نحن بحاجة إلى فهم الأفكار التي صنعت أو شاركت في صنع ذلك الواقع، كما إننا لكي نفهم الأفكار، نحن بحاجة إلى فهم الواقع، الذي هو وعاء الأفكار وحاضن الممارسات العملية والبرامج والخطط والسلوكيات المتعددة والمتنوعة المناحي. ونخطىء خطأ فادحا حينما نحاول بشكل متعسف، أن نفصل بين العنصرين...
العلاقة الحميمة التي تربط الأفكار بالواقع، بحيث إنه من الصعب أن نجد واقعا بلا أفكار وتصورات تدعمه وتبرر مسيرته، كما أنه لا يمكن أن نجد أفكارا إنسانية بلا واقع.
هناك علاقة جدلية تربط الأفكار بالواقع، حيث أنه لا يمكن أن توجد فكرة وتنمو بدون الواقع بأضلاعه الثلاثة (الزمان-المكان-الإنسان). كما لا يمكن لهذا الواقع أن يعيش ويتطور وينظم علاقاته الداخلية والخارجية، بدون الفكرة أو جملة من الأفكار تشكل نسقا نظريا متكاملا. من هنا فإن المدخل الطبيعي لفهم الأفكار، هو فهم الظرف والواقع، الذي برزت فيه الأفكار فهما حقيقيا، وهي في عالم التجريد والمثال والبعد عن الواقع بمعطياته العديدة، كما أن الواقع بأحداثه وتحولاته، بإيجابياته وسلبياته، بإنجازاته وإخفاقاته، لا يمكن أن ندركه حق الإدراك ونفهمه حق الفهم، بدون فهم الأفكار التي عملت وأثرت في ذلك الواقع.
نحن بحاجة إلى فهم الأفكار التي صنعت أو شاركت في صنع ذلك الواقع، كما إننا لكي نفهم الأفكار، نحن بحاجة إلى فهم الواقع، الذي هو وعاء الأفكار وحاضن الممارسات العملية والبرامج والخطط والسلوكيات المتعددة والمتنوعة المناحي.
ونخطىء خطأ فادحا حينما نحاول بشكل متعسف، أن نفصل بين العنصرين حيث أن تجريد الواقع من الأفكار، يحوّله إلى مجموعة من الأحداث المتناثرة، التي لا صلة فعلية لبعضها البعض، كما إن انتزاع الأفكار من الواقع، يسقطنا في متاهات التعميم والتعصب لجملة من الأفكار قد تكون صالحة لزمان دون آخر أو لمكان دون آخر. لذا فإننا نظلم الأفكار ولا ندركها في سياق تطورها الطبيعي، حينما نقرأها بعيدا عن الواقع الذي نشأت فيه.
كما إننا قد نخضع الواقع لمبتغياتنا وأهوائنا الفكرية حتى لو كان الواقع يسير في الاتجاه المعاكس. وجماع القول إن هناك علاقة تربط الأفكار المعيارية مع الواقع التاريخي والمعاصر، وحركة الإنسان في الوجود تتجه إلى تحقيق الفكر المعياري في الواقع، لذلك فالمدينة الفاضلة في المنظور الماركسي هي التي تنعدم فيها الطبقات ويتحرر فيها الإنسان من الضرورة الاقتصادية، ونظام تقسيم العمل، وهكذا يختلف شكل المدينة الفاضلة من إنسان لآخر أو من مدرسة فكرية إلى أخرى، السبب في ذلك يرجع إلى اختلاف الفكر المعياري والإطار المرجعي من طرف لآخر.
فالأفكار لا تتحرك وتتطور في فراغ، بل هي تنمو وتتطور في إطار واقع اجتماعي تاريخي، وهذا الواقع الاجتماعي التاريخي، يعكس تأثيره الطبيعي على عالم الأفكار والتصورات النظرية لهذا يقول علماء المنطق إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. لهذا فإن تجاهل الواقع والظرف الاجتماعي والتاريخي، الذي نشأت فيه الأفكار، لا يوصلنا إلى فهم دقيق لتلك الأفكار، لأن انتزاع الأفكار من سياقها الطبيعي (الاجتماعي التاريخي) والنظر إليها باعتبارها فكرة في الفضاء المجرد، يجعلنا إما نتجه صوب تعميم الفكرة وإعطائها حجما أكبر من حجمها، أو نحبسها في إطارها الزمكاني، فنخسر الدروس والعبر من تلك التجربة الفكرية-الاجتماعية. فالواقع والفعل الاجتماعي يستدعي الفكر، لذلك فإن عمليات التفاعل والتفاكر والحوار هي الطريق المأمون إلى تحقيق الخصوبة المطلوبة لعملية النهوض الحضاري.
وقد أخذت جدلية العلاقة بين الفكر والواقع، نصيبها من صراع الفلاسفة «فمنذ الفكر اليوناني القديم يتحدث أفلاطون في محاورة السفسطائي عن الصراع بين اتجاهين في الفلسفة يقول أنصار الأول منها (الذين ينعتهم أفلاطون بأنهم قوم كريهون) انه لا يوجد إلا الملموس والمحسوس، ويزدرون القائلين بوجود ما هو غير جسمي، في حين يؤكد فلاسفة الاتجاه الثاني على أن الوجود الحق مثل معقولة ومفارقة، وفي العصر الحديث وصف ليبينتز ابيقور بأنه كبير الماديين، ونعت بالمقابل أفلاطون بأنه كبير المثاليين، وقال هيلفيتيوس في معرض الحديث عن تضاد المادية والمثالية في مؤلفه الإنسان: إنني أقارن هذين الضربين من الميتافيزيقا، بنسقين فلسفيين مختلفين ديمقريطس وأفلاطون. فالأول يصعد تدريجيا من الأرض إلى السماء أما الثاني فينزل تدريجيا من السماء إلى الأرض»(1)
وفي الدائرة الإسلامية يتأكد الاهتمام بفقه النص والواقع، للعلاقة الحميمة التي تربطهما مع بعضهما البعض، لأن الواقع كله وبمفرداته المتعددة، أصبح في حقيقة الأمر متعلقات الأحكام الشرعية، لذا فقد اهتم علماء الأمة وفقهاؤها، بمعرفة أسباب نزول النص من أجل الإلمام بالظرفية التي صدر فيها الكلم القرآني أو النطق النبوي للتوصل إلى صناعة التفسير وبناء علم الحديث، دون أن يفقد النص الشرعي سلطته التشريعية وعموميته المطلقة، ودون أن يؤول إلى نسبية تاريخية. ولذلك قال السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) وقد نزلت آيات في أسباب واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها.
وعلى هدى هذه الحقيقة التي تربط النص بالواقع حارب الدين الإسلامي كل محاولة لعزل النص عن الواقع أو عزل الواقع عن النص، «لأن الإسلام ليس كيانا غريبا طارئا على مسيرة التاريخ وحياة الشعوب وتطلعات الناس. إنما الإسلام هو الحياة تستقيم على قيم عليا توجه مسيرتها وترشد حركتها. والمسلمون هم الناس حين يستقيم فكرهم وخلقهم على تلك القيم، والنصوص كلها وعلى رأسها القرآن ليست عالما آخر يضاف إلى هذا العالم، وإنما هي شاهد بكلمات الله على خلق الله»(2).
ونحن هنا إذ نؤكد على الصلة القوية التي تربط النص بالواقع، لا ندعو أو نطالب بعملية التماهي بين النص والواقع، أو نخضع النصوص للواقع بظروفه ومتغيراته، وإنما نريد أن نبرز عمق العلاقة التي تربط النصوص بالواقع في الدائرة الإسلامية، لهذا كله وحتى لا نقع في هذا التيه المزدوج بين الأفكار والواقع، نحن بحاجة إلى العناية والاهتمام بموضوع تاريخ الأفكار ومنهج التحليل التاريخي للأفكار، بمعنى حينما يسعى المرء لدراسة فكرة ما، من الضروري أن لا يعزل ظرف إنتاج الفكرة عن فهمه لها، لأن الظرف التاريخي، والزمان والمكان، لهما جميعا مدخلية أساسية في فهم الأفكار والقناعات الثقافية.
فالفكرة أو الأفكار ليست وليدة العقل المجرد، بل هي نتاج مجموعة من العوامل والأوعية، لذلك من الخطأ قراءة الأفكار بعيدا عن تاريخيتها وظروف إنتاجها وزمانه، فلا يمكن للمفكر أن يفكر بلا واقع، كما انه لا يمكن أن نفهم الواقع بلا أفكار، لان هناك علاقة حميمة تربط الفكر بالواقع والعكس، وثمة مسوغات عديدة، تجعلنا نهتم بالتحليل التاريخي للأفكار وضرورة معرفة الواقع والظروف الذاتية والموضوعية التي نتجت فيها الأفكار وأصبحت في متناول الجميع ويمكن تحديد هذه المسوغات في النقاط التالية:
1 - العلاقة الحميمة التي تربط الأفكار بالواقع، بحيث أنه من الصعب أن نجد واقعا بلا أفكار وتصورات تدعمه وتبرر مسيرته، كما أنه لا يمكن أن نجد أفكارا إنسانية بلا واقع.
2 - أن تاريخ الأفكار يمكننا من جعل الأفكار في سياقها الاجتماعي والثقافي الطبيعي، مما يساعدنا على اكتشاف قوانين التطور الفكري وعوامل التجدد الثقافي.. إما أخذ الفكرة مجردة عن سياقها وظروف نشأتها، يجعلنا نتعامل معها وكأنها استثناء من أصل مجهول أو معرفة مفردة جزئية من واقع كلي، ما زالت أغلب أموره وعناصره مجهولة أو غامضة.
3 - للابتعاد قدر المستطاع من الإغراق في المثالية، إذ أن استقبال الأفكار بشكل مجرد وبعيدة عن ظروفها ومعطيات ولادتها، يدفع باتجاه الإغراق في مسائل طوباوية لا تلحظ جانب الواقع ودوره في نمو الأفكار وشكلها السائد، ولعل الكثير من حالات الغلو في الفكر يرجع بالدرجة الأولى إلى الإغراق في المثالية الناتج من تجريد الأفكار من سياق تكوينها ونموها الطبيعي.
وبالتالي فإن العناية بتاريخية الأفكار تجعلنا نبدأ في ممارساتنا الفكرية من حيث انتهى الآخرون. لأننا سنستفيد من عمليات التراكم الفكري والثقافي، وهذه العملية ستدخل الأفكار في حركة اجتماعية عميقة، تنظم عمليات الربط والاستفادة من تراث الماضي وتطورات الراهن.
اضف تعليق