q
أحكي لكم من مشاهدات عدة لمستها لمس اليد، وفي تلك المشاهدات لم أصدق أن ما يحدث أمامي عيني يمثل ظاهرة عامة في الوزرات العراقية، توقعت أن ذلك مجرد حالات فردية، توسعت في سؤال عدد من الموظفين في وزرات عدة عن هذه الحالة فكان الجواب السريع بأن...

قد لا نصدق لو سمعنا أن هناك وباءً يفتك بالموظفين العراقيين أخطر من وباء فيروس كورونا، ويكاد يقتل الكوادر الحكومية وينزع منهم قدرتهم على أداء دورهم بالشكل المطلوب.

حتى لا أطيل التقديم سأضعك في قلب الحكاية، بصفتك موظفاً حكومياً ووجدت نفسك في مراجعة إلى مركز الوزارة أو للمديرية العامة التي تتبع لها، (احفظ هذه الصفة أنت تذهب بصفتك موظفاً في نفس وزراتك لأنها ستكشف لك حجم الأزمة)، لن تستطيع إكمال المراجعة بدون صندوق حلويات مقسم على حلقات السلسلة الإدارية، كل مدير تحتاج توقيعه تخصص له كيلوغرام من الحلويات بصفة هدية أخوية.

صحيح أن الحلويات تأتي بصفة الهدية، لكنها ليست كذلك؟ لأن المراجعة لا تكتمل بدون هذه الحلويات، ووفق التقاليد بين الموظفين يفهم أي واحد منهم أنه إذا أراد إكمال المراجعة بسرعة يتطلب ذلك "دهن زردوم المدير وحاشيته". و"دهن الزردوم"، جملة مرادفة لمعنى الحلويات.

أحكي لكم من مشاهدات عدة لمستها لمس اليد، وفي تلك المشاهدات لم أصدق أن ما يحدث أمامي عيني يمثل ظاهرة عامة في الوزرات العراقية، توقعت أن ذلك مجرد حالات فردية، توسعت في سؤال عدد من الموظفين في وزرات عدة عن هذه الحالة فكان الجواب السريع بأن غالبية المراجعات إلى مركز الوزارة أو دائرة المدير العام بحاجة إلى "دهن زردوم".

حتى أن أحد الموظفين يتألم لكونه اشترى كمية كبيرة من الحلويات ووزعها في دائرة المدير العام، وعند عودته إلى مدينته لم يحصل على مقابل مادي عن الحلويات التي دفعها نيابة عنهم، لكونه يخجل منهم فهم أصدقائه ولا يستطيع ترك المراجعة بدون حلويات، ولا يستطيع أخذ المقابل المادي للحلويات.

وجوه الرشوة

تمثل الحلويات أحدث وجوه الرشوة في الوزرات العراقية وأكثرها سرعة في الانتشار، انتقلت من مرحلة العدوى الفردية إلى الوباء العام بمدة قياسية، ولا تنسى صديقي القارئ أننا نتحدث عن حالات تحدث بين الموظفين أنفسهم، وليس بين الموظفين والمواطنين.

نعم هي ليست حالات لجميع الموظفين، وليست لجميع وكلاء الوزراء ولا جميع المدراء العامين، لكن الحالة موجودة ومنتشرة بنسب عالية.

هل تعلم الحكومة بما يجري من عمليات لتحويل الوزرات إلى سوق لتجارة الحلويات بالمقايضة؟ وعملية المقايضة تكون بطريقة أعطيك الحلويات فتقايضني بإكمال المراجعة، إلا إذا تنازلت عن "دهن الزردوم" نتيجة لالتزامك الديني أو الأخلاقي، وهذا موجود طبعاً.

لا يوجد عذر لأي موظف يتعاطى الرشوة من زميله الموظف الآخر بحجة "هدية حلويات"، أو "دهن الزردوم"، أو بطاقة تعبأة رصيد للموبايل، لكن من يتعاطى هذا النوع من الرشوة يتحجج بمختلف الحجج، منها أنه سوف يرهق نفسه في البحث عن الملفات المفقودة وهذا العمل بحاجة إلى مكافأة، وأن الموظف الآخر يعطي المكافأة عن طيب خاطر _وهذا غير صحيح_ وبعضهم يعلنها صراحة أن وضعه المادي سيء ويجد في تعاطي الرشوة نوع من التعزيز المالي لميزانيته الشهرية.

ماذا عن المواطن؟

إذا كانت الممارسات بين الموظفين تتم بهذه الطريقة عبر الرشوة والحلويات، فكيف يتعاملون مع المواطنين البسطاء الذين يزورون المؤسسات الحكومية؟

لا أريد إعادة ما يقال دائماً عن عمليات الفساد داخل المؤسسات الحكومية، لكنني أود الإشارة إلى بعض التطورات في مسألة تعاظم دور الفساد، فالموظف المختص بنقل ملفات المواطنين بين مؤسسات الدولة "المُعْتَمَد"، لا يمانع عن أخذ الرشوة سواء كانت أموال مواد عينية مثل كارت تعبئة الموبايل، أو حلويات، لكن الأغلب يفضلون رصيد الموبايل أو الأموال مباشرة.

إذا استلم المعتمد _وليس جميع المعتمدين بالطبع_ الأموال فإن الملفات والمعاملة سوف تتم بأقصى سرعة ممكنة، أما إذا لم يستلم أي مقابل مادي فقد تضيع الملفات أو تتأخر لعد أسابيع.

قد يكون هذا المقال قاسياً على الموظفين، لكنني بالطبع لا أشملهم جميعاً وأتحدث عن ظاهرة عامة بدأت تنتشر بسرعة قياسية، وبالتأكيد أعني من يقومون بهذه الممارسات الخاطئة، ومن جانب آخر أريد توصيل رسالة تحذير للجهات المسؤولة أدعوهم فيها إلى ضرورة معالجة هذا الوباء الخطير وهو وباء الرشوة الذي يشبه داء السكري.

فإن أصاب الإنسان يتحول إلى مرض مزمن، ومن المفارقات أن الرشوة في العراق هذه الأيام فيها كثير من السكر، إنها الحلويات التي تضطر لتوزيعها في حال كانت لديك مراجعة إدارية معقدة.

اضف تعليق