فالطفل يعتمد على فطرته النقية وسلاح البكاء أمام والديه، كذلك حال المؤمن يحتاج في تعامله مع الله عز وجل أن يلجأ إلى سلاح التباكي كي يذيب صديد الذنوب التي تراكمت على فطرته لترجع نقية كما كانت، حينها سيصل إلى حالة من البكاء الحقيقي النابع من إرادته...
يعيش المؤمن مشغولاً بالدنيا طول حياته بحيث لا يلجأ إلى الدعاء والاستغفار إلا في حالات المحن والكرب، وارتبط ذلك بعدة أسباب منها: الغفلة المستديمة، وكثرة الذنوب، والعامل الأهم في قلة استغفار الناس ولجوئهم إلى الله هو التشبث بالدنيا، والانشغال بالأهواء والملذات، والأخذ بالأسباب الطبيعية بحيث يعتقدون أن أمورهم الحياتية تدار برمتها ضمن ضوابطها وقوانينها، غافلين على أن نظم الكون برمته مرتبط بالإرادة الغيبية التي تظهر تجلياتها في الأسباب الطبيعية.
وسيرد البعض بقوله: نحن نؤمن بهذا الأمر ونسلم به، لكن ماهو الدليل على أخذكم بالأسباب الغيبية في أموركم الحياتية؟!! مع لحاظ أن الدين والعقل لا يمنع من الأخذ بالأسباب الطبيعية، لكن الاتكاء عليها دون الاستعانة بالله ليس كافياً، فالطبيب يبذل جهده في علاج المريض لكن يقول: الشفاء مرتبط بإرادة الله عز وجل!!، لذلك تجد حتى الكافر الذي لا يؤمن بالله حينما ييأس من الأسباب الطبيعية يتوجه بفطرته إلى الله عز وجل.
لذلك أكدت الروايات عن النبي وأهل بيته عليهم السلام على أن يكون الارتباط بالله مستمراً سواء في السراء أو الضراء، وليس حين انقطاع الأمل من الأسباب الطبيعية، كما قال الصادق (عليه السلام): "إنّ الدعاء في الرخاء يستخرج الحوائج في البلاء"، وقال: "تعرّف إلى الله عزّ وجلّ في الرخاء يعرفك في الشدّة.
ولعل من أهم المؤشرات على ذلك: انصباب البشر واهتمامهم ولهثهم الدائم فيما يقوم أجسامهم، ونسيان ما يحيي أرواحهم فكان من نتاج ذلك: غفلتهم في الارتباط بالخالق، وحالة عدم اطمئنان بأن الله يحبهم ويقبلهم، ويستجيب دعوتهم، لذلك يقول الله عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، بل إن بعضهم لا يعتقد برحمته بهم!! فلماذا يطرقون بابه؟!! بل يتصور البعض أن الله سيئ في التعامل والخلق مع عباده والعياذ بالله، خاصة إذا كان عاكفاً على المعاصي والذنوب، لذلك عد القنوط من رحمة الله من أشد الكبائر.
لكن، ماذا لو سلكنا سلوك الطفل الصغير الذي يلجأ تارة إلى سلاح التباكي استجداء لعطف والديه كي يسامحاه على خطأ اقترفه، أو من أجل إلفاتهما إليه كي يشعر بأهميته وقيمته، فيغدقان عليه الحنان والاهتمام - حتى من دون سبب أو حاجة يطلبها منهما، وتارة يلجأ إلى سلاح البكاء لحاجة يريدها منهما، لأنه على ثقة تامة أن البكاء المستمر سيرغمهما على الرضوخ لطلبه لمجرد أنه يبكي في حجرهما!!، بل قد يصل الحال في بعض الحالات أن والديه يرغبانه في حاجات لم يطلبها كي يكف عن البكاء!!..
فالطفل يعتمد على فطرته النقية وسلاح البكاء أمام والديه، كذلك حال المؤمن يحتاج في تعامله مع الله عز وجل أن يلجأ إلى سلاح التباكي كي يذيب صديد الذنوب التي تراكمت على فطرته لترجع نقية كما كانت، حينها سيصل إلى حالة من البكاء الحقيقي النابع من إرادته، فيصبح كالطفل الباكي الذي لا يرغب في ترك حضن والديه للحظة لأنه شعر بسعادة القرب من الله، ويثق بأنه سيرحمه ويعطيه حاجات طلبها ولم يطلبها، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام: (يامَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ يامَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّنا مِنْهُ وَرَحْمَةً).
ولعل التبيان الذي يشردنا إلى تلك الحقيقة هي الصياغة الجميلة التي صاغها أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل فقال: (يا مَنْ اسْمُهُ دَوَاءٌ، وَذِكْرُهُ شِفَاءٌ، وَطَاعَتُهُ غِنىً، ارْحَمْ مَنْ رَأْسُ مَالِهِ الرَّجَاءُ، وَسِلاحُهُ الْبُكَاءُ)، فحال لسان المؤمن في هذا المقطع يقول: يا رب إني أتوسل إليك، وأملي فيك أن تغفر لي وترحمني، فإن لم يفيد توسلي ورجائي، فسألجأ إلى سلاحي الوحيد أمامك وهو سلاح الطفل الذي يهدد به والديه، لأنه على يقين بمحبة والديه إليه وباستجابتهما لطلباته!!.
إن محاولة البكاء عند باب الله عز وجل خصوصاً في موضع السجود وموطن الدعاء لها لذة خاصة ونشوة عارمة ليست مرتبطة بعالم الدنيا، كونه السلاح الروحي الذي يفتح أبواب السماوات، ويكسر موانع الدعاء، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآل أنه قال: (طوبى لشخص نظر الله إليه يبكي على ذنب من خشية الله لم يطلع على ذلك الذنب إلا الله).
مع لحاظ أن التباكي والبكاء في حد ذاته ليس كافياً إذا لم يكن لدى المؤمن ثقة أن البكاء يوصله إلى مراده واستجابة دعوته، وهذه الثقة لا تأتي اعتباطاً بل بدرجة المعرفة بالله عز وجل، وبدرجة المعرفة بمحمد وآل محمد ومدى الارتباط بهم صلوات الله عليهم أجمعين، والتوسل بهم إلى الله، وهذا ما أشارت إليه الزيارة الجامعة: (من أرادَ اللهَ بَدَأ بِكُم، وَمَن وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنكُم، وَمَن قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُم، بِكُم فَتَحَ اللهُ وَبكُم يَختِمُ، وَبكُم يُنَزِّلُ الغَيثَ، وَبكُم يُمسِكُ السَّماءَ أن تَقَعَ عَلى الأرضِ إلاّ بِإذنِهِ، وَبكُم يُنَفِّسُ الهَمَّ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ).
ولعل أهم حالة قرب روحي يمكن أن يعيشها المؤمن في عروجه لعالم الملكوت هي الحالة الفردية التي يقبل بها على الله بعينين باكيتين تبين مدى العلقة الصادقة بالإمام الحسين (عليه السلام) حينها يتيقن في استجابة الله لدعائه، وينفس عنه كربته وينوله حاجته.
اضف تعليق