يتوقعون أنهم يستطيعون السيطرة على الأمور بمجرد حل المشكلات فيما بينهم، وهم لا يعلمون أن سبب تخبطهم هو ابتعادهم عن الشارع ولجوئهم إلى أساليب بعيدة عن الواقع، وإذا لم يعالجوا مشكلاتهم مع الشعب فربما تكون تشرين القادمة قاتلة لهم جميعاً وبدون استثناء...
التأمت القوى الشيعية في منزل زعيم تحالف الفتح هادي العامري، بعد تشققات كبيرة أصابت العلاقة بين الأحزاب الشيعية عاش خلالها العراق على حافة الهاوية طوال المدة التالية لإعلان نتائج انتخابات تشرين ٢٠٢١.
قصة الشقاق الشيعي ليست جديدة لكن التطورات الأخيرة الأشد حدثت عندما انسلخ زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر عن الإطار التنسيقي الشيعي معلناً مقاطعة الانتخابات، فخذلته القوى الأخرى وفرحت بمقاطته طمعاً بالاستحواذ على أكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، فهم ليسوا على وفاق مع الصدر، بل أن الصراع هو السمة البارزة لتوصيف علاقة الصدر بالقوى الشيعية المكونة للإطار التنسيقي، وما يجمعهم أقل بكثير مما يفرقهم.
لم تدم قطيعة الصدر السياسية طويلاً فقد تراجع عن قرار الانسحاب وشارك ورفع شعار "إلا 100" ويقصد 100 مقعد برلماني، (قدم 95 مرشحاً فقط) وحدد هدفه بالاستحواذ على رئاسة الوزراء، وكان له من المقاعد البرلمانية 73 مقعداً، بينما أقرب الفائزين إليه من قوى الإطار التنسيقي هو ائتلاف دولة القانون الذي فاز بـ٣٣ مقعداً وبعده تحالف الفتح ب ١٧ مقعداً.
الفارق شاسع بالمقاعد، والخلاف بين التيار والإطار أكبر من المسافة في عدد المقاعد، هناك مساحة من الخلاف وصلت إلى حافة الحرب الأهلية، وكادت الطائرات المسيرة والصواريخ والتظاهرات المعترضة على النتائج، فضلاً عن التصريحات النارية لزعيم التيار الصدري أن تشعل الفتيل بين الأطراف الشيعية.
خطورة الأزمة تكمن في توازن القوى، لا يملك أحد منهما فائض القوة الذي يمكنه من سحق الآخر، فضلاً عن طبيعة التعقيدات السياسية والأمنية والدولية في العراق التي دفعت الطرفين إلى الجلوس على مائدة السيد هادي العامري، بدلاً من الذهاب إلى ميدان القتال والتصارع غير المضمون من حيث النتائج والمدمر للطرفين إن دخلا فيه.
غادر السيد الصدر مقر إقامته في الحنانة للتبرك بوجبة غداء الخميس في منزل السيد هادي العامري زعيم تحالف الفتح، حيث كان بانتظاره زعيم ائتلاف دولة القانون السيد نوري المالكي الخصم الدائم للصدر، والشيخ قيس الخزعلي زعيم عصائب أهل الحق التي انشقت عن التيار الصدري واعتبرها الصدر "مليشيا وقحة"، بالإضافة إلى حضور السيد عمار الحكيم وحيدر العبادي وقوى شيعية أخرى تستظل بمظلة الإطار التنسيقي.
أسس غداء منزل العامري لمفهوم جديد وممارسة قديمة، فقد استبدل مصطلح التوافق بمصطلح جديد اسمه الأغلبية الوطنية الذي خطه السيد مقتدى الصدر في "كصكوصته مكتوبة باليد" التي نشرها عبر تويتر. بقي التوافق نفسه مع تغيير لباسه الخارجي فقط.
لم يتطرق الصدر إلى الكتلة الأكبر، إنه لا يريد إحراج قوى الإطار التنسيقي، ولا يريد فتح جبهة خلاف قانوني، فالكل يعرف عدد مقاعد التيار الصدري، ولا يريدونه أن يذهب للمعارضة لما في ذلك من مشكلات تشل الحكومة المقبلة، ولا يريدونه يسيطر كلياً على حكومة صدرية خالصة، لعدم ثقتهم بقراراتها، لذلك يطمعون في حكومة يشكلها التيار الصدري وبمشاركتهم بالشكل الذي يحقق لهم مساحة أمان كافية تحميهم من أي إجراءات مستقبلية.
في المجمل خرج التيار الصدري والإطار التنسيقي بتوافق على تكسير الحواجز وتقريب المسافات والتصالح على الملفات الخلافية وإعطاء تطمينات متبادلة تضمن لكل منهما تحقيق أهدافه السياسية.
التصالح مع الشعب
الجانب السلبي من هذا الصلح أنه لم يتطرق إلى مشكلة العلاقة المتوترة بين الشعب وهذين التكتلين السياسيين، فالجمهور الشيعي يعيش حالة من عدم الثقة بأحزابه المسيطرة على مراكز القرار والمحتكرة للتمثيل الشيعي في البرلمان والحكومة وجميع الأنشطة المختصة بأبناء شعب الجنوب الشيعي.
ترجم الجمهور الشيعي عدم ثقته في الأحزاب والتيارات المحتكرة لتمثيله بفعاليات مختلفة، من بينها الاحتجاج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والكتابة والنشر في وسائل الإعلام ومواقع الصحف المحلية والعربية والأجنبية، بينما كانت الحركة الاحتجاجية الأكبر في تظاهرات تشرين عام 2019 والتي مثلت نقطة التحول في مسار العلاقة بين الجمهور الشيعي وأحزابه، لا سيما وأنها شهدت وقوف المرجعية مع التظاهرات وضد الأحزاب ما أعطاها زخماً معنوياً وشرعية سياسية.
أما الفعل العقابي الأبرز فتمثل بانتخابات تشرين الأخيرة وكان باتجاهين:
الاتجاه الأول اخذ طريق مقاطعة الانتخابات، فقد امتنع جمهور كبير عن المشاركة في الانتخابات رغبة منه في نزع الشرعية عن الجهات المتحكمة بالقرار الشيعي، وتنبيهاً لها بأنها لا تمثله.
الاتجاه الثاني تمثل بقيام الناخبين بالتصويت للمرشحين الفرديين غير المنتمين للأحزاب التقليدية، لعل هذه الطريقة تسهم في إزاحة الأحزاب التقليدية.
وهذا يعني أن الثقة بالأحزاب الحالية ما تزال مفقودة حتى يوم اجراء الانتخابات، وهي مستمرة حتى لحظة كتابة هذا المقال.
لنأخذ التيار الصدري الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد النيابية، فأصوات ناخبيه لم تتلامس عتبة المليون صوت، أي أن الجمهور الذي انتخبه قليل جداً ولا يتناسب مع العدد الكلي للناخبين الذي يتجاوز 23 مليون ناخب، فهل يستطيع تيار سياسي بهذا الحجم الضئيل ادعاء تمثيل المكون العراقي الأكبر وهم الشيعة؟
وإذا كانت الكتلة الفائزة بهذه الضآلة، فما بالك بالكتل السياسية الأخرى التي لا تملك نصف أصوات جمهور التيار الصدري؟
هذه الأحزاب جميعها، تعيش حالة من الصراع مع الشعب، لأن الشعب لا يثق بها، ولا يريد منها تمثيله، فقد فشلوا طوال السنوات السابقة في إثبات جديتهم في معالجة المشكلات التي يعاني منها المواطن الشيعي.
وحتى مع الاجتماع الشيعي الأخير في منزل السيد هادي العامري، لم نلمس الجدية من هذه القوى الشيعية في مناقشة المشكلات التي يعاني منها المواطن في الوسط والجنوب الذي يحتكرون تمثيله في الحكومة والبرلمان.
حل المشكلات مع المواطن وإعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم غير مدرجة على جدول أعمال هذه الأحزاب، حتى وإن زعمت قيامها بذلك، فممارساتها تثبت ما نتحدث عنه.
يتوقعون أنهم يستطيعون السيطرة على الأمور بمجرد حل المشكلات فيما بينهم، وهم لا يعلمون أن سبب تخبطهم هو ابتعادهم عن الشارع ولجوئهم إلى أساليب بعيدة عن الواقع، وإذا لم يعالجوا مشكلاتهم مع الشعب فربما تكون تشرين القادمة قاتلة لهم جميعاً وبدون استثناء.
اضف تعليق