الطريق الى اصلاح سياسي في العراق لم يعد يمر بالانتخابات ولا بتفعيل قانون الاحزاب، ولا بالاستماع لثلثي الشعب المقاطع والرافض لميكانيكية الاستعراضات الانتخابية، الاصلاح في العراق يمر ابتداء عبر مراجعة شاملة للايديولوجيات الشعبوية وحواملها الحزبية والاعتقاد اطلاقا بصوابية منهجها، فقد ثبت أن ايديولوجياتنا اليسارية واليمينية...
بصرف النظر عن الجدل الفكري بشأن قدرة المجتمعات المسلمة على قبول الديمقراطية منهجا للحكم وادارة الدولة وتداول السلطة، وبتجاوز (مسلمة) عدم ايمان القوى الاسلامية بالديمقراطية، كونها نظاما غربيا للحكم لا يناسب ثقافة وفكر غالبية المسلمين، الذين يعتقدون ان السيادة لله والحاكمية للشريعة والحكم بيد الفقهاء أو من يفوضونه بمفردهم او بمشاركة الامة.
وأنا اتحدث تحديدا عن المسلمين الشيعة، بصرف النظر عن كل هذه الجداليات، التي استغرقت قرنا كاملا ولم تصل الى حلول ناجزة، لكن الجميع اذعن اخيرا ان الملاذ الاخير من الاستبداد، وان الحل الامثل للصراعات العنيفة والناعمة على السلطة، هو ابتلاع طعم الديمقراطية اضطرارا وممارستها ممارسة آلية، بلا روح ومفاهيم، وتثبيتها في الدستور بعناوين كبيرة (انتخابات، تداول سلمي، صندوق اقتراع، احزاب)، كل ذلك جرى في معظم البلدان الاسلامية، التي انفجرت فيها مشكلة السلطة وطريقة تقاسمها واسلوب ادارة الثروة وتوزيعها، والحريات وسبل التمتع بها.
بعض الدول الاسلامية اكتفت بديمقراطية (مقننة جدا) تسبغ الشرعية على السلطات بانتخابات لا تتسم بالحرية الحقيقية ولا تقر بالتعددية المطلوبة، نحن في العراق انفجرت عندنا مشكلة ادارة الدولة وممارسة السلطات بعد زوال حكم الاستبداد (2003) والدخول في مرحلة الديمقراطية الناشئة، لتطيح بالمرحلة الانتقالية قبل ان تتعود الامة على ديمقراطية حزبية بمفاهيم حقيقية غير مشوهة، فلا احزابنا ديمقراطية، بناء وممارسة، ولا التحولات السياسية والاجتماعية تجري بطريقة هادئة ومتدرجة تسمح بتراكم الاعراف والتقاليد الدستورية، ولا الثقافة العامة تم اختراقها بعمل ممنهج يقبل بالديمقراطية، بوصفها منهج ادارة لا يلغي المسلمات والضروريات الاسلامية، التي تشكل عماد ثقافة المسلم، مع وجود خيارات حقيقية اجترحها، بدءا من فقهاء كبار امثال الميرزا النائيني النجفي وانتهاء بالمرجع الاعلى الحالي السيد علي السيستاني .
فقد ظلت الديمقراطية عندنا اداة لبلوغ السلطة، والهيمنة على السياسات العامة، والتحكم بالمجتمع والاغتنام من الثروة، وصح علينا ما كان يتحدث به المفكرون والباحثون والمثقفون بأن ديمقراطيتنا -عوراء - بلا ديمقراطيين مؤمنين بها، ولا احزاب تعمل لها رغم استفادتها منها، ولا جمهور يعي بعمق استحقاقات ومفاهيم واشتراطات العمل تحت سقف نظام سياسي ديمقراطي. ديمقراطيتنا سلم لبلوغ السلطة، ووسيلة لاشهار القوة والنفوذ والحضور السياسي في الفضاء العام، ديمقراطيتنا مهمتها اسباغ الشرعية على قوى حزبية لا تؤمن بتداول السلطة، مستنفرة بالدفاع عن وجودها المهدد، خائفة حقا اوباطلا على مشروعها السياسي ولا تريد مراجعة شعاراتها واهدافها، مضطرة الى اشهار السلاح وتحفيز نزعة العنف لدى جمهورها، لأنها تعتقد بصوابية مشروعها لا على اساس سياسي وانما على اساسي عقائدي ديني خلاصي، ولتسويغ ذلك لايهم إن كان البقاء في السلطة والتشبث بالمواقع وفرض الهيمنة على خيارات الجمهور يمر بالقوة والتجييش الاعلامي والترهيب السياسي .
الطريق الى اصلاح سياسي في العراق لم يعد يمر بالانتخابات ولا بتفعيل قانون الاحزاب، ولا بالاستماع لثلثي الشعب المقاطع والرافض لميكانيكية الاستعراضات الانتخابية، الاصلاح في العراق يمر ابتداء عبر مراجعة شاملة للايديولوجيات الشعبوية وحواملها الحزبية والاعتقاد اطلاقا بصوابية منهجها، فقد ثبت أن ايديولوجياتنا اليسارية واليمينية، القومية والدينية، غير قادرة على استيعاب فكرة الاحتكام الى الجمهور والانصياع لرأي الامة واختياراتها، بل هي ايديولوجيات تسلطية لا تؤمن بحق الناخب في الاختيار، وهذه افكار يعسر على جميع القوى السياسية القومية والعلمانية الشمولية وقوى الاسلام السياسي، الراديكالي والاصلاحي منها، أن تتقبلها وتتفهمها، فمازالت الشمولية والراديكالية تتحكم بالعقل السياسي العراقي وتقوده شعارات الصدام والصراع بوصفها محفزات للعمل والفاعلية.
من حق المراقبين أن يخشوا على العراق من انتخاباته، التي لم تسلم لمرة واحدة من التشكيك والاتهام بالتزوير والتلاعب باصوات الناخبين، ثمة سؤال اساسي، منْ سرق منْ؟ ومن هو المتآمر على الاخر؟ الفائزون أم الخاسرون؟ اذا كان الجميع يريد البقاء في السلطة والهيمنة على القرارات المهمة والسياسات العامة، بفوز ومن دون فوز، باكثرية واقلية، فما قيمة الانتخاب؟، ولاي دعوة تصبح الانتخابات المبكرة مخرجا من أزمة؟
بعبارة أخرى لم تعد الانتخابات وسيلة مجمع عليها لتاسيس شرعية السلطات، ما دام القبول بالانتخاب مشروطا بالفوز، وماعادت الانتخابات تمنع التناحر والصراع في الشارع، ولا سبيل للاستقرار والسلام والتنمية المجتمعية والاقتصادية!، لا سبيل في هذه الحال الا العودة الى تقاسم السلطات عبر التفاهم والحوار والمساومات واحتفاظ الجميع بحق الاعتراض الحاسم على الجميع، وهو ما سيرسخ المحاصصة ويغل ايدي سلطات التشريع والتنفيذ ويعطل الحلول، ابحثوا عن سبل التنازل المتبادل وفق صيغة (رابح، رابح) حفاظا على ما تبقى من امن المجتمع وسلامة الحياة العامة، ولنستعد لأزمات مارثون تشكيل السلطات وترسيم الحكومة.
اضف تعليق