قد لا تكون هناك تظاهرات تشرين ثانية، لكن الشعوب لها اساليبها في الانتقام من الحكام الظلمة، والذين لا يراعون سوى مصالحهم الشخصية والحزبية ويتركون المساكين من أمثال أبو كاطع يتضورون من شدة الفقر والعوز والحرمان، سوف يجدون أنفسهم في أزمة سياسية جديدة لأن عدم اهتمامهم بمصالح الطبقات الدنيا...
كمواطن عراقي لا يفهم النظريات الاقتصادية تعرض أبو كاطع (اسم افتراضي لمواطن عراقي) لصدمة عندما سمع بخبر رفع سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي نهاية عام ٢٠٢٠ وبداية ٢٠٢١.
قبل سنة اشترى أبو كاطع هاتفاً ذكياً يتناسب مع وضعه الاقتصادي المتردي، وهو هاتف مستورد من الخارج لأننا لا نصنع الهواتف الذكية ولا الغبية، لكن هاتف أبو كاطع سقط وتكسر خلال اشتغاله في عمليات التنظيف داخل المدينة، لكونه عامل نظافة.
لا يعرف أبو كاطع استعامل هاتف مختلف، كما أنه لا يملك أي أموال إضافية لشراء هاتف بسعر أعلى، كان هاتفه السابق يباع بـ ١٠٠ دولار، أي ما يعادل 120 ألف دينار عراقي، لكنه وبعد رفع سعر صرف الدولار فإنه مضطر الآن لشرائه بـ١٥٠ الف دينار في أقل تقدير، لماذا؟
لأن الحكومة وبالاتفاق مع القوى السياسية قررت رفع سعر صرف الدولار، والسبب حسب ما بقيت تبرر طوال أكثر من عام هو تحقيق مجموعة أهداف أبرزها:
1. توفير فائض من العملة الأجنبية يدعم الاحتياطي الوطني، ففي نهاية العام الحالي قالت وزارة المالية أن تغير سعر الصرف "أسهم في زيادة الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي العراقي إلى "60 " مليار دولار في شهر نيسان 2021 بعد أن كان "54" مليار دولار في شهر كانون الأول 2020".
وهذا البيان غير دقيق فقد أسهمت الزيادة في الإيرادات النفطية في بعض الزيادة الدولارية، بينما جاء الجزء الآخر من فارق تحويل العملة، وهذا وإن ساهم في زيادة المخزون الدولاري، لكنه انهك موازنة المواطن أبو كاطع الذي لم يشتري هاتفه الجديد حتى الآن، ليس لأنه لا يملك المال فقط، بل لأنه يريد تجميع بعض الأموال بعد انتشار أخبار تفيد بعمليات تسريح للعمال من المعامل والشركات وتوقف أغلب الأعمال ما تسبب بركود السوق وزيادة نسب البطالة.
والهاتف بالنسبة إلى أبو كاطع بات حاجة كمالية، فهو وإن اشتراه لا يستطيع شراء الرصيد لإجراء المكالمات، الذي ارتفع من 5500 دينار الى 6500 دينار.
هذا يعني أن رفع سعر صرف الدولار غير مفيد اقتصادياً ومضر بالسوق المحلي الذي تزعم الحكومة أنها تريد دعمه عبر تخفيض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار.
٢. السيطرة على عمليات تهريب العملة، فقد أعلن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في 11 نيسان 2021 نجاح حكومته في وقف الهدر والفساد في مزاد العملة "سيئ السمعة".
هذا الإعلان الحكومي ردت عليه اللجنة المالية البرلمانية بالنفي، مبينة أن "المزاد الذي يجريه البنك المركزي يومياً فيه فساد كبير"، فالفواتير التي تقدم وأرقام البيع التي تعلن مبالغ بها، وهي أكثر من حاجة البلد، وفيها تبيض للأموال وتهريب للعملة الصعبة لدول الجوار.
٣. تعزيز الصناعة المحلية لأن المواطن سوف يتجه لشراء المنتجات المحلية الأرخص.
لم يتحقق أي من هذه الاهداف، لأن الصناعة المحلية ما تزال تعتمد على استيراد المواد الاولية والمكائن من الخارج ورفع سعر الصرف أدى لزيادة التكاليف وهو ما انعكس على رفع أسعار السلع المنتجة محلياً.
وحدث هذا مع منتجات عدة تصنع محلياً، وأزمة ارتفاع زيت الطعام كانت الأبرز في هذا المسار.
كانت عبوة الزيت (البطل) تباع بـ ١٢٥٠ دينار، أما الآن فتباع بـ٣٠٠ آلاف دينار، لأن هذا الزيت ينتج فعلاً في العراق لكن المواد الاولية المستخدمة تستورد من الخارج التي زادت تكاليفها مع رفع سعر صرف الدولار، ونفس الحال كان مع السكر والمود الغذائية الأساسية الأخرى.
الحقيقة أن إيجابات رفع سعر الصرف كانت تنتشر في الخطاب الحكومي للاستهلاك الإعلامي، لأنه لم يتحقق أي منها، ويمكنك صديقي القارئ النزول إلى أي سوق قريب لتعرف حجم التغيرات السلبية على القوة الشرائية للعراقيين وكيف أربكت جميع حساباتهم المالية.
السبب الأساسي لقرار رفع سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي هو ما اقترحه البنك الدولي على الحكومة العراقية لتجاوز الأزمة المالية، من خلال تخفيض النفقات العامة بنسبة 20%.
ولو كانت الحكومة جادة في تنفيذ هذا المسار لقامت بتخفيض النفقات غير الضرورية، مثل النثريات المليارية على الرئاسات الثلاث، ومراقبة حركة الأموال العراقية في الداخل والخارج، وتخفيض المخصصات المالية الهائلة للمسؤولين والدرجات الخاصة، فضلاً عن فرض تخفيض بسيط في رواتب الصف الأول والثاني من موظفي الدولة الكبار.
كان يمكن لهذه الطريقة معالجة الجزء الأكبر من مشكلة تمويل الموازنة العامة، وحل العجز فيها، لكن الحكومة لم تكن قادرة ولا هي تريد اتخاذ مثل هذا القرار، وارادات توزيع الضرر على جميع المواطنين الذين يشبه حالهم حالة أبو كاطع.
بدلاً من تحمل نسبة بسيطة من موظفي الصف الأول والثاني في الحكومة لتكاليف الأزمة المالية التي تسببوا بها هم أنفسهم، قامت الحكومة بتخفيض الدينار، وهذا خفض القدرة الشرائية لجميع المواطنين بنسبة أكبر من 20%، كيف يحدث ذلك؟
نعود إلى قصة أبو كاطع ومعاناته لشراء الهاتف وزيت الطعام، فقد كان راتبه 250 الف دينار وكان يحتاج إلى انفاق 120 ألف دينار من راتبه لشراء الهاتف الذي كان سعره 100 دولار، أما الآن فهو بحاجة إلى 170 الف دينار لأن الشركات أضافت إلى السعر تكاليف إضافية.
وعامل النظافة هذا سوف يحتاج إلى ثلاثة آلاف دينار لشراء زيت الطعام بعد أن كان يشتريه ب1250 ديناراً فقط، وهو بحاجة إلى 35 ألف دينار لشراء كيس الطحين بعد أن كان يشتريه ب18 ألف دينار.
كل هذا وراتبه باقٍ على حالة بدون أي زيادة تذكر، والحكومة زعمت أنها ستنفق الزيادة في النقد العراقي من رفع سعر الصرف بانفاقها على جانبين، الجانب الأول لتعويض المتضريين من هذه العملية وهم أصحاب الدخول المحدودة وهذا لم يحدث، وفتح مشاريع استثمارية جديدة وهذا لم يحدث أيضاً.
كان القرار قاسياً على الطبقات محدودة الدخل، وأدى إلى ما يمكن تسميته بحافة المجاعة، صحيح أننا لا نعيش في مجاعة حقيقية، لكن نسبة كبيرة من المواطنين من أمثال أبو كاطع قد وقفوا على حافة المجاعة وما يزالون يعانون، والحكومة لا تلتفت إليهم لأنها مستقوية بجهات لا يستطيع أحد أن يناقشها بأبسط القرارات.
قد تظن الجهات المسؤولة عن كارثة رفع سعر صرف الدولار بأنها تفعل الصواب، وأنها قادرة على فرضه كأمر واقع لا يستطيع أحد الاعتراض عليه، لكن ذلك سيشعل الجمر في القلوب ويجعل غالبية المتضررين من القرار ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على هؤلاء المسؤولين.
قد لا تكون هناك تظاهرات تشرين ثانية، لكن الشعوب لها اساليبها في الانتقام من الحكام الظلمة، والذين لا يراعون سوى مصالحهم الشخصية والحزبية ويتركون المساكين من أمثال أبو كاطع يتضورون من شدة الفقر والعوز والحرمان، سوف يجدون أنفسهم في أزمة سياسية جديدة لأن عدم اهتمامهم بمصالح الطبقات الدنيا يجعل من هذه الطبقات وقوداً لأي أزمة في البلاد، وعندها لا يحق لأحد الحديث عن نظرية مؤامرة.
نتمنى أن يخلو عام 2022 من القرارات الشبيهة بقرار رفع سعر صرف الدولار، لأننا لا نحتاج إلى مزيد من المواطنين الذين يقفون على حافة المجاعة.
اضف تعليق