بعض الناس قد يكونون صادقين في كلامهم ولا يكذبون لكنهم عاجزون عن إدراك الواقع وفهمه، هو صادق لكن يقع في المشكلات والأزمات ويعيد تكرارها والسبب في ذلك هو التعامل السطحي مع الأمور وعدم توفير أسباب التوفيق لأنهم لا يسيرون في طريق الأسباب والمسببات، فإدراك الواقع لايكفي أن يكون صادقا...
(يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
التوبة: 119
الصدق من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها المنهج الأخلاقي وعنصر رئيسي في هذا المنهج فالأخلاق تقوم بالصدق، وكذلك الإنسان الصادق يقوم بالأخلاق وتقوم أخلاقه بالصدق بل أن الصدق هو تعبير عن كل القيم الأخلاقية من حيث المبدأ ومن حيث النتيجة فإذا أحرز الإنسان تمام الصدق من الكلام إلى السلوك إلى التفكر والتعقل والتدبر والتأمل فإنه قد أحرز كل القيم الخيرة في نفسه..
والصدق من حيث النتيجة يعني فهم الطرق التي تؤدي إلى إدراك الواقع، فالواقع هو الذي يجعلنا نعيش بسعادة وحقيقة وادراك ماهو طيب حقيقة في هذه الدنيا، والواقع هو الوجود الحقيقي في هذا المكان وهذه الدنيا لذلك نلاحظ إن هناك فرق بين الدنيا من حيث المادة والدنيا من حيث المعنى، فالواقع هو التكامل الذي ينشأ بين المادة والمعنى، لذا نلاحظ بعض الناس يعيشون حياة مادية مرفهة جداً ولكن في نفس الوقت يعيشون في شقاء، وكلما يحاولون الوصول إلى حياة سعيدة خيرة تراهم يبتعدون، لأنهم تمحضوا في العيش المادي وحب الدنيا وفي الحديث (حب الدنيا رأس كل خطيئة) ولكن في الدنيا هناك أشياء جيدة، هناك السعادة والخير، والصلاح، وهذا هو الواقع الحقيقي الذي يتم ادراكه من خلال التفكر والتعقل والتدبر حتى يكون قادراً على الوصول إلى النعم الحقيقية في الدنيا.
ولتوضيح هذا المعنى نرجع إلى الآية القرآنية (ياأيها اللذين آمنو إتقوا الله وكونوا مع الصادقين) الإيمان والتقوى هو في الدنيا، و(الصادقين) هي النتيجة التي توصل الى ربح الدنيا وبالتالي ربح الآخرة.
فالإنسان لكي يصل إلى الواقع الذي يعني الغاية والنتيجة النهائية لابد أن يكون مؤمنا ولايكفي الإيمان بل لابد أن يكون متقياً ويسير في طريق التقوى ويحرز ملكة التقوى، وملكة التقوى تحرز من خلال الورع عن محارم الله يمارسها الإنسان للوصول إلى ملكة التقوى، ومع التقوى يسير الإنسان في طريق فهم الواقع وإدراكه، لكي يكون في النهاية صادقاً في الدنيا وفي الآخرة.
بعض الناس قد يكونون صادقين في كلامهم ولا يكذبون لكنهم عاجزون عن إدراك الواقع وفهمه، هو صادق لكن يقع في المشكلات والأزمات ويعيد تكرارها والسبب في ذلك هو التعامل السطحي مع الأمور وعدم توفير أسباب التوفيق لأنهم لا يسيرون في طريق الأسباب والمسببات، فإدراك الواقع لايكفي أن يكون صادقا في كلامه، بل لابد أن يكون صادقاً من خلال العمل بالأسباب والمسببات، ومن خلال التدبر والتفكر والتعمق، وفي الحديث عن الإمام علي عليه السلام يقول (فلما رآنا الله صدقاً صبرًا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر).
الصدق هنا يعني توفير الأسباب والمسببات فيحصل على التوفيق والنجاح والنصر.
فالصدق هو الواقع فكيف نصل الى إدراك الواقع وفهم الطرق التي تؤدي اليه؟
أولاً: نبذ العنف المطلق
نبد العنف المطلق للوصول الى إدراك الواقع هو من الطرق التي تؤدي بنا إلى إدراك الواقع، فالمشكلة في العنف أنه يؤدي إلى تدمير الذات وتدمير الذات الأخرى، مما يؤدي إلى استنبات مختلف الرذائل الأخلاقية مثل الخوف والحسد والطمع، ويتلوث المجتمع بسبب العنف وظهور هذه الرذائل، لأن العنف بحد ذاته هو منتج للمفاسد، فيتفطر المجتمع ويتصارع بسبب الهشاشة التي يرسخها العنف، فيتحول الى كذب ضد الواقع وصناعة الواقع المزيف. فالعنف يؤدي الى الخوف والخوف يؤدي الى الكذب ويؤدي الى النفاق، لذا ترى هذا الانسان الذي يمارس العنف والمجتمعات التي يستوطن العنف بها تعيش مهزوزة متخلفة هشة غير مستقرة.
وفي المقابل فإن التربية على اللاعنف مطلقا يقود الى بناء انسان مستقيم قوي النفس غير معطوب ذاتيا وبالتالي يؤدي الى وجود مجتمع مسؤول مسالم.
والبعض يتصور إن العنف من أنواع القوة المنتصرة، ولكن القوة الحقيقية ليست بالعنف بل بالصدق والسلام واللاعنف والعفو وكظم الغيظ والحلم، هذه عناصر كلها تمثل معنى القوة المؤثرة في العمق ايجابيا، فالعنف هو الضعف بحد ذاته، وضعف الإنسان في قدرته على معالجة الأمور وادارتها بشكل جيد لجهله وتقصيره وكسله وانانيته وسيطرة غرائزه عليه.
لأن العنف في النتيجة يؤدي الى تخزين كل أنواع الغضب والكراهية والصراعات والى حروب أهلية داخلية، وإلى نزاعات في داخل الأسرة.
والعنف هو طريق للاستبداد ولتدمير الأمة. فالمستبد يمارس العنف حتى يسيطر على الأمة، ويسيطر على السلطة ويبقى ينشر العنف بين الناس حتى يكونوا متشطرين ومتصارعين ومشتتين والغضب والكراهية تسيطر عليهم.
فالانسان عنده عقل لذلك عندما يفرض عليه بعنف يرفضه عقله ولكنه يقبله اكراها بسبب الخوف، وتسلب ارادته واختياره وحريته وتجعله انسانا مستعبدا وهذا هو أم المصائب التي نعيشها في بلداننا.
ان الإنسان الصادق الصالح الناجح المؤمن المتقي هو لاعنيف، ينبذ العنف ويعتبر الطريق نحو التربية الناجعة وبناء المجتمع الصالح وبناء التقدم في الأمة عبر اللاعنف، فالتربية على اللاعنف في الاسرة والمنزل والمجتمع يقود الى بناء انسان مستقيم قوي غير معطوب ذاتيا وبالتالي يؤدي الى وجود مجتمع مسؤول ومسالم.
ثانيا: سعة الصدر على الرأي الآخر وتقبل النقد
الشرط الثاني من الطرق التي تؤدي إلى فهم الواقع هو الصبر على الآخرين وسعة الصدر على الرأي الأخر وتقبل النقد، فهذه الطرق تؤدي الى تراكم القدرة عند الإنسان على الفهم والوصول الى إدراك الواقع، وكذلك عدم العمل بهذه الشروط سوف يؤدي الى أحادية الرأي والوقوع في الأخطاء وتغول نرجسية الذات لتصبح الآراء الذاتية أوهام يخترقها الخيال الذاتي فيحولها إلى حقائق هي كاذبة، لكن الآراء الذاتية تضخم فيه هذه النرجسية ويؤدي إلى أن أفكاره الموهومة يعتبرها حقائق لا يقبل النقاش بها. والمشكلة ان البعض يرفض النقد ويزعل منه ويستبد برأيه وهذا يؤدي الى تراكم الأخطاء والانحرافات.
الحقائق الأصلية الواقعية هي التي يمكن أن تأتي من خلال التداول الفكري والحوار الموضوعي مع الآخرين والإصغاء إلى الآخرين والانصات إليهم بفهم وتأمل، وهذا التداول الفكري مع الآخرين والحوار المنفتح سوف يؤدي إلى أن الإنسان يتمحص ويتفحص الآراء ومن خلال التداول يمكن له ان يصل الى فهم الواقع، يقول الإمام علي (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).
فلابد للإنسان أن يكون صدره واسعا للاستماع الى الرأي الآخر الناقد، لأن النقد هو محاسبة للنفس من نوع آخر، فمحاسبة النفس واجبة على الانسان وافضل المحاسبة هو أن يحاسب نفسه من خلال الآخرين وتقبل نقدهم، فان كان النقد صحيحا فإنه مفيد للإنسان وهو نوع من تراكم الخير وتراكم المعرفة عنده، وإن كان غير صحيح فهذا يدل على سلوك عظيم نبيل عند الإنسان في التعامل مع الآخرين فلايكون منغلقا على ذاته يرفض النقد ويكون حساسا، ومشكلة الحساسية هي أنه أي شخص ينتقد الآخر يعتبر هذا نوعا من الاستهداف الذاتي والهجوم على شخصيته وجرحها، وهذا من الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها الإنسان في عدم تقبل النقد وبالتالي لايتجرأ الآخرون على التكلم والتحاور معه لأنهم يرونه غير متقبل للنقد فيبقى على خيالاته ويعتبر الأفكار التي عنده هي حقائق، وبالنتيجة تراكم الأخطاء وصناعة واقع مزيف، وكثير من الناس نراهم يعيشون في واقع مزيف لأنهم لايتحملون الرأي الأخر ولايتقبلون النقد.
ثالثا: الزهد
أحد العناصر الأساسية التي يمكن من خلالها فهم وإدراك الواقع، هو الزهد والعيش في عالم المعاني لإدراك جوهر الحياة وفلسفتها وعدم الاستغراق في عالم وخدائع عالم المظهر.
المشكلة تكمن في ان كثير من الناس يتصور إنه يعيش سعيدا من خلال البيت الكبير والسيارة المرفهة والأكل اللذيذ وارتياد المطاعم وامتلاك الأشياء، وأنه يعيش بسعادة اذا امتلك المال والأشياء، هذا واقع مزيف يصنعه الذهن الموهوم، وعندما يحصل على كل الاشياء يصاب بالاكتئاب لذلك الفراغ الكبير في داخله.
ازمة عالم اليوم هو شره الاستهلاك وعبادة الاشياء وحب التملك فتحولت المادية والأشياء إلى أصنام تصنع الواقع المزيف والكاذب والموهوم، لذلك نحن نلاحظ إن هذا الشرط وهو الزهد (بمعناه المعتدل وليس الصوفي) هو طريق للوصول للواقع، فالماديات تحجب الإنسان عن رؤية الواقع وتجعل الانسان يعيش هامشيا يتصور أنه أدرك الحياة من خلال عالم المادة لكنه مخطأ، فاللاهفون وراء الاستهلاك واستملاك الأشياء يلاحظون انه مهما تطورت حياتهم المادية يعيشون الضنك والشقاء والقلق من أن يفقد أمواله وأنه لم يحصل على الشيء الذي لابد من أن يحصل عليه، ويتملكه عدم الشعور بالاكتفاء، فكلما كبرت التوقعات المادية انخفض مؤشر السعادة والاستقرار، وكلما انخفضت التوقعات المادية يكون مؤشر السعادة والاستقرار عند الانسان عالي، والآية القرآنية توضح طريق الواقع للعيش من خلال الزهد (لكي لاتأسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما أتاكم)، فالإنسان أكبر من الأشياء حيث لايكون عبدًا لها وانما هي مجرد وسيلة للحياة، والمعنى في داخل الإنسان هو الهدف والأساس وهذا المعنى هو الذي يطور الإنسان بالتفكر والتأمل والزهد وتقوية نفسه فيستطيع أن يفهم ويعبر الحجب ويصل إلى مدارك عالية ويسمو إلى مراتب من فهم الواقع. فالزهد يقود نحو التقدم الحقيقي والمعنوي والخروج من شرنقة التخلف.
اليوم نحن نحتاج الى الزهد وخصوصا في عالم اليوم عالم الاستهلاك والشره حيث نغرق في عالم التكنولوجيا التي سلبت المجتمع كثيرا من الروحانية والمعاني الخيرة، نحتاج إلى أن نتأمل في ذواتنا ونربي أنفسنا على الزهد في الطموحات الدنيوية وفي السلطة التي تؤدي إلى فساد الناس، فبعض الذين ذهبوا وراء السلطة كانوا صالحين لكن طموحهم في السلطة جعلهم يقعون في الفساد والإفساد وسرقة المال العام.
رابعا: الاقتداء بسيرة رسول الله (ص) وأهل بيته (ع)
الرابع من شروط وطرق الوصول الى الواقع وفهم الواقع الاقتداء بسيرة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) فهذه السيرة هي الصدق كله والواقع جميعه فمن سار عليها ربح الدنيا والآخرة، ولايفيد التبعيض هنا في الولاء لرسول الله وأهل البيت (عليهم السلام) لابد أن يكون مطلقًا قولًا وعملًا وسلوكًا وفكرًا وتفكيرًا وثقافة، عندما نقرأ هذه السيرة وأحاديثهم نجد فيها طريقًا واضحًا لنا للوصول إلى السعادة والواقع السعيد والمتقدم والصالح.
لابد لنا أن نقتدي بسيرة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ونحاول أن نطبقها في حياتنا ونعلم ابنائنا هذه السيرة، فاذا استطعنا أن نتعلم ولو جزءا يسيرا من هذه السيرة سوف نكون قد حققنا الكثير من الأشياء في حياتنا، ونخرج من هذا الواقع المتخلف، ومن الضروري التدبر العميق في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه واله) وأحاديث أهل بيته (عليهم السلام) وتحويلها إلى منهاج عملي وثقافة سلوكية في حياتنا اليومية لقيادة مجتمعنا وأبنائنا نحو الصدق بمفهوم الواقع، والابتعاد عن الواقع المزيف الذي نعيشه اليوم.
فالثقافات التي يمارسها البعض هي ثقافات بائسة ثقافات مستوردة حيث نرى من هو متدين يصلي ويصوم لكن ثقافته مستوردة، وهذا هو نتيجة لعدم قراءتنا أو الاستفادة من أحاديث المعصومين (عليهم السلام)، لاحظوا اليوم ماذا يقرأ المسلمون؟ وماذا يكتبون؟ يقرأون كتب أخرى غير ثقافة رسول الله (ص) وأهل البيت (ع)، فالإنسان جيد أن يقرأ كتب أخرى ويتعلم ويستفيد منها لكن كثير من العلوم نستطيع أن نستفيد منها من ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) وهذا يأتي من خلال تعمقنا بأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ونجعلها طريقًا لنا في حياتنا، كما يستدعي منا أن نكتب عنهم، وكم كاتب عندنا قد كتب من خلال الاستنباط من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وحولها إلى مناهج تعليمية وتربوية في مدارسنا وجامعاتنا وفي حياتنا وفي ثقافتنا، وكم ننتج في ذلك من الكتب سنويا؟ وهذا من أكبر المآسي التي نعيشها، لذلك لابد ان نحقق نهضة كبيرة ونبني جيلًا كبيرًا من الكتاب المتعمقين ذو المستوى الرفيع وليس فقط كتّابا في المنصات الرقمية.
خامسا: العفو المطلق
العفو المطلق من شروط وعناصر وطرق الوصول للواقع الصادق وليس المزيف، وهناك مشكلة عندنا في مجتمعاتنا هي استيطان الكراهية المتصاعدة التي تنتج المشكلات والأزمات والصراعات وتستنزف حياة الإنسان وحياة الناس، وتقبر الناس والمجتمع في عالم الظلام والشقاء، وتفتح صندوق الشرور والرذائل. الكراهية تتسبب في حالات النزاعات العائلية والطلاق والصراعات بين الأحزاب وبين الجماعات وتشعل نيران الطائفية والعنصرية. فهؤلاء الذين يقعون في شرك الكراهية في أذهانهم نوع من الأفكار السلبية السيئة جدا تجاه الآخرين وتتصاعد دائما والنتيجة معروفة، لان الكراهية تؤدي الى تشويش الذهن وصناعة الأوهام والصور المزيفة.
والمشكلة الأساسية أن هذه الكراهية تتزايد في عدم وجود حل لها فالبعض يحلها بالقانون والبعض الآخر يحلها بالقوة والاكراه لكن (الحل لايحل) بل يزداد تعقيدا، فكيف نستطيع ان نجتث الكراهية التي هي سبب كل الازمات والصراعات؟
الحل بسيط جدا للعقول النيرة والقلوب المنفتحة وهو العفو المطلق، الذي ينزع من عمق الانسان الكراهية والشر والعنف ويقوده نحو عالم الصدق والواقع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {التغابن/14}
فعند قراءة القرآن الكريم وسيرة أهل البيت وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، نجد العفو المطلق الذي كان أحد عناصر سيرة رسول الله (ص) ونجاحه في بعثته وفي مسيرته وفي رسالته، فلا يكفي العفو بل لابد من نزع الكراهية عبر الصفح والإغماض التام، فينزع الكراهية من قلبه تماماً، ينزع الكراهية من فكره وهذا هو معنى العفو الحقيقي عند المؤمنين فيكون القلب نقيا والفكر بصيرا والعقل منيرا، وهذا هو سر التوفيق والاستدامة التقوائية و(العفو أقرب للتقوى).
ومجموع الكلمات في الآية القرآنية تعبر بالنتيجة عن العفو المطلق، العفو في مستواه الاول يعني العفو الخارجي، وفي مستوى اعلى واعمق العفو بمعنى الصفح، أي يخرج الموضوع من نفسه وينتزعه ومن ثم يغفر له ويستغفر له أيضاً فإن الله غفور رحيم، فالعفو المطلق هو الرحمة الواسعة لله سبحانه وتعالى.
هذه الآية القرآنية تعبر عن أصعب امتحان يمر به الانسان وهو النزاعات العائلية والتربية الصالحة أم التربية السيئة فالنزاعات العائلية تؤدي الى شقاء وآلام نفسية وتسكن في داخل الانسان الى آخر عمره، الحل في النزاعات العائلية هو العفو المطلق فالعفو المطلق هو تربية للذات وتربية للآخر، عندما يمارس الأب أو الأم العفو المطلق، يعلمون أبناءهم أسلوب الرحمة والمحبة وأن يتعاملوا بإنصاف مع الآخرين، فالعفو المطلق هو زراعة للسلوك المتسامح وبالنتيجة فتح باب الهداية وطريق الاهتداء للآخرين، لكن الكراهية تؤدي إلى غلق باب الهداية والاهتداء، وعندما يرى الآخرون السلوك الخير والمتسامح والعفو المطلق يتعلمون هذا المنهج ويهتدون نحو هذا المنهج، فالإنسان يهتدي بهدى الآخرين وبسلوكهم الخير وخصوصا العفو عن الآخر وصفحه، فالعفو المطلق منهج تربوي متفاعل لبناء المجتمعات الصالحة.
وعلى العكس من ذلك الكراهية والعنف يتسبب في نفور الآخرين من الدين فالعنيفون بكل اشكالهم وخصوصا المسلحون، يؤدون إلى تشويه صورة الإسلام، واليوم بعض الحكومات والجماعات تمارس العنف والارهاب وزراعة الكراهية وتشويه صورة الإسلام في الاذهان، لكن الاسلام الحقيقي هو إسلام الهداية، إسلام العقل، إسلام التسامح، إسلام العفو المطلق، إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال اذهبوا أنتم الطلقاء، فبالعفو انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا.
اشراك الآخر
والعفو المطلق لايعني ترك الآخرين بل لابد من اشراكهم لأن الترك هو فشل وضياع للأهداف، الترك يؤدي إلى نفس النتيجة انشقاق وانشطار وصراع خفي واختلال في البناء الاجتماعي، لذلك لابد من التعامل معهم بشكل جيد واشراكهم، واحتوائهم ومداراتهم عبر الحوار الإيجابي والتعاون، قال عزوجل: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر"، شاورهم في الأمر، معناه إشراكهم حتى لو اخطأوا لأن الاشراك معهم يؤدي الى تعلمهم وتربيتهم الصالحة.
أخيرا فإن في القرآن الكريم وسيرة اهل البيت (عليهم السلام) وحديثهم الكثير من الطرق التي تؤدي للوصول الى الواقع، وكلما ارتفعت المقدرة على الفهم وإدراك الطرق للوصول الى الواقع ازدادت القدرة على العيش بسعادة واطمئنان ورضا وسلام، وهذا هو معنى العيش بالبركة، تطور حياة الانسان وتنعمه وسعادته.
فلنبحث عن هذه الطرق بعمق وتفكر وتأمل مستدام.
اضف تعليق