كل ما يجري في ومع قطاع غزة من حروب وحصار وتعدد الأجندة والرهانات الخارجية على القطاع ليس بهدف القضاء على فصائل المقاومة وليس حباً بأهل غزة بل لإبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس ولتدمير المشروع الوطني وتكييف حل الدولتين لتقتصر الدولة الفلسطينية الموعودة على قطاع غزة...
كل ما يجري في ومع قطاع غزة من حروب وحصار وتعدد الأجندة والرهانات الخارجية على القطاع ليس بهدف القضاء على فصائل المقاومة وليس حباً بأهل غزة بل لإبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس ولتدمير المشروع الوطني وتكييف حل الدولتين لتقتصر الدولة الفلسطينية الموعودة على قطاع غزة، وما يلفت الانتباه هنا، وهو الأمر الخطير، أن هذا الاهتمام وهذه التجاذبات والتدخلات والرهانات الخارجية تقتصر على قطاع غزة دون الضفة والقدس وكأن هناك استسلاما بأن أمر الضفة والقدس أصبح محسوما لصالح إسرائيل.
لتنفيذ هذا الهدف يتم الاشتغال إسرائيليا وبمشاركة أطراف أخرى على مسارين:
1- محاولة توظيف حركة حماس وفصائل المقاومة وحالة الفقر والجوع التي تم اصطناعها في القطاع لخدمة هذا الهدف، بوعي من فصائل المقاومة أو بدون وعي.
2- إضعاف السلطة الوطنية وإفشال مسار التسوية السياسية لتصبح سلطة غزة هي البديل، وليصبح قطاع غزة (دولة) حل الدولتين.
لقطاع عزة وضع جيوسياسي ملتبس ومعقد ويعيش مشاكل غير مسبوقة حيث يقف على مفترق طريق رباعي الاتجاهات: إسرائيل، مصر، السلطة الفلسطينية، وحلفاء حماس في الخارج -قطر وتركيا والإخوان المسلمين-. وهكذا فإن حال حركة حماس الحاكمة في غزة شبيه بحال الذي يريد أن يسير في الاتجاهات الأربعة في نفس الوقت أو يوفق بين أطرافها وهي عملية شبه مستحيلة لتعارض مصالح هذه الأطراف واختلاف سياساتها ورهاناتها على القطاع، وهو الأمر الذي يفاقم الوضع في قطاع غزة ويفاقم أزمة النظام السياسي الفلسطيني بشكل عام حيث مستقبل الدولة الفلسطينية وخيار حل الدولتين أصبح اليوم مرتبطا بما يجري في القطاع وبخيارات حماس الاستراتيجية وموقف مصر تحديدا من حركة حماس.
حركة حماس غير قادرة وأحياناً غير راغبة على إغلاق أ ي من هذه الطرق أو الاستغناء عن أي طرف من هذه الأطراف ولهذا يتعرض قطاع غزة لكل المصائب والويلات والحروب ويتعرض لهذا الكم الهائل من التدخلات الخارجية لدرجة يمكن معها الجزم بأن القطاع أصبح أسيراً للخارج وتوازناته ومصالحه، حتى المقاومة تحولت لورقة توظفها أغلب هذه الأطراف لصالحها ولم تعد أداة لتحرير فلسطين كما يجب أن تكون.
فبالنسبة لإسرائيل فهي ما زالت تتحكم بالقطاع وبالسيادة عليه من خلال تحكمها بالمعابر والحدود والأمن العام ولا شيء يمكنه الدخول إلى القطاع رسميا إلا من خلال إسرائيل وبموافقتها مع تركها أمر إدارة شؤون الناس لحركة حماس، وحيث إن إسرائيل هي التي صنعت الانقسام والفصل ما بين غزة والضفة من خلال خطة الفصل الاستراتيجية والتي نفذها شارون خريف 2005 وبما أن استمرار الانقسام مرهون باستمرار سيطرة حماس على القطاع فإن إسرائيل مهتمة باستمرار تدفق البضائع والأموال إلى القطاع في حدود معينة حتى لا ينهار حكم حماس ليس حباً بحماس بطبيعة الحال ولكن لضمان استمرار الانقسام، وقد رأينا كيف أن الأموال القطرية تدخل للقطاع عن طريق إسرائيل، وحتى حالة الحصار والحروب المتكررة بين الطرفين كلها جزء من مخطط إدامة الانقسام واستمرار سيطرة حركة حماس على القطاع.
وبالنسبة لمصر فبالإضافة إلى الروابط التاريخية والاجتماعية والعائلية والتجاور الجغرافي فإن قطاع غزة كان تحت حكم إداري مصري عندما احتلته إسرائيل في حرب حزيران 1967 كما أن مصر تتحكم بالمنفذ الخارجي الوحيد –معبر رفح- تجاه مصر والعالم الخارجي والذي لا يخضع بشكل مباشر للسيطرة الإسرائيلية مما يسمح لقادة وعناصر حركة حماس بالسفر للخارج، ومع ذلك فمصر تأخذ بعين الاعتبار المتطلبات الأمنية الإسرائيلية كما أن مصر تمد قطاع غزة بجزء من احتياجاته الاقتصادية من خلال علاقة تجارية غير متكافئة لصالح مصر ولا تخضع هذه العلاقات التجارية لرقابة السلطة الفلسطينية وحركة حماس هي المستفيدة من عوائدها، أيضا فإن تعامل مصر مع القطاع وحركة حماس لا ينطلق من إرادة مصرية خالصة، والكل يعلم حالة العداء بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين التي تنتمي لها حركة حماس، بل إن جزءا من العلاقة الملتبسة بين الطرفين يرجع لأن مصر تعرف بمخطط الفصل ولا ترغب ولا تستطيع الدخول في مواجهة مع تل أبيب وواشنطن لإنهاء حالة الانقسام الفلسطينية وهي تعلم أن هاتين الدولتين تدعمان عملية الفصل ومعنيتان ببقائه، أيضا فإن وضع السلطة الوطنية وبعض ممارساتها تجاه غزة والعلاقات الباردة بين السلطة ومصر كل ذلك لا يساعد مصر في أي مسعى جاد لإنهاء الانقسام او الدخول في مواجهة مع حركة حماس.
أما علاقة قطاع غزة بالسلطة الفلسطينية فهي أكثر التباسا وتعقيدا، فمن الناحية النظرية والقانونية والتاريخية يُفترض ان يكون قطاع غزة جزءا من أراضي السلطة الفلسطينية والدولة المنشودة ويخضع للقانون الأساسي الفلسطيني وللحكومة الفلسطينية، إلا أنه عمليا خارج سيطرة السلطة منذ سيطرة حماس عليه في يوليو 2007 كما تواصل حركة حماس اصدار قوانين وتشريعات وأنظمة خاصة بالقطاع حتى وإن تعارضت مع القانون الأساسي الفلسطيني، فالأمن والاقتصاد خاضعين كليا لحركة حماس. ولكن وفي نفس الوقت لا تقطع السلطة علاقتها مع قطاع غزة وتكرر دوما وعلى لسان قادتها ورئيسها أن قطاع غزة جزء من الدولة الفلسطينية وأنه لا دولة بدون قطاع غزة، ولذلك تستمر السلطة في دفع أجور الموظفين في القطاعين الصحي والتعليمي كما تدفع مرتبات موظفيها السابقين سواء من هم على رأس عملهم أو تقاعدوا، كما تقدم مساعدات للعوائل المحتاجة من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية وتغطي نفقات العلاج في الخارج وتُصدر جوازات السفر وتنفذ مشاريع تنموية مباشرة او من خلال جهات أجنبية مانحة، وبالتالي فإن حركة حماس وبالرغم من العداء السياسي مع السلطة والرئيس ووجودها خارج منظمة التحرير ما كانت تستطيع الاستمرار في السيطرة على القطاع بدون ما تقدمه السلطة من خدمات، كما أن حركة حماس ما زالت بحاجة لغطاء السلطة ولو نظريا في المدى القريب حتى لا يتم اتهامها بأنها تريد كيان منفصل في قطاع غزة وحتى تحافظ على خطابها بأنها تملك شرعية تمتد لكل مناطق السلطة من خلال فوزها في انتخابات يناير 2006.
أما الطريق الرابع أو الطرف الرابع فهو جماعة الإخوان المسلمين فهذه الجماعة هي التي كانت وراء تأسيس حركة حماس بداية قبل قيام السلطة الوطنية كمشروع إسلامي في مواجهة المشروع الوطني الذي تمثله منظمة التحرير، ومن خلال تمويلها وإعلامها وأدواتها التنفيذية الفاعلة وخصوصا قطر وتركيا بات هذا المحور الإسلامي صاحب القرار الرئيسي في الخيارات الاستراتيجية لحركة حماس وكان له دور فاعل في ديمومة الانقسام، كما أن العلاقة بين حركة حماس وهذا المحور تخضع لبراغماتية كبيرة، فعندما تتأزم حركة حماس داخليا تصرح بما يوحي ويفيد بأنها حركة وطنية فلسطينية مستقلة وتُعظَّم من خطاب المصالحة وإنهاء الانقسام، وعندما تكون في وضع مريح تُعيد التأكيد بأنها جزء اصيل من جماعة الإخوان وتؤكد على العلاقات الاستراتيجية بينها وبين هذا المحور بالإضافة إلى إيران، كما أن علاقة حركة حماس وقطاع غزة بهذا المحور تتأثر بعلاقة دول هذا الأخير بمصر وإسرائيل وامريكا.
بالإضافة إلى هذه الأطراف الرئيسة والفاعلة فإن أطرافا أخرى تلعب دورا أقل أهمية وتأثيرا مثل الاتحاد الأوروبي والعالمين العربي والإسلامي، بالنسبة للأوروبيين فإن موقفهم حتى الآن تابع للموقف الأمريكي ويكتفون بتقديم الدعم المالي المشروط مع وجود بعض الاختلاف بين دول الاتحاد في علاقتها مع حركة حماس حيث بعض هذه الدول تبدي ليونة في التعامل مع حماس ومع جماعة الإخوان المسلمين بشكل عام وأخرى تحدد موقفها بما يتوافق مع المصالح والرؤية الإسرائيلية، ونفس الأمر بالنسبة لعلاقة الدول الإسلامية والعربية حيث لا يوجد موقف موحد وتختلف علاقتها مع حماس وغزة حسب مصالحها وعلاقتها مع إسرائيل وواشنطن، وإن كانت بعض هذه الدول، وخصوصا الخليجية، ما زالت تصنف حركة حماس كحركة إرهابية فإن أخرى تعترف بحماس وتسمح لها بوجود سياسي وبممثلين لها في عواصمها. وبشكل عام نعتقد أنه كلما تقدم الزمن دون تحريك عملية التسوية السياسية وبروز أمل بقيام الدولة الفلسطينية المنشودة فإن الأمور ستذهب لصالح مزيد من اعتراف هذه الدول بحركة حماس كسلطة أمر واقع في قطاع غزة.
بالرغم من كل ذلك ومع ان المقاربة السابقة تُحمل حركة حماس وحلفائها قدراً كبيرا من المسؤولية عما آل إليه الوضع في قطاع غزة والوضع الفلسطيني بشكل عام إلا أن كل هذا المسار المأساوي ما كان ليكون لو نجح مسار المفاوضات والتسوية السياسية ورهان السلطة عليهما وقامت الدولة الفلسطينية الموعودة.
فشل مسار التسوية السياسية وأزمة المشروع الوطني فتح المجال للآخرين ليشطوا في طرح حلول وبدائل أكثر عبثية من برنامج منظمة التحرير، حيث نلاحظ انه كلما تأزمت التسوية السياسية وفشل رهان السلطة عليها وعلى حل الدولتين كلما تعزز الانقسام وتكرست سلطة حركة حماس في غزة وكسبت حماس مزيدا من المؤيدين والأنصار داخليا وخارجيا، كما أن فشل استنهاض وتطوير منظمة التحرير حتى بتركيبتها التاريخية القديمة وعدم تصويب وضع حركة فتح وضعف السلطة كل ذلك يعزز من مشروع حماس وسلطتها ويمنح مبررا لأطراف عربية ودولية للتعامل مع حركة حماس باعتبارها سلطة أمر واقع يمكن التعامل معها لحل مشاكل القطاع، وبعض الدول تنظر لسلطة حماس باعتبارها السلطة الفلسطينية الوحيدة القابلة للاستمرارية والتي تتوافق مع الرؤية الإسرائيلية والأمريكية لتسوية سياسية قادمة تحصر الدولة الفلسطينية الموعودة بقطاع غزة بحدوده الحالية او الموسعة تجاه سيناء.
يمكن القول بأن مستقبل قطاع غزة بل ومستقبل المشروع الوطني وحل الدولتين أصبح وبدرجة كبيرة وفي المدى المنظور رهين العلاقة المستقبلية بين حركة حماس ومصر أكثر مما هو رهين مسار المفاوضات والتسوية السياسية بين منظمة التحرير والإسرائيليين أو قرارات الشرعية الدولية، حيث لا يبدو في الأفق أية إمكانية لأن يؤدي هذا المسار لأي انسحاب إسرائيلي من الضفة أو تسوية سياسية مشرفة، والغريب في الأمر أن القيادة الفلسطينية تصر على حل الدولتين ومسار المفاوضات والتسوية السياسية في الوقت الذي تعترف فيه وعلى لسان الرئيس أبو مازن أن إسرائيل ومن خلال مشاريعها الاستيطانية المتواصلة لم تترك أرضا حتى تُقام عليها الدولة الموعودة !!!.
وأخيراً فإن تاريخ البشرية والعلاقات الدولية وكما يؤكد الواقع المعاش في عالم اليوم يقول بأن الوقائع التي تفرضها موازين القوى وتوافق المصالح على الأرض أقوى من كل الاتفاقات ومن قرارات الشرعية الدولية، والذين يستمرون بالمراهنة فقط على الشرعية الدولية وقراراتها وعلى حسن نوايا الخصم حالهم كحال من يراهن على سراب، ومستقبل قطاع غزة ومجريات الأحداث فيه، كما هو الحال لكل القضية الوطنية، لم يعد خاضعا لأي اتفاقات تسوية او قرارات الشرعية الدولية بل وخارج القانون الأساسي الفلسطيني والقوانين الناظمة لعمل السلطة الفلسطينية.
اضف تعليق