سقراط وافلاطون وارسطو وضعوا الأساس لأكثر من 2400 سنة من التحقيق الفلسفي المتّبع في التقاليد الغربية. هم رسّخوا حقولا كاملة من التحقيق العقلاني بشأن الأخلاق والأخلاق العملية، متسائلين كيف لنا ان نتأكد من معرفتنا، وما هدف الكائن البشري في هذه الحياة، وما الذي يحفزنا تجاه تلك الغايات...
حتى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، كانت اثينا ذات سمعة قوية كقوة اقتصادية مرتكزة على التجارة البحرية ولكن من الصعب اعتبارها كمركز للتحقيق الفلسفي. كان فيها السوفسطائيون او الرجال "الحكماء" يقدمون ارشاداتهم للمواطنين الاثنيين وطريقتهم التجارية في الحياة عبر تقديم التدريب في البلاغة للشباب الأغنياء، وهو عبارة عن مهارات مفيدة في كيفية اكتساب النفوذ في الديمقراطية او الانتصار في الجدال في المحاكم.
السوفسطائيون بدوا مطّلعين على نشاطات مختلف الفلاسفة المنتشرين في مختلف المدن اليونانية في المائة والخمسين سنة الماضية، غير انهم بدوا مشككين بالنظريات الميتافيزيقية التي كانت سائدة آنذاك. بعد ذلك، ادّعى طاليس ان كل شيء مصنوع من الماء. اما هرقليطس فاعتبر النار هي المصدر الأول، ديموقريطس من ناحيته ركز على اشياء غريبة سميت الذرات. جميع نظرياتهم بدت غير قابلة للإثبات وكأنها تناقض بعضها البعض. لذا ما هو الإختلاف الذي أحدثه تكريس الفكر لديهم؟ من الأفضل ترك التأملات وتركيز الطاقات الذهنية على المضي قدماً وعلى ما هو في متناول اليد.
في وسط هذه الألفية الفكرية يصل سقراط. ظاهريا هو بدا منشغلا في خطط مشابهة وكان احيانا يعتبر نفسه سوفسطائيا. سقراط اعتُبر ايضا رجلا حكيما ومدرّب للشباب. غير انه، كانت هناك ميزتان تميّزان نوعية سفسطته. اولا، هو لم يتقاضى أي اجور على تعليم التلاميذ، ثانيا وهو الأهم، كان لا يساعد الطلاب ليصبحوا متفوقين في أفكارهم، بل، ان تركيزه الراسخ كان لتطوير طريقة شاملة للجدال تستنبط الحقيقة الكامنة في الممارسة الصحيحة للفضائل. لهذا السبب، افلاطون وآخرون استخدموه ليس فقط كواحد من بين العديد من الحكماء وانما خصيصا كفيلسوف "محب للحكمة".
سقراط
لكي ندرك ادراكا كاملا طريقة سقراط علينا ان نفهم خلفيته الميتافيزيقية لأنها تنطبق على ما ينشّط الحياة في البدن وهي الروح. رؤيته هي ان الروح سابقة الوجود وغير فانية ويمكن التعرف عليها بالذكاء والعقل. من هذا الموقف تبرز عقيدة التذكّر reminiscence. لكي نتعلم التفكير "الخالص" يعني ان نتذكر الوجود القبلي للروح. من هذه العقيدة تطورت طريقة سقراط في إستدراج ذاكرة الروح من خلال سلسلة من الأسئلة المتقنة، وهي العملية التي اشار لها بالديالكتيك. الديالكتيك اساسا يبدأ بطلب تعريف مصطلح شامل كأن يكون واحدة من الفضائل. مثال على ذلك سؤال "ما هي العدالة؟". العملية الديالكتيكية ليست مجرد التماس او حث للافكار، وانما كشف او استدعاء من ذاكرة الروح ما يجب ان تتألف منه "العدالة" منطقيا وضروريا.
يصف سقراط دور الفيلسوف في هذه العملية كدور القابلة. هو يعمل على انتزاع وتسليم الحقيقة من الروح، التي هي الآن ويجب ان تكون أبدية. وفي التمييز بينها وبين الرأي، الحقيقة توصف كمتجاوز للعالم المادي المتغير دائما، كونها من نفس الطبيعة كالروح وهي في الحقيقة مظهر مكمل للروح ولكل وعي للروح. ان مصدر الحقيقة والروح هو الحقيقة النهائية، وهي ما يصفه سقراط بالخير. حالما تستيقظ ذاكرة الحقيقة، يستطيع الفرد ان يجسد الفعل في الخارج ويوجّه حياته نحو الخير، وبما يضع البدن والروح في انسجام واضح، وهو ما يسميه الحياة "الجيدة".
افلاطون
فلسفة افلاطون هي امتداد لميتافيزيقا سقراط والتي يعتمد عليها بشكل حاسم في تعامله مع الحقيقة والجمال والخيرية. بنفس الطريقة هو يصف الروح الابدية السابقة الوجود، مع ذلك، هو يضيف بان هذه الروح هي فردية تماما، بما يعني انها لايمكن تجزئتها، او إجراء تغيير فيها او تحطيمها، وبهذا تكون منفصلة ومتميزة عن الاشياء الفيزيقية بما فيها الأبدان. افلاطون يصف الروح بـأنها غير مادية ووحدة بسيطة وليست شيئا مركبا. هذه الروح هي التي تدّعي امتلاك المعرفة الحقيقية للأشكال التي تشترك بطبيعتها كونها بلا زمن، أبدية، ولا تتغير.
ما هي الأشكال؟ انها ليست شيئا محددا. أي، هي مستقلة، ليست مركبة من عدة اشياء ولا هي جزء من أي شيء آخر. هي الاشياء الوحيدة التي تستطيع الروح معرفتها بتأكيد تام لأنها ثابتة ولن تتغير ابدا. انها الاشياء الواقعية الوحيدة للمعرفة، صادقة في كل مكان وفي أي زمان. طبقا لافلاطون ان استخدام كلمة "معرفة" لوصف تجربة اكتُسبت من خلال الحواس كإستعارة، هي غير صحيحة تقنيا. ممارسة التغيير، خاصة الاشياء المحددة ليست اكثر من رأي تكون فيه المعرفة الحقيقية مستحيلة. ما كان يبحث عنه افلاطون هو المُثل الأصلية التي تقف خارج اي زمن محدد او مكان محدد. الأشكال بهذا تكون "حقائق ابدية"، وهو التعبير الذي تكرر دائما طالما فهمنا بشكل صحيح الأبدية التي هي جوهر الحقيقة.
كما في سقراط، العملية الديالكتيكية لإفلاطون في استنباط المعرفة هي شكل من التذكّر الذي تُكشف فيه الحقيقة بوسائل العقل وحده. بالنسبة لإفلاطون، العقل سمة اساسية للروح وهو منشغل بالمُثل الخالصة. طريقة الديالكتيك توجّه العين الباطنية للروح للنظر وراء التفاصيل المتغيرة للوجود الدنيوي، لتسمح لوعي الروح للتركيز على الأشكال، الحقائق الخالدة، معرفة الخير. في الإعجاب بالحقيقة، يوصف الجمال كتعبير عن الخير. افلاطون يرسم رحلة الجمال المحسوس نحو مثال الجمال نفسه. هو يتصور ما يحدث لشخص شاب، أعماه الحب، يجد جسم فتاة معينة جميلا بالذات لا جسم آخر. الرجل الشاب يُحتمل ان يلاحظ ان الجمال الفيزيقي هو سمة تتوزع بين عدة نساء. ربما هو يصل الى إدراك ان هناك جمال ليس فيزيقيا تاما، جمال باطني للمرأة التي يحبها. عندما ينضج الشاب ويصل الى مرحلة الفيلسوف، هو ربما يتجه نحو مثال الجمال ذاته بعيدا عن أي تجسيد فيزيقي معين. وبينما الحقيقة ترشد الروح حول الخير، يتولى الجمال تحفيز الروح نحو ذلك الخير.
بالنسبة لإفلاطون تعتمد الفلسفة على التمييز الحاسم بين الظهور المجرد والفهم المباشر للحقيقة، الخير. مثل هذا السعي ليس تجريدا تاما ولا هو دراسة محايدة. الانسان وأفعاله لا يمكن اختزالها الى مجرد توضيحات فسيولوجية او ميكانيكية. بالنسبة لافلاطون، الانسان هو كلتا الحالتين عقلاني ومجتمعي، يتحفز بالغرض، لديه أهداف وغايات يسعى لتحقيقها. في حكاية الكهف، يقارن افلاطون بين الخير والشمس، مثلما الشمس تجعل الأشياء المادية مرئية للعين، ينير الخير عقل الروح جاعلا الأشكال الخالدة مفهومة. وهكذا بالنسبة لافلاطون لا شيء هناك ذاتي حول "العين الباطنية" لرؤية الفيلسوف، هو ببساطة يفهم بشكل مباشر التميّز او الخير.
ارسطو
رغم انه تلميذ افلاطون، ويشترك معه بعدة رؤى وافتراضات، لكن هناك اختلاف في ميتافيزيقا كل منهما وهو ما أثّر على كامل فلسفة ارسطو بما فيها تصوره للحقيقة، الجمال والخيرية. لأرسطو وصف طويل للروح، ولكن فيما يتعلق خصيصا بروح الانسان هو يزعم، بالضد من افلاطون، انها لا تمتلك وجود قبلي او أي وجود اطلاقا بعيدا عن البدن واصفا اياها "حقيقة جسم ذو حياة". بكلمة اخرى، الروح هي مظهر منشّط وحيوي للجسم. رؤية ارسطو للروح هي في توازي مع الأشكال كونها متأصلة في الاجسام بدلا من ان تكون متجاوزة لأجسام معينة. وهكذا روح الانسان "هيلومورفية" اي مركبة من شكل جوهري متحقق في جسم مادي، الفرد.
في تركيبة الروح، ارسطو يعتبر الأجسام هي المادة الاساسية التي تعتمد عليها الأشكال. روح الاشياء الحية يمكن تصوّرها كما لو انها تمتلك عناصر او مظاهر يمكن ترتيبها في هرم تصاعدي. في الأدنى تقبع ما توصف بالروح النباتية، وهي الدافع الاساسي للتغذية والتكاثر اللذان تشترك بهما جميع الكائنات الحية. بعدها تأتي الروح الحيوانية والتي تتضمن القدرات الاضافية من إحساس وحركة. اخيرا، هناك السمة المعرّفة للانسان وهي الروح المفكرة. طبقا لارسطو فان الانسان يمتلك كل المظاهر الثلاثة للروح التي سبق ذكرها. وبينما يرى افلاطون ان روح الانسان سُجنت في جسم حيواني ويمكن تحريرها عبر الحياة المخصصة للعقل، يرى ارسطو الانسان حيوانا عقلانيا ينبغي عليه البحث عن الإنجاز في كل مظاهر وجوده بما فيه النباتي والحيواني.
لكي نفهم رؤية ارسطو حول ما الذي يشكل الخير، من المفيد النظر الى توضيحاته للسببية. هو يعلن ان سبب أي شيء حيا كان ام جامدا يمكن ان يُعزى الى أربعة اسباب: المادي، الفعال، الشكلي، والنهائي. دعنا نأخذ مثالا عن تمثال سقراط المعروض أعلاه. السبب المادي هو المادة التي صُنع منها التمثال وهي الرخام. ثانيا، هناك السبب الفعال، حرفة نحت الحجر وهي تُنسب الى الحرفة ذاتها وليس الى حرفي معين. بعدها يأتي الشكلي والذي يشير الى شكل او تصميم النصب، والذي كما يشير الاسم، يعطيه شكله: سقراط يرتدى رداءه جالسا في حالة تفكير. اخيرا نأتي للسبب النهائي، الهدف من النصب والذي ظاهريا هو لتزيين مدخل اكاديمية اثينا.
بالنسبة لارسطو السبب النهائي له السيادة بين الأسباب الاخرى، كونه سبب وجود جميع الآخرين. في مثالنا، اذا لم تكن هناك حاجة لتزيين الاكاديمية، فان شكل وطريقة نحت المواد المختارة ما كان لها ان تحدث. الكلمة اليونانية التي يستعملها لوصف الغاية او الهدف هي التيلوس. بعد ان وضعنا اطارا صلبا لميتافيزيقا ارسطو نستطيع الآن النزول لمهمة ارائه حول الحقيقة، الجمال، الخيرية. ما نجده هو ان مفهوم التيلوس والخير متلازمان بقوة. الخير مرتبط بشكل التحقق الكامل، والنظام، ويصل الى النضج طبقا لإمكانات اولية. فمثلا، ما هو خير للنباتات هو الصحة الفيزيقية بوسائل التغذية التي تسمح للنبات في التكاثر. الحيوانات لها هذه الاهداف الاساسية لكن احاسيسها وحركتها يسمحان لها ايضا بالسعي النشط نحو الرغبات والمتع مع تجنّب الألم. الكلب يمكن ان ينال حياة جيدة لنفسه بالإطعام الجيد، والتزاوج في النهاية ولكن ايضا بتجنّب الأذى وايجاد الرفقة في جماعة. ارسطو يعترف ان كل الأشكال السابقة الذكر هي جيدة للكائن البشري ايضا، مع ذلك، نحن لدينا امكانية اخرى لنمارس الفضائل الفكرية والحكمة التأملية. عبر ممارسة جميع هذه بطريقة متوازنة نستطيع تحقيق ما يسميه اليونانيون بـ الرفاهية او eudaimonia او الحياة الجيدة.
ولكن، بما ان الكائن الانساني راشد، فان حصولنا على الحياة الجيدة يعني معرفة كل الفضائل الأخلاقية التي عالجها سقراط وافلاطون سابقا وكيفية تطبيقها في الحياة. وبما ان ارسطو ينكر فكرة المعرفة الفطرية الكامنة في الروح الأبدية، فان البحث عن الحقيقة سيحتاج لوسائل اخرى غير التذكّر وذلك من خلال الديالكتيك. الطريقة التي يقترحها ارسطو هي شكل من الاستقراء الذي ينشأ في التجربة والحواس. ورغم ان الحواس غير موثوق بها، فان الخبرة التراكمية تسمح لنا لتمييز النماذج. ارسطو يصف "الفطرة السليمة" الرفيعة الموجود في الذهن، حيث تندفع خبرات جميع الحواس الاخرى لتتحد في خبرة منظمة للذاكرة. هذه الذاكرة هي نتاج للفطرة السليمة العليا للعقل تقارن، وتبيّن الاختلاف، واخيرا التحقق في لحظة كاشفة من الاعتراف الحدسي بالحقيقة. من خلال هذه العملية من تعريض خبرة الحس الى العقل نستطيع تجريد الأشكال والحقائق من خصوصياتها.
في أعلى مستوى من الوجود، يعرّف ارسطو الجمال بالخير، انه المحرك الذي لا يتأثر، والسبب النهائي لكل الاشياء المرغوبة لأجل ذاتها ويضع كل الكون في حركة من خلال الجاذبية التي يمارسها.
الجمال يولّد الحب الذي هو أعلى فضيلة والقوة الدافعة الموحدة. ارسطو يذكر، " لو كل الناس يتنافسون على الجمال، وارهقوا في عمل الاشياء الأكثر جمالا، سيتحقق كل شيء يحتاجه الناس عموما، وكذلك سيتحقق أعظم خير لكل واحد بالذات. الحياة الجميلة ليست غرورا وانما تشغل نفسها بالصداقة والخير العام، وهي أعلى انجاز للكائن البشري.
سقراط وافلاطون وارسطو وضعوا الأساس لأكثر من 2400 سنة من التحقيق الفلسفي المتّبع في التقاليد الغربية. هم رسّخوا حقولا كاملة من التحقيق العقلاني بشأن الأخلاق والأخلاق العملية، متسائلين كيف لنا ان نتأكد من معرفتنا، وما هدف الكائن البشري في هذه الحياة، وما الذي يحفزنا تجاه تلك الغايات. استنتاجاتهم كانت ان الخير والحقيقة والجمال هم في وحدة او كالواحد في أعلى تحقق للحقيقة النهائية لايمكن التمييز بينهم، والحب هو القوة التي تسحبنا نحوهم. مع ذلك الفلاسفة الثلاثة بالتأكيد لم يكونوا آخر الكلمات في الموضوع. مفاهيمنا للحقيقة والجمال والخيرية بلا شك صيغت وتأثرت بالفكر اللاحق وما كُتب حوله مثل الكلبيون والايبيقوريون والشكاك وغيرهم.
اضف تعليق