يشكل الريع بكل عائداته المالية الكبيرة وسهولة الحصول عليها خطراً اخذ يهدد كيانها السياسي ووحدتها الاجتماعية وبدلاً من أن يكون نعمة أصبح نقمة عليها. وبالأخص الريع النفطي حالة مرضية مزمنة على أن يكون علاج لمشكلاتها التنموية، فالنمو الكبير في عائدات النفط لا نجد له انعكاس واضح...

تعد الكتابة عن الدولة الريعية بكل إشكالياتها المختلفة والمتعددة وبكل جوانبها الايجابية والسلبية من مجالات البحث العلمي المهمة، وبالأخص في الدول التي أخذت توصف بالدول الريعية، حيث يشكل الريع بكل عائداته المالية الكبيرة وسهولة الحصول عليها خطراً اخذ يهدد كيانها السياسي ووحدتها الاجتماعية وبدلاً من أن يكون نعمة أصبح نقمة عليها وجعلها تعيش ما يوصف بالمرض الهولندي أو المتلازمة الهولندية.

ليشكل الريع وبالأخص الريع النفطي حالة مرضية مزمنة على أن يكون علاج لمشكلاتها التنموية، لتشهد الكثير من تلك البلدان تراجع كبير في مؤشرات التنمية العالمية، فالنمو الكبير في عائدات النفط لا نجد له انعكاس واضح في عملية التنمية والتحديث الشاملة في البلد ولأهمية الموضوع سوف تعالج الورقة ثلاث إشكاليات متلازمة للدولة الريعية وهي كل من: إشكالية التنمية وإشكالية الحداثة وإشكالية الفساد، أما الإشكاليات الأخرى فهي متعددة لا مجال لتناولها في هذه الورقة.

أولاً: إشكالية التنمية: الجمود والانسداد

لا يمكن لأي دولة الخروج من حالة التخلف العام وما تحمله من جمود وانسداد شامل دون وضع خطة تنموية شاملة تساهم في وضع الأسس والقواعد الثابتة للبناء العام في البلاد والدفع به بقوة نحو بناء مجتمع متطور قادر على الإبداع والابتكار معتمد على ذاته في إدارة شؤونه العامة، وإذا كانت التنمية كمفهوم وعملية تصف حالة مقابلة للتخلف نجدها أخذت تتطور بفعل التطور العالمي الكبير في مختلف جوانب الحياة، فبعد أن كانت التنمية ينظر لها في بعدها الاقتصادي فقط توسعت لتكون تنمية شاملة تشمل مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والنفسية ..الخ.

وبعد أن كانت التنمية تركز على البعد الكمي والمادي في الحياة أخذت تشمل الجوانب النوعية وغير المادية وبالأخص الجوانب المعرفية والإبداعية، لذلك برز لدينا مفهوم التنمية الشاملة والتنمية البشرية، فضلاً عن ذلك لم تعد التنمية تركز على مرحلة زمنية محددة وإنما أصبح التحدي هو كيفية بناء تنمية مستدامة تكون قاعدة ترتكز عليها عملية التقدم في البلاد، هذا التطور في مفهوم التنمية فرض تحديات على الدول وبالأخص على الدولة الريعية التي وقفت عند المفهوم الضيق للتنمية وهو التنمية الاقتصادية الاستهلاكية، دون أن تعمل على بناء قاعدة اقتصادية إنتاجية تساهم في تنويع مصادر الدخل القومي لديها.

وبدلاً من أن يكون الريع النفطي من خلال ما يوفره من عائدات مالية كبيرة عنصر داعم لعملية التنمية فيها، شكّل عنصر ضعف لعمليته التنموية، حيث اكتفت تلك البلدان بعملية تنموية شكلية دون العمل على تعميق الفعل التنموي بنيوياً ودون الانتقال بالتنمية من المفهوم الاقتصادي الضيق إلى المفهوم الواسع واكتفت في تنمية الجوانب المادية وأهملت الجوانب المعرفية والابتكارية، ولم تعمد إلى جعل التنمية عملية مستدامة تساهم في ضمان مستقبل الأجيال القادمة وتحقيق الأمن والاستقرار فيها، وإذا ألقينا نظرة على أثر الريع النفطي في تراجع التنمية وضعفها سوف نجد ذلك الأثر واضح في الكثير من البلدان الريعية، ولعل العراق في مقدمتها حيث لا يزال الريع النفطي يستخدم في مجالات اقتصادية استهلاكية ولا يساهم في بناء بنية تحتية تكون رافعة لإحداث تنمية شاملة -بشرية- مستدامة.

ثانياً: إشكالية الحداثة: غياب الروح وحضور الجسد

شكلت الحداثة تحدي مهم للدول النامية ومنها الدول الريعية، فالانتقال بالمجتمعات من حالتها التقليدية نحو بناء دولة ومجتمع حداثوي -قادر على النهوض بالواقع المأزوم الذي تعيشه تلك الدول في مختلف مجالاتها الحياتية- شكّل تحدي كبير لها، ويرجع ذلك إلى الفهم غير الدقيق والضيق للحداثة فبدلاً من أن تكون الحداثة مشروع يعمل على تفكيك البنى التقليدية المتعارضة مع مفهوم الدولة الحديثة مثل القبيلة والدين بمفهومة الضيق السلفي للحياة والطائفية والانتماءات الجهوية نجد الأنظمة الحاكمة عمدت على تكريس تلك البنى في بنية الدولة وجعلها من أدواتها في التأسيس لشرعيتها في الحكم وممارسة الإقصاء والتهميش تجاه الآخر.

وبدلاً من عقلنة الدولة وأتمتتها بعيداً عن شبكات المحسوبية والزبائنية سارت بالاتجاه المعاكس في اعتماد التخادم القائم على المحسوبية والزبائنية في إدارة البلاد وتوظيف فوائض الريع النفطي التي تجعلها صاحبة الثروة وبيدها أدوات القمع وشراء الذمم فضلاً عن مساومة شعوبها في تقديم رشوة اقتصادية من خلال التوسع في الوظيفة العامة ليكون أعداد الموظفين متضخم في البلدان الريعية مع تقديم بعض الخدمات في قطاعات الصحة والتعليم ليكون الانجاز الحداثوي في البعض منها قد يصل إلى الصفر كما في العراق.

هذا مع احتكار الدولة لكثير من المفاصل الاقتصادية وفرض رأسمالية الدولة التي تمول مشاريعها من خلال فوائض الريع الكبيرة والتي تكون في أغلبها مشاريع استهلاكية لتعيش تلك البلدان نوع من التحديث المادي في حين تغيب فيها الحداثة بمشروعها الشامل الذي يضمن عقلنة وتنظيم الحياة وبناء مدنية راسخة تساهم في تعزيز روح المواطنة وتتجاوز الانتماءات الضيقة بمختلف أشكالها، لتشكل الحداثة الروح في جسد الدولة والمجتمع.

ثالثاً: إشكالية الفساد: العنف البنيوي وغياب السلام

يعد الفساد من الإشكاليات البنيوية الملازمة لبنية الدولة الريعية، حيث تقع أغلب الدول الريعية في مستويات متدنية في مؤشرات الفساد في العالم، حيث أحتل العراق المرتبة (162) في مؤشر الفساد العالمي للعام 2020، ويلعب التحالف الخفي بين السلطات الحاكمة والرأسمالية الطفيلية دوراً خطير في السيطرة على الجزء الأكبر من الفوائض المالية الريعية على حساب أغلبية الشعب لتتحول تلك الدول إلى دول تعاني من مظاهر العنف البنيوي الخفي وليكون الانجاز فيها مع تعاظم الموارد في أدنى مستوياته وتصبح الدول الريعية تحت رحمة أسعار النفط.

فمع أي انخفاض في الأسعار تجد نفسها عاجزة عن تلبية متطلبات المجتمع ومن ثمة تجد شرعيتها الريعية في خطر لتجد نفسها أمام خيار لا ثاني له وهو اللجوء إلى وسائل القمع المختلفة لمواجهة الحركات الاحتجاجية المطلبية وخير مثل على ذلك حركة تشرين الاحتجاجية في العراق، حيث أسهم انخفاض أسعار النفط في عجز الحكومة على الاستجابة للكثير من حاجات ومطالب الشعب ليكون العنف الوسيلة الحاضرة في التعامل مع تلك الحركات الاحتجاجية، فضلاً عن ترحيل العديد من المشاكل البنيوية التي تنخر في جسد الدولة، لتجد موازنة العام 2021 نفسها أمام مشاكل عديدة تم ترحيلها من السنوات السابقة ولعل أبرزها العنف البنيوي وغياب السلام الذي كان للفساد اليد الطولى في حدوثه".

* ورقة مقدمة الى الملتقى الشهري الذي عقده مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية حول إشكاليات الدولة الريعية
مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2021Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق