بخلاف الانخفاض المستمر في أسعار النفط، قد يكون الانهيار تدريجيا ويأتي استكمالا لسلسلة أزمات واختناقات حادة وهو ما يحصل الآن من تنامي استشراء الفساد في جسد الدولة وسيطرة الأحزاب على مقاليد الحكم خدمة للمصالح الذاتية دون الاكتراث لمصلحة الشعب ومستقبل البلاد، واستمرار نقص الخدمات وغياب العدالة الاجتماعية وتفشي البطالة والفقر...
بقلم: فرهاد علاء الدين
في غياب أي صلاح جذري، وفى حالة حدوث أزمة اقتصادية محتملة ومتزايدة، سيواجه العراق تفكك وتشرذم جغرافي محتمل.
إذا استمر الحال على ما هو عليه فإن الانهيار سيصبح واقع لا محال. والانهيار قد يكون نتيجة عامل أو مجموعة عوامل منها الاعتماد على الاقتصاد الريعى، تفشى الفساد، والفقر المزمن، وانتشار الفصائل المسلحة المتعددة في البلاد. وقد يأتي الانهيار سريعا في حال انخفاض أسعار النفط الى مستويات لا تسد نفقات الدولة لمدة عام أو أكثر، مما يتسبب باضطراب سياسي وتقاطع مصالح وتصادم فصائل مسلحة فيما بينها أو مع الدولة في سبيل السيطرة على الموارد، والذي يرافقه بالتأكيد زيادة معدلات الفقر والبطالة والتي تشكل عاملا ضاغطا على الشباب ليثوروا على النظام السياسي ويطالبون بالتغيير الجذري، وقد رأينا ومضة من هذا الحراك في تشرين ٢٠١٩.
لكن بخلاف الانخفاض المستمر في أسعار النفط، قد يكون الانهيار تدريجيا ويأتي استكمالا لسلسلة أزمات واختناقات حادة وهو ما يحصل الآن من تنامي استشراء الفساد في جسد الدولة وسيطرة الأحزاب على مقاليد الحكم خدمة للمصالح الذاتية دون الاكتراث لمصلحة الشعب ومستقبل البلاد، واستمرار نقص الخدمات وغياب العدالة الاجتماعية وتفشي البطالة والفقر.
ينبغي القول هنا أن عدم انهيار العراق خلال السنوات الماضية كان بسبب الوفرة المالية، حيث أسعار النفط كانت تغطي جميع النفقات التشغيلية وتكفي لجميع الأحزاب بتقاسم حصصها من دون تصادم، وبهذا استمر الوضع بالتردي، ولكن دون حراك من قبل الأحزاب السياسية.
لكن الوفرة المالية السابقة هذه المرة في خطر بسبب انخفاض أسعار النفط وترهل الإنفاق بسبب تضخم أعداد الموظفين وزيادة النفقات التشغيلية. وسيأتي اليوم الذي لن تتمكن فيه الدولة من إدارة مواردها المالية، وبذلك تتسارع وتيرة الانهيار مع أول انخفاض حاد بأسعار النفط. ولعل اهم مؤشر للانهيار وأخطرها هي عدم تمكن الدولة من دفع رواتب الموظفين لعدة أشهر متوالية، وقد لاح ذلك بالأفق العام الماضي، عندما تراجع سعر النفط دون الـ ٤٠ دولار للبرميل.
وردا على ذلك، اضطر رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي في ١٩ تشرين الثاني ٢٠٢٠ للإعلان بانه لن يكون بإمكان الدولة دوفع الرواتب في الشهر الأول من عام ٢٠٢١، لكن لجوء وزارة المالية الى خفض قيمة الدينار العراقي بنحو ٢٣٪ مقابل الدولار الأمريكي حال دون ذلك الى جانب على الرغم من الآثار القاسية التي تركها على السوق المحلية وزاد من سوء الأوضاع المعيشية لعموم الأفراد الموظفين منهم والعاطلين وعموم الطبقات الفقيرة بنسب متباينة. يضاف الى ذلك القرار تعافي سوق النفط العالمية وعودة أسعار النفط الى ما يقارب الـ ٧٠ دولار للبرميل. وبذلك تمكنت الحكومة من تسديد الرواتب، لكن ذلك كشف عن مدى هشاشة مصادر الدخل الحكومية في العراق.
وفى جال تدهور الوضع أكثر، فان السيناريو الأقرب سيكون انهيار النظام الحالي من الناحية الإدارية وتراجع دور الحكومة الى تصريف أعمال محدودة مع السيطرة على مناطق معينة منها مركز بغداد والمنطقة الخضراء. في هذه الحالة تصبح الحكومة ناقصة الشرعية، وقد ترفض جهات من داخل بعض المحافظات الاعتراف بها، وبذلك قد تفقد الحكومة الاتحادية السيطرة على أغلبية المحافظات.
ومن المتوقع أن يشتد صراع السيطرة على المناطق الجغرافية وخصوصا المحافظات لتحاول القوى الحزبية وخصوصا المسلحة منها السيطرة عليها وعلى مواردها لتصبح إقطاعية أو إمارة تحت سيطرتها وتتحكم بجميع شؤونها. ونظرا لانتشار السلاح بين فصائل متعددة كما أشرنا إليه آنفا، فان المناطق الجنوبية ستتحول الى إمارات ومقاطعات تتقاتل داخلها الفصائل المسلحة بهدف بسط النفوذ، ويكون الاقتتال سيد المشهد.
السيناريو الآخر يتمثل بثورة جياع ونزول مجاميع غفيرة للشارع والسيطرة على المرافق الحكومية وإعلان تمردها على حكم النظام القائم ورفضها لسلطة الأحزاب، مما ينذر بنشوب فوضى في جميع المحافظات وخصوصا الجنوبية منها، وتجلت بعض هذه المشاهد في تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر عندما تم محاصرة وإغلاق وإحراق مؤسسات حكومية ومقرات أحزاب في ذي قار والنجف، وكربلاء، وميسان، والبصرة.
إقليم كوردستان من جانبه وفي حال وقوع انهيار من هذا النوع ستمتد يده الى المناطق المتنازع عليها في محاولة لضمها وتحصين مواضعه للحيلولة دون انتقال شرارة الفوضى الى داخل مدنه. بالمقابل ستنتفض الفصائل المسلحة العربية لمنع أي محاولة لقضم الأرض في المناطق المتنازع عليها ومحاولة تغييرها هويتها، حتى لو تطلب الأمر مقاتلة قوات البيشمركة.
المكون السني سيعمل على تحصين مناطقه والسيطرة عليها إداريا وعسكريا وهذا لن يكون سهلا بسبب تواجد الفصائل المسلحة الشيعية في هذه المناطق مما سيؤدي الى نشوب قتال بين الحشد العشائري في المناطق السنية والحشد الشعبي والفصائل الأخرى من اجل بسط النفوذ في المناطق السنية.
النتيجة النهائية لهذا الانهيار قد تنتهي بتقسيم العراق الى دويلات صغيرة، ولكن يجب أن يعلم الجميع بان تقسيم العراق ليس بالأمر السهل وذلك بغض النظر عن السياق، فلا يمكن التقسيم على أساس عرقي، بين العرب والكورد، أو على أساس مذهبي بين الشيعة والسنة أو على أساس خليط من الاثنين بين السنة والشيعة والكورد. ذلك أن تقسيم العراق وعلى أي أساس كان سيعرض العراقيين حرب داخلية طاحنة يتخللها تطهير عرقي في مناطق كثيرة متعددة الأعراق والمذاهب.
الأسواء من كل ذلك سيتمثل بدول الجوار التي لن تقف مكتوفة الأيدي، وستتدخل بشكل مباشر لبسط نفوذها داخل الإمارات والإقطاعيات المتناحرة، وذلك في حال انهيار الحكومة المركزية، وليس من المستبعد أن تتوغل عسكريا داخل العراق بذريعة حماية أمنها الوطني، التوغل الإيراني في الجنوب والتوغل التركي في الشمال والتدخل السعودي في الغربي سيكون احتمالا واردا جدا. ليصبح العراق ساحة لتصفية الحسابات وحماية المصالح بين هذه الدول حيث يذكرنا ذلك بمشاهد مماثلة قبل قرون عندما كان العراق بمثابة ساحة للصراعات بالوكالة بين الإمبراطوريات القديمة لهذه الدول.
وقف الانهيار وبناء الدولة
بات الموقف اليوم في العراق يستلزم حلول جذرية لتفادي التداعيات الكارثية المحتملة للوضع الراهن، وعلى جميع الأحزاب السياسية والقيادات الدينية والمجتمع المدني العمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والعودة بالبلاد الى ناصية السلم الأهلي والعيش المشترك والمسك بناصية البناء والتنمية المستدامة. والتوافق حول سلسلة حلول مشتركة
الحلول السياسية
أصبح من الضروري تغيير النظام السياسي من خلال تعديل الدستور لتلبية متطلبات وتطلعات المجتمع العراقي بشكل كامل وفي المقدمة إجراء انتخابات نزيهة شفافة بعيدة عن التزوير والتلاعب.
يجب على النخبة السياسية وخصوصا الأحزاب الحاكمة وضع المصلحة العليا للبلاد فوق المصالح الذاتية وهذا لن يتحقق إلا بترك الممارسات الحالية من توزيع المناصب حسب المنسوبية والمحسوبية، وتبني مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب. في نفس الوقت، يجب على هذه الأحزاب تشكيل حكومة كفاءات قادرة على إدارة البلد بعيدا عن التأثيرات والتدخلات الحزبية، واختيار الوزراء والدرجات الخاصة على أساس الخبرة والكفاءة وليس الانتماء الحزبي. وإلغاء المكاتب الاقتصادية للأحزاب.
حصر السلاح بيد الدولة
إن وجود السلاح بيد المجاميع التي أشرنا إليها خارج نطاق سيطرة الدولة لا يجب أن يستمر على المدى الطويل، فيجب حصر هذا السلاح داخل المؤسسات العسكرية والأمنية التابعة للدولة، وعلى الدولة بسط سيطرتها ونفوذها على كل أرجاء البلاد وفقا للدستور. ولهذا السبب، يجب على الفصائل المسلحة الانخراط ضمن التشكيلات العسكرية والأمنية الخاضعة لسلطة القائد العام للقوات المسلحة بشكل مباشر دون أن تكون هذه الفصائل تابعة للأحزاب والشخصيات والقضاء على جميع المظاهر المسلحة. وينبغي أن يكون صوت الدولة هو الأقوى والأعلى، وهي المسؤولة عن حفظ أمن المواطن وسيادة البلاد.
التنمية الاقتصادية وإصلاح نظام الحوكمة
التخلي نهائيا عن الاقتصاد الريعي وإجراء الإصلاحات الاقتصادية الضرورية يجب أن تصبح أولوية لاي حكومة قادمة ويجب اعتماد خطط التنمية على ثلاث مراحل الطويلة والمتوسطة والقصيرة وخصوصا ما يتعلق بتطوير القطاع الصناعي والزراعي والسياحي والمالي مما يتيح الابتعاد عن الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل القومي عبر تنويع مصادر الدخل، بالإضافة الى تطوير الصناعات النفطية واستخدام النفط الخام كمواد أولية للتصنيع وليس للتصدير فحسب.
ينبغي رسم وتنفيذ خطة متكاملة للإصلاح الإداري والمالي وإيقاف الهدر في المال العام. وخفض الإنفاق الحكومي من ٦٥٪ الى معدلات طبيعية من الموازنة الاتحادية، كون الحكومة هي المشغل الرئيسي والأكبر، تشجيع القطاع الخاص وإناطة مسؤولية تطوير البلد بهذا القطاع هو الحل الأمثل. من الممكن هنا أن تكون الورقة البيضاء لحكومة الكاظمي نقطة شروع جيدة مع وجود إرادة لتنفيذ المفيد مما تضمنته من حلول للإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي. هناك أيضا ضرورة للانتقال من مرحلة الشعارات الى مرحلة التنفيذ خلال محاربة الفساد، ويبدأ هذا العمل بتفعيل قوانين مكافحة الفساد وإيقاف تدخل الأحزاب لحماية الفاسدين التابعين لهم. والذي يستوجب تفعيل دور الادعاء العام والقضاء وإبعاد التدخلات السياسية في عملهما وعلى القضاء إنزال أقسى العقوبات بحق الفاسدين من الموظف البسيط الى الوزير ويجب ألا يقبل القاضي بتدخل الأحزاب مهما حصل.
في حين أن تنفيذ هذه الحلول سيتطلب تحولا صعبا وجذريا بعيدا عن هياكل الحكم الحالية في العراق، ومن المسلمات بان الاستمرار في الوضع الحالي ليس ممكنا، إذا لم ينهار العراق بسبب العوامل الداخلية فانه سينهار بسبب العوامل الخارجية منها انخفاض أسعار النفط في القريب القادم. إن الأحزاب الحاكمة وزعاماتها يجب ان تعلم بانها تتحمل المسؤولية الكاملة عن الانهيار المحتوم للدولة، وحينذاك فإن المجاميع الغاضبة من الشعب والمنكوبة منها بوجه خاص سوف لن ترحمها وسيطيح السيل الجارف بالجميع. لذا فإن الطريق الوحيد للنجاة وإنقاذ البلاد والعباد يكمن في تبني خيار الإصلاح قبل فوات الأوان.
اضف تعليق