اليوم، لا صيف يشبه صيف الأمس بنسماته وعذاباته، ولا الناس نفسها ببساطتها وآمالها وقناعاتها. فالدنيا تسير بالمقلوب. الدولة تتفنن في تعذيب البشر، وترفع من منسوب ساديتها في الصيف، حيث جرعات الكهرباء لساعات لا تكفي إن تثير الفرحة للحظات في النفوس، أو تخلق الأمل بالقادم...
من سوء حظ العراقي، وما أتعسه من حظ، أن صيف هذا العام بدأ مبكرا بهوائه اللهّاب المحرق ليزيد "الطين بله"، فوق "بلوة" من يحكمه بالفساد والفقر، وقطع الأرزاق والكهرباء وشرايين الحياة. والصيف له قصص وأمثال في ذاكرة العراقي، فهو "يحرق المسمار بالباب " و"تُقّلل الأعناب وتُكثّر الأرطاب"، حيث كنا نرددها مع عوائلنا عن ظهر قلب، لاسيما أيام " المهافي" المصنوعة من سعف وخوص النخيل، والتي كانت لا تخلو منها أيدي أصحاب المحال والباعة والأهالي وخاصة في وقت القيلولة.
وللصيف أيام زمان، طقوس وعادات في مواجهة حرارة الصيف. هناك من يستخدم تبريد العاقول "العمارية" المصنوع من عيدان سعف النخيل، وهي عبارة عن مشبك يوضع في داخله العاقول الأخضر على الشبابيك، حيث يرش بالماء بين حين وآخر لتبريد البيت، وكذلك استخدام "المراوح" السقفية والعمودية إن وجدت. وشرب الماء من "الحِب" الفخاري الذي ينساب من أسفله القطرات البلورية المصفى. والنوم ليلا على السطوح تحت القمر والنجوم، هربا من الحرارة، وانعدام أجهزة التكييف.
كان الصيف لهّابا بحراراته، لكنه جميلا في طقوسه العائلية والاجتماعية، خاصة في طقوس الليل، حيث العشاء على السطوح الفسيحة، ومنظر"الرقي" المبرد، وماء الشربة " التٌنكة" الفخارية لحفظ الماء، وأسرّة حديدية "جرباية" بعضها مجهز بالشاش الأبيض" الكلّة" لتفادي البعوض، والأخر مفتوح حيث يلتحفون النائمون بالسماء.
هناك الحكايات وتبادل النكات بين الأهل، وهم يرتشفون الشاي المعطر بالهيل أو الريحان إلى موعد النوم. وفي الصباح تتولى العائلات البغدادية نقل الفراش ووضعه في غرفة صغيرة في السطح اسمها "البيتونة"؛ لحمايته من الشمس. وفي وقت الغروب يعدن النسوة إلى ترتيبه على الأسرّة من جديد. دورة يومية صيفية لا تنتهي إلا بقدوم الشتاء!
كانت الحياة بسيطة، تساعد على تخفيف لهيب الصيف. حيث نسمات باردة رحيمة تزور الليل من رب كريم، لا تعرف الاحتباس الحراري وغاز الميثان. وقلوب صافية بالمحبة لا تعرف الحقد. وبيوت مشرعة الأبواب لا تعرف الخوف من سارق محتاج أو ميليشي غادر أو إرهابي جاهل. فالصيف يسير بحرارته الطبيعية، والناس تعيش بالقناعة واليسر والآمان.
اليوم، لا صيف يشبه صيف الأمس بنسماته وعذاباته، ولا الناس نفسها ببساطتها وآمالها وقناعاتها. فالدنيا تسير بالمقلوب. الدولة تتفنن في تعذيب البشر، وترفع من منسوب ساديتها في الصيف، حيث جرعات الكهرباء لساعات لا تكفي إن تثير الفرحة للحظات في النفوس، أو تخلق الأمل بالقادم، بل هي تمّعن بتعذيب الناس عندما ترفع فاتورات الكهرباء بملايين الدنانير، وتجعل الناس حيارى أمام الأرقام الفلكية.
بالمقابل فأن الناس في الصيف تتبخر منهم بعض قيم وتسامح برودة الشتاء. فالكل في حالة توتر؛ شوارع مليئة بحوادث السيارات، حيث تشتعل المعارك بالأيدي والرصاص والسلاح الأبيض؛ والبعض الآخر يعكس مأساة حرارة الصيف على مواقع التواصل الاجتماعي بالهجوم والاعتداء أو بالتندر على مأساة العيش، والعائلة تضج بالمشكلات العمودية والأفقية؛ ضيم الحاجة والعوز، وقسوة حرارة البيت، ولهيب المعارك. صيف مجنون، وبشر فوق بركان ساخن من الهموم، وسخونة الشمس الحارقة!
التفسير العلمي لما يحدث، هناك تراكم من الظلم والمواجع التي تفوق قدرة الفرد على التحمل، ولابد من تصريفها في قنوات عديدة، أما بالكلمات أو الفعل أو السلوك، من خلال التنفيس، وهي نظرية تقول إن شدة الضغط تولد الانفجار. الدولة العراقية الفاشلة لا تريد إن تعطي الحقوق للناس، وان تصغي لمطالبهم، بل هي تمعن بأفساد البيئة بالفساد والظلم والقتل وتمزيق النسيج الاجتماعي، فتكون النتيجة انفجارا هائلا في ردود الأفعال، وأحيانا غير متوقعة، تخرج عن إطارها القيمي والسلوكي.
لذلك ابتكر العراقيون وسائل تنفيس جديدة لاستقبال حرارة الصيف اللاهبة، تبدو بعضها غريبة لكنها تفي بالغرض. وعندما تطالع الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي فأنك تجد عجائب الدنيا كلها. فقد لجأ أصحاب سيارات الأجرة إلى نصب مبردات هواء فوق سياراتهم حتى لا تتقطع سبل رزقهم ولا يهجرهم زبائنهم. ومنهم من نصب دوش حمام في الشارع يغتسل فيه المواطنون لقاء أجر زهيد. كما لجأ بعض أصحاب المحال إلى تركيب مراوح تبث رذاذ الماء لتخفيف وطأة الحر على المارة ومنحهم بعض الانتعاش ليواصلوا تسوقهم.
ومنهم من فتح مسبّحا بلاستيكيا في الساحات للأطفال للارتزاق منه. وهناك من عاد للقديم فاستخدم من تقنياته التقليدية، وكفر بالجديد بسبب انقطاع التيار الكهربائي المستمر. الكل حزين ومتوتر إلا أصحاب الثلج والماء والعصائر، فانهم يستقبلونه بترحاب كبير" مصائب قوم عند قوم فوائد"، حيث تزدهر تجارتهم في مواسم الحر!
ومن اجل زيادة التنفس والتنفيس، تزدهر النكتة والتحشيش والتندر، فتقرأ على سبيل المثال على مواقع التواصل الاجتماعي، من يطالب بقطع كل أشجار النخيل قبل أن تطبخهم الشمس ويذوبوا ويتبخروا تحت لهيبها، وقال آخرون متغزلون بالتمر: "من أجل عيونك يا حلو نتّحمل الحر"، إلا إن عراقيًا كتب يقول: لا تصدقوا من يربط بين حرارة الجو والتمر؛ لأني أعيش في كاليفورنيا؛ حيث الجو المعتدل الرائق مع نضوج أجود أنواع التمور في هذه المدينة!
وقام آخر بنشر فيديو لمقلاة فيها زيت يغلي بعد أن وجهها مباشرة نحو عين الشمس في وقت الظهيرة، ثم كسر بيضة ووضعها في المقلاة. ودعا الأصدقاء إلى وليمة.
وكلما ترتفع درجة الحرارة فوق الخمسين، وعلى مبدأ "شر البلية ما يضحك" يزداد التندر والنقد والنكات بالكلمات أو الصور، فتقرأ أن احد رواد التقنيات الحديثة ينعي التيار الكهربائي "الميت" بالقول: ينعي الشعب العراقي الشيخ كهرباء آل نتله اثر مرض عضال في البنى التحتية، والد كل من نور وضياء، ومكيف هواء آل سبلت، وشقيق المرحومين هاتف ارضي وماء الإسالة. كما تقرأ إعلانا غريبا من وزارة الكهرباء يقول: "هفي بيدك محد يفيدك". وآخر يرد بسخرية على دائرة الأنواء الجوية بسبب وجود منخفضات موسمية حرارية: “عايزنه انخفاض حتى يصير بينه منخفض موسمي !؟ وتصرخ امرأة كبيرة السن بالدعاء على الحكومة في التلفزيون:" الله يعذبهم في الدنيا والآخرة".
ومع ذلك تنتهي قصة حرارة الصيف، بتندر افتراضي لعراقـي يسأل أينشتاين: الهواء الذي يخرج من فمك هل هو حار أم بارد؟ قال أينشتاين: بارد. قال له العـراقـي: إذن لماذا تنفخ في يديك في الشتاء لتدفئتها؟ فأجاب آينشتـاين: لان الهواء حار! قال له العراقـي: إذن لماذا تنفخ في كوب الشاي لتبريده؟ فأنزل أينشتاين رأسه وقال: إنتوا العراقييـن.. طركاعة، الله ميجرعكم!
اضف تعليق