تمثل لحظة تعطيل مجالس المحافظات خطوة محورية في تراجع المسار الديمقراطي والعودة إلى أقفال الديكتاتورية، وهذا ما سوف أبينه في سياق المقال، لا أقتنع بالحجة التي تقول بأن إلغاء مجالس المحافظات جاء لتحريك الإعمار والخدمات؛ لأن هذا المبرر لا يكفي والإعمار لم يحدث والخدمات نحو الأسوأ...
تمثل لحظة تعطيل مجالس المحافظات خطوة محورية في تراجع المسار الديمقراطي والعودة إلى أقفال الديكتاتورية، وهذا ما سوف أبينه في سياق المقال.
لا أقتنع بالحجة التي تقول بأن إلغاء مجالس المحافظات جاء لتحريك الإعمار والخدمات؛ لأن هذا المبرر لا يكفي والإعمار لم يحدث والخدمات نحو الأسوأ.
يسوق أصحاب نظرية الغاء مجالس المحافظات على أنها حلقة زائدة وبدون فائدة، إنما هي مجرد ترهل وظيفي آخر يجب القضاء عليه، لكن هذه الحجة تسقط لمجرد وضعها على ميزان كشف المخاطر.
الحقيقة التي لا تعترف بها الجهات المروجة لإلغاء مجالس المحافظات أنها دمرت أحد أهم الحواجز التي يفترض بوجودها تأدية وظيفتين أساسيتين:
الأولى: المشاركة في اتخاذ القرارات داخل كل محافظة، من حيث انتخاب وإقالة المحافظ الذي يمثل السلطة الأولى في المحافظة.
الثانية: أداء الوظيفة الرقابية، والتي تشترط قيام أعضاء مجلس المحافظة بمراقبة أداء المحافظ وتقويمه، إن أخفق يتم توجيهه بتصحيح الأخطاء، وإن استمر في أدائه الذي لا يحقق الطموح تُتخذ بحقه قرارات من قبل المجلس.
واقعاً.. لا الوظيفة التشاركية ولا الرقابية مفعلة في مجالس المحافظات السابقة بسبب تدخل زعماء الأحزاب بعمل أعضاء مجالس المحافظات، لكن هل هذا يسمح لنا تعطيل عملها؟ ومن يحق له ذلك؟ ولماذا لا تستطيع القيام بوظيفتها أصلاً؟
لا يوجد نص دستوري يسمح بإلغاء مجالس المحافظات بشكل دائم ولا حتى تعطيلها مؤقتاً، لذلك فإن الوضع الحالي يمثل مخالفة واضحة للدستور العراقي الذي يمثل القانون الأسمى في البلد.
أما من يحق له حل مجالس المحافظات فهو من قام بها فعلاً، إنها بعض الأحزاب التي ترفع راية الخدمة العامة، بينما هي تمارس السلطوية والديكتاتورية بأدق تفاصيلها، فحل مجالس المحافظات لم ياتي لانها كانت عقبة تعرقل عجلة الإعمار، إنما لأنها كانت قوة تعرقل القرارات الديكتاتورية لبعض الزعامات السياسية التي تريد الاستيلاء على أكبر عدد من المحافظات.
عند الغاء مجلس المحافظة يكون من السهل إقالة المحافظ، ومن السهل تعيين محافظ جديد، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، أنه البداية فقط، فالسيطرة على المحافظة بهذه الطريقة تعني سيطرة تشبه سيطرة انظمة الحكم الديكتاتورية.
والمحافظ الجديد الذي تم تعيينه بقرار من حزب سياسي متنفذ سوف ينتظر المحاسبة من هذا الحزب لا من مجلس المحافظة كما في السابق، وسوف يعمل من أجل تحقيق أهداف الحزب.
وكل هذا العمل ينقلنا إلى المرحلة التالية التي تتمثل بتوسيع نطاق السيطرة على جميع مفاصل المحافظة وإغلاقها سياسياً وإدارياً ومالياً بوجه الأحزاب الأخرى، وجعلها عصية على الرقابة والمحاسبة.
أليست هذه مواصفات الحكومة الديكتاتورية التي تخضع لسلطة الحزب الواحد أو الشخص الواحد؟
نعم وهناك ما هو أبعد، فالأحزاب والجماعات السياسية العراقية لا تؤمن بالديمقراطية إيماناً راسخاً إنما تجدها مجرد وسيلة مفروضة عليها من قبل دول خارجية، ومتى أتيحت لها الفرصة للتنازل عن الديمقراطية والعودة إلى الديكتاتورية سوف تعود في أقرب فرصة.
الانتخابات الأخيرة كانت خير دليل على ديكتاتورية الأحزاب والجماعات السياسية العراقية، التي مارس مختلف عمليات الضغط على جماهيرها من أجل انتخاب مرشحيها، كما أن الأحزاب نفسها لا توجد فيها أي ممارسات ديمقراطية.
زعيم الحزب نفسه منذ التأسيس وحتى الموت، وقد تكون زعامته متوارثة من أسرته، أو تحت غطاء أيديولوجي معين أو حماية طائفة دينية أو قومية، لا توجد أحزاب خارج هذا التصنيف وإن وجدت فهي لا تستطيع ممارسة الفعل السياسي.
هذه الأحزاب والجماعات السياسية جميعها هي التي تشن حملات إعلامية منظمة ضد الحكم الديمقراطي وتشكك بجدوى الديمقراطية، وتدعو دائما إلى المركزية وإلغاء المجالس النيابية سواء كانت محلية أو اتحادية، فبعد إلغاء مجالس المحافظات يروجون اليوم إلى إلغاء مجلس النواب، أو على أقل تقدير تحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي.
ونحن نعرف ماذا سيكون بعد الحكم الرئاسي، فكل التجارب السابقة في المجتمعات المتخلفة كيف يتحول الرئيس بسرعة إلى ديكتاتور إذا لم يكن هناك برلمان قوي يحاسبه.
ولو كان هؤلاء حريصين فعلاً على النظام السياسي وعلى تقديم الخدمة للمواطنين، لساهموا في تعزيز أدوار مجالس المحافظات ومجلس النواب وتصحيح الأخطاء التي وقعت فيها، فهي تجربة فتية ومن الطبيعي حصول الأخطاء، لكن أن تتجه الأنظار بسرعة إلى إلغاء التجربة لمجرد وجود بعض الإخفاقات فهذه دلالة على وجود نوايا مسبقة للقضاء على التجربة من أجل تسهيل تدخل الأحزاب، وما حدث بشأن إقالة المحافظين خير شاهد على هذه الحالة.
اضف تعليق