عمل. لهذا فإن مقاومة الجمود تتطلب القوة النفسية والصلابة المعنوية التي تبث إرادة فاعلة وعزيمة راسخة وتصميماً فولاذياً على تطوير الواقع وتبادل الصعاب ومجابهة العوامل المضادة التي تحول دون التقدم والتطور.
واستطراداً نقول: ان الخطر الحقيقي الذي يواجه الشعوب والأمم ليس في الهزيمة المادية والخارجية بل في الهزيمة النفسية والجمود الذي يسقط كل خطوط الدفاع الداخلية ويمنع من وجود القدرة الطبيعية من إدارة الذات فضلاً عن تطورها.
لذلك فإن نواة التقدم والتنمية هي وجود القوة الاجتماعية المتحررة من قيود الجمود. والتي تعيد للإنسان عافيته وتجعله يقاوم تحدياته بإمكاناته المتوفرة.
اضف تعليق