من الخطأ الفادح استخدام سلاح العدو لمواجهته، فالقوة لن تكون بهذا السلاح مطلقاً وإن وضعها بيدنا هو بنفسه، إنما القوة الحقيقية في القدرات والفرص العظيمة التي نمتلكها، وليس أقلها؛ العلم والمعرفة، والثقافة، والتراث العظيم، فضلاً عن قدرات انسانية هائلة يغبطنا عليها العالم بأسر...
واقع السياسة والحكم في العالم قائمٌ على منطق القوة والعنف وفرض الإرادات لتحقيق المصالح والحصول على مكاسب في السيطرة والنفوذ، فقد ظهرت نظريات مطلع القرن الماضي تبشر العالم أن السلام لن يتحقق إلا بالحرب! فهو سلام المنتصرين الذين يهبون العالم الأمان والحرية والاستقرار والازدهار.
هذا الدرس بلغ الى الشعوب المضطهدة بالاحتلال الخارجي، او القمع الداخلي (الانظمة الديكتاتورية) بان طريقها الوحيد نحو الخلاص هو حمل السلاح والانتظام في تشكيلات عسكرية تحت مسمّيات عدّة لتتحول فيما بعد الى "الممثل الشرعي والوحيد"، ورسالتها الوحيدة الى العالم، ثم تسعى لصبّ كل الجهود والطاقات والقدرات في هذه الجبهة لخوض المعركة المصيرية.
ديمقراطية الغرب بطعم العنف
ما يستوقفنا من الديمقراطية التي يبشر بها الغرب، وتحديداً اميركا، أنها تعزز العنف والارهاب وكل ما يقتضي حمل السلاح والصدام، أكثر مما تحفز على المشاركة السياسية والتعددية والحريات العامة، وكل ما يتصل بتطبيق النمط الديمقراطي في الحكم في بلدان يتحدث رؤساء الولايات المتحدة الاميركية دائماً بأن لهم "مسؤوليات" أمنية وسياسية واقتصادية فيها.
في وزارة الخارجية الاميركية يوجد سجّل كبير ومعروف –لا أعلم تاريخ إنشائه- يراقب مستوى التزام بعض الدول بحقوق الانسان وفق المعايير الاميركية، وبما أن اميركا تعد نفسها راعية الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم، فانها تعطي نفسها الحق في معاقبة من تسوء صفحته بانتهاكات حقوق الانسان من أعمال قمع واضطهاد واعدامات للمعارضين والأقليات، وتكون هذه المعاقبة باجراءات اقتصادية او سياسية الى جانب الحرب الاعلامية.
ولكن في بلد مثل السعودية يتعرض نسبة كبيرة من السكان الى قمع وتمييز واضطهاد منذ عشرات السنين، مصحوبة بالاعتقالات والاعدامات لمجرد مطالبة السكان الشيعة في المنطقة الشرقية بحقوقهم المشروعة، وآخرها كان اعدام شاب صغير يُعد قاصراً في المنظور الغربي (دون سن الثامنة عشر من العمر) لمجرد أنه شارك في تظاهرات مناوئة للنظام السياسية القائم، ولم نر وزارة الخارجية تصدر تقاريرها، كما يحصل مع الصين وايران وسوريا وغيرها من الدول "غير المريحة" لإدانة هذه السياسة القمعية والدموية، وعندما يتعرض الشيعة في مساجدهم وحسينياتهم الى هجمات مسلحة من قبل مجهولين، ويسقط العديد من الشهداء والجرحى، نسمع من السلطات الحاكمة كلمات التهدئة لذوي الضحايا وللشيعة بشكل عام ملقية بالمسؤولية على عاتق الجماعات التكفيرية.
وفي لقاء جمع ولي العهد السعودي الامير محمد بن نايف –الذي خلفه في هذا المنصب الامير الحالي محمد بن سلمان- بشقيق أحد الشهداء في مدينة القطيف، استمع لانتقاد الشاب وتذمره الشديد ومطالبته لأول مرة، وأمام شخصية كبيرة في الدولة السعودية بأن "اذا لم تتمكن الدولة من حمايتنا، فنحن نتكفل بحماية انفسنا" فما كان من الأمير السعودي إلا أن يقاطعه على الفور مع بعض المجاملة لامتصاص غضبه بأن "لا ألومك على ما تقول، ولكن لن نسمح لأحد أن يقوم مقام الدولة في أي عمل"، في اشارة واضحة الى التحذير من مغبة تشكيل أي نوع من الجماعات الخاصة لحماية المراكز والمؤسسات الشيعية في السعودية، حتى وإن كان للتفتيش او المراقبة في الشارع وغيرها.
نفس المعضلة يعاني منها شيعة افغانستان وحتى باكستان، بل وبعض البلدان الافريقية التي تتعرض فيها الاقلية لقمع وإبادة منظمة وممنهجة تحت أنظار الجهات الحكومية، وايضاً السفارات الاميركية التي تراقب المشهد عن كثب.
وفي مقال سابق جرت الاشارة الى وضع الشيعة في افغانستان وكيف انهم يتعرضون للقتل الجماعي على يد طالبان التي يجلس زعمائها مع ممثلي الادارة الاميركية للبحث عن "فرص السلام"، في حين تتمتع سائر الاقليات والقوميات في البلاد بمستوى من الامن والاستقرار بفضل مظلات من الحماية المليشياوية، مما يعني بوضوح أنه إما تخوضون الحرب وترفعون السلاح أسوة بالآخرين، وتوفروا الامن لانفسكم، أو ان تصبروا وتفضلوا لغة السياسة وانتظار ما تفعله حكومة كابول العاجزة اساساً عن توفير الأمن لمراكزها الامنية ومؤسساتها، ولمجرد ظهور تشكيل عسكري، او مليشيا شيعية فانه تتحول الى مادة إعلامية جاهزة وغنية للحديث عن الحرب الاهلية والطائفية كالذي حصل تماماً في العراق بعد عام 2003.
الاميركيون من جانبهم لن يعترضوا على ظهور مثل هذه المليشيات، كما هو حال الحكومات، على أنها ليست معنية بنشر ثقافة اللاعنف والسلم الأهلي بين افراد، والعمل على تربية الجيل الجديد على التسامح والعفو، هذا اذا لم نقل بأنها تتحمل مسؤولية كبيرة في انتشار ثقافة العنف بين افراد المجتمع –وإن بشكل غير مباشر- من خلال تكريس واقع المحاصصة السياسية، والتوزيع الظالم للثروة، مع افرازات سيئة وخطيرة لأخطاء قاتلة في ميدان الاقتصاد.
الشحن الطائفي لانتاج القوة
ضحايا الارهاب الطائفي، وضحايا الارهاب الحكومي على حدٍ سواء يخلق صوراً مثيرة لمشاعر الحزن والأسى على المذبوحين على ضفاف الانهار، والمقتولين تحت أقبية السجون، الى جانب أشلاء الضحايا الذين يسقطون بسبب السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة وغيرها من وسائل القتل المريعة، كلها تشكل عوامل ضغط تدفع أهالي الضحايا، بل وكل منتمي الى هذه الشريحة المضطهدة للانتقام قبل التفكير بأي شيء آخر.
هذه المشاعر الملتهبة تشكل أداة تعبئة جاهزة لبعض الجماعات السياسية ذات الطابع المليشياوي لأن تخوض المواجهة مع الطرف المقابل، وليس بالضرورة باتجاه الحرب والاقتصاص او الثأر، وإنما لكسب امتيازات سياسية على أنها مقدمة للتفوق وأخذ زمام المبادرة من الآخرين على طريق إضعافهم وازاحتهم عن الساحة السياسية، وهو حديث في السياسة لسنا بوارد الخوض فيه وبجدوائية هذه الخطوة او عدمها، إنما الذي يهمنا؛ التوظيف السياسي للحرب الطائفية المرفوضة اساساً من جميع الطوائف، كما ثبت الحال في العراق بعد أيام من سقوط نظام صدام، فقد كانت المناطق المحسوبة على النظام، وتسمى بالمناطق الغربية (الانبار- صلاح الدين- الموصل)، الى جانب مناطق من محافظة ديالى، تترقب بحذر شديد ما تؤول اليه الاحداث بعد انهيار نظام صدام بتلك الصورة الغريبة والعجيبة على يد القوات الاميركية، فقد نقل لي صديق أن أهالي الفلوجة في تلك الايام بلغهم من مصادر غير معروفة أنهم مهددون بالانتقام على يد "قوات بدر"، القادمة من ايران! وهو الاسم الوحيد لتشكيل عسكري شيعي يسمع به العراقيون، وقد تأسس في ايران بإشراف الحكومة الايرانية، ويضم بالدرجة الاولى؛ جنود وضباط عراقيين تم إطلاق سراحهم من معسكرات الأسر خلال الحرب العراقية –الايرانية، وتم تعضيد هذه الفرية بمقولة دخول القوات الاميركية للعراق بمباركة شيعية، في حين أن معطيات الواقع آنذاك،والحقائق الساطعة تؤكد أن أكبر المستفيدين الاطاحة بصدام ونظامه هم الكُرد في شمال العراق، ولم يألوا جهداً في نصرة واستقبال القوات الاميركية الغازية.
وعلي؛ فان الشيعي الذي يروم الصلاة في مسجد لأهل السنة في بغداد، وفي تلك الايام الاولى تحديداً كان يواجه استعدادات مسلحة من الحارس وبعض الشباب تحسباً لأن تكون هذه الصلاة مقدمة لتحرك معادٍ من هذا الشيعي! حصل هذا في بغداد في وقت لم يشهد العراق أي نوع من الصدام الطائفي، بيد أن مشاعر الخوف والقلق من المجهول هو الذي جعل الشخص الذي يذبح ويقتل ويصوّر عمليات القتل والحرق والاعدام وكل انواع القتل البشع، أمراً مبرراً له، وأنه إنما يفعل كل هذا دفاعاً عن النفس، ثم جاءت الجماعات التكفيرية لتضفي بُعداً مقدساً لهذه المشاعر وأن الذي يقتل في هذه المواجهة يُثاب بقصر في الجنة، ومجاورة الرسول الأكرم!
في ظل هكذا تجاذب طائفي عنيف يكون الحديث عن الاعمار والبناء ضرباً من المثالية البعيدة عن الواقع، وإن كان ثمة إصرار على هذا فان مشاريع حيوية مثل؛ التعليم والصحة وسائر الخدمات ومشاريع تنموية ستكون تحت رحمة هذا التجاذب، ولن تسير وفق معايير مهنية وعلمية لتحرز النجاح والتقدم.
فاذا كانت الجماعات السياسية التي تدعي تمثيلها لمكونات اجتماعية، وانها تدافع عن مصالحها وحقوقها، مدعوة لاعادة النظر في طريقة التفكير إزاء التطورات والاحداث، ومن أروع ما تنبأ اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- وهو ينتقد بشدة منهج العنف بأن "من الخطأ الفادح استخدام سلاح العدو لمواجهته"، فالقوة لن تكون بهذا السلاح مطلقاً وإن وضعها بيدنا هو بنفسه، إنما القوة الحقيقية في القدرات والفرص العظيمة التي نمتلكها، وليس أقلها؛ العلم والمعرفة، والثقافة، والتراث العظيم، فضلاً عن قدرات انسانية هائلة يغبطنا عليها العالم بأسره، متمثلة بالشباب في نسبة كبيرة جداً قياساً بعدد نفوس الشعب العراقي، فقد أكد لنا وزير التخطيط مؤخراً بأن نسبة الشباب في العراق 68بالمئة، فليس من الإنصاف والعقل استهلاك كل هذه القدرات الهائلة والعظيمة في مواجهات خاسرة وحروب وهمية على أمل تحقيق القوة.
اضف تعليق