كشفت المواقف الأخيرة لدول أوربا وتصريحات المسؤولون فيها عن عمق التبني السياسي والثقافي الأيديولوجي الأوربي لدولة اسرائيل ولأسباب تتشعب بين مصالح سياسية واقتصادية وعوامل ثقافية وحضارية تظل هي الأكثر إدامة واستمرارا للصراع العربي الاسرائيلي والأكثر تضمينا لمحتوى هذا الصراع، وبهذا تشكل اسرائيل في موقعها وهويتها التوراتية والحداثوية...
وأخيرا شكلت الأقطاب الاسلامية الأسيوية مواقع التبني العقائدي والأيديولوجي الديني للقضية الفلسطينية ولاسيما على مستوى الشعوب الاسلامية التي تشكل في بعض دول آسيا عمقا ديمغرافيا مهما ورئيسيا للاسلام في هذا العصر.
وبعضها يشكل على المستوى الرسمي مواقع التبني العقائدي والأيديولوجي السياسي للقضية الفلسطينية لا سيما مع صعود تياراتها الاسلامية الأيديولوجية والنضالية في بعض دول آسيا الى مواقع السلطة والقدرة العسكرية، وما يعزز ذلك التبني الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية تلك النزعة الدينية الكامنة في شعوب آسيا الاسلامية والتي تشكل طاقة ممكنة في الفعل السياسي والعسكري الذي قد يكون في مواجهة مباشرة مع اسرائيل وهو احتمال متقدم جدا في ظل الصعود السياسي للإسلام الأيديولوجي ذا المنحى الحاد في المواجهة مع الغرب الذي تعد اسرائيل من وجهة نظره القاعدة العسكرية والأمنية لهذا الغرب المضاد للإسلام.
مما يفرض تحديات كونية تتصل بالعالم الحديث الذي يقسمه البحر الأبيض المتوسط الى شرق وغرب وشمال وجنوب، لا سيما وأن هذا البحر قد خاضت فيه أطرافه الحضارية سلسلة من المواجهات العسكرية والحربية كانت تمهد لها أو ترافقها دائما المواجهات الثقافية والفكرية النابذة والمتأزمة بينها وفي حالة من التكريس المستمر في هذه المواجهات التي لم تتمكن أطراف البحر الأبيض المتوسط شمالا وجنوبا وشرقا وغربا من تجاوزها أو التخلي عنها أوعن إستراتيجيات تأبيد المواجهة.
والتأبيد ينتج عن التحديات الحضارية والثقافية بينما لا ينجح التأبيد في المواجهة المؤقتة وغير المستمرة في تحديات المصالح والتوسعات الميدانية، فهي رهينة في نهاياتها بإنجاز وتحقيق المصالح وتوافقات خرائط التوسعات وحدود الدول، لكن تظل المواجهات الحضارية والثقافية متأبّدة وغير قابلة للتوافق إلا في حدود مؤقتة وتهدئة متعمدة، وهوما يعكس طبيعة المواجهة الحضارية والثقافية بين الغرب والاسلام بدلالة محاولات تأبيد المواجهة التي يمارسها الغرب مع الاسلام تحت مسميات حقوق الانسان وحقوق المرأة والديمقراطية والليبرالية وحرية الرأي والتي تتعمد المؤسسات الغربية الرسمية والثقافية على إبراز حجم الفاصل وعدم التوائم بين قيم الغرب والاسلام.
ورغم المحاولات المتعمدة والمستمرة على تغطية حقيقة المواجهة الحضارية والثقافية والسياسية بين الاسلام والغرب وهي تغطية متعمدة ومخطط لها من جانب سياسات الدول والحكومات في الغرب ودول آسيا وأفريقيا الإسلامية، وتبرير البعض من الكتاب لا سيما العرب أن الغرب غير موحد بإزاء فلسطين وقضايا العرب، وأن الغرب متعدد الاتجاهات والرؤى الفكرية والثقافية لكن تظل الواجهات اليمينية والمؤسسات المتطرفة فكريا وثقافيا وجزء منها المؤسسات الرسمية هي الفاعلة على صعيد العلاقات المتضادة بين الغرب والإسلام، ولذلك تنفجر بين الحين والآخر موجة من التحديات والمواجهات ذات المنحى الحضاري والثقافي وبشكل خطير لا سيما في الإساءة الحضارية والثقافية المتكررة التي تمارسها قوى الغرب الثقافية والسياسية تجاه شخصية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه واله وسلم، وهي تكشف عن عمق ذلك التوتر الهوياتي والثقافي بين الاسلام والغرب، وتشغل القضية الفلسطينية محورا رئيسيا في هذا التوتر الدائم والمستمر بين الغرب والاسلام أو لعلها محرك كل ذلك التوتر والتأزم الحديث بين الاسلام والغرب.
وقد كشفت المواقف الأخيرة لدول أوربا وتصريحات المسؤولون فيها عن عمق التبني السياسي والثقافي-الأيديولوجي الأوربي لدولة اسرائيل ولأسباب تتشعب بين مصالح سياسية واقتصادية وعوامل ثقافية وحضارية تظل هي الأكثر إدامة واستمرارا للصراع العربي – الاسرائيلي والأكثر تضمينا لمحتوى هذا الصراع، وبهذا تشكل اسرائيل في موقعها وهويتها التوراتية والحداثوية ومع حدة هذين النقيضين في بنيتها الأساسية تلك البديهية الأولى والمتقدمة جغرافيا – حدوديا في المواجهة الحضارية والسياسية بين الاسلام والغرب.
وفي هذا التبني الأيديولوجي الأوربي رفعت أعلام اسرائيل فوق وزارة الخارجية النمساوية في أزمة الحرب الأخيرة على غزة وأعربت انجيلا مركل مستشارة ألمانيا ووزير خارجيتها عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في هذه الحرب، ومنعت فرنسا وحكومة ماكرون خروج تظاهرات في باريس تؤيد شعب فلسطين في الدفاع عن نفسه ومواجهة الاعتداءات الاسرائيلية، وبذلك تم تكريس المواجهة بين الاسلام والغرب من وجهة نظر القوى الاسلامية الأسيوية الشعبية والرسمية لاسيما في الدول التي تتبنى الاسلام الأيديولوجي رسميا فيها وهو موقف تكاد تتوحد فيه رؤى ومواقف الاسلام الأسيوي شعبيا ورسميا.
ولكن بدا للمراقب والمتابع للشأن العربي السياسي وعلى كلا المستويين الشعبي والرسمي انقساما حادا في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، فانحياز النظام الرسمي العربي --باستثناء عدد محدود من الدول العربية غير الفاعلة والمؤثرة في القرار الرسمي العربي والدولي -- الى الرؤية الغربية في حل الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي والتي تعتمد فيه هذه الرؤية السياسية الأوربية على عدم الجدية في تطبيق قرارات الهيئة الدولية في دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية والتهاون في تطبيق تلك القرارات الدولية وغض النظر عن التوسع في بناء المستوطنات غير المشروعة دوليا وتاريخيا، جعل هذا النظام السياسي العربي الرسمي يمر بحالة من الفوضى السياسية والاستراتيجية في رسم سياساته واتخاذ قراراته وانعكست ارتباكات هذا الموقف المزري على عمل وسلوك الجامعة العربية التي عجزت عن اصدار بيان يتناسب وحجم الضرر الذي لحق بالشعب الفلسطيني من جراء الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة ومنها الاعتداءات الأخيرة على غزة والقدس.
ولا شك ان انتقال مراكز القوة والتأثير في قرارات الجامعة العربية الى عواصم الدول الخليجية التي تنبني أو تندرج سياساتها الخارجية في إطار السياسات الدولية التي تهيمن عليها الرؤية السياسية الغربية وتقصي من حسابتها الإستراتيجية والفكرية تحديات المواجهة الحضارية والثقافية مع الغرب -الذي تجده حليفا دائما-، جعل من العسير على الجامعة العربية تبني قرارات سياسية مستقلة معبرة عن الهوية والذات العربية على أقل تقدير من القضية الفلسطينية مما دعا الى انفصال الجامعة العربية عن الواقع العربي الشعبي والسياسي النخبوي وإنزوائها بعيدا عن الهم العربي الحضاري والسياسي وصولا الى الاقتصادي.
لقد غذت التصورات النخبوية العربية وأنتجت طموحات ومحاولات العودة الى الذات العربية وسعت الى توثيق متبنيات الهوية العربية في الفعل الحضاري والسياسي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي مع حركات الاصلاحية العربية أو مع النهضوية الاسلامية اللتين كرستا همومهما الفكرية والنضالية من أجل البناء الحضاري الحديث للأمة العربية والإسلامية، وكانت الجامعة العربية هي الخطوة الاولى والأخيرة المنجزة على أرض الواقع بالنسبة للنخبوية العربية وكانت هذه الجامعة تستمد مقوم وجودها وهويتها من الرؤية النخبوية للحضارة العربية – الاسلامية، لكن الجامعة العربية تراجعت أخيرا عن كل ذلك الهم الحضاري والسياسي الذي أرسته النخبوية العربية وكان ضحيتها التخلي الحضاري والثقافي والسياسي عن قضية فلسطين والقدس.
ومع السياسات المتبعة في النظام السياسي الرسمي العربي و مع الضخ الاعلامي والثقافي والتوجيه السيكولوجي المقصود من خلال وسائل هذا الاعلام تمت إزاحة الهموم الحضارية والمحورية الثقافية عن الذات العربية وأنتجت فكرة العزل المستمر والمقصود للقضية الفلسطينية عن التبني الحضاري والثقافي لها على مستوى السياسات الخارجية العربية، والحصر المقصود لها أيضا على المستوى القومي في ظل المشروع القومي العربي الذي تنامى في ستينات القرن العشرين مما يدعها مجرد قضية سياسية نتجت عن تراكمات الاثار السلبية للحروب لاسيما الحربين الكونيتين الأولى والثانية، وفي أحسن أحوالها فإنها تتعلق بمصير شعبين يتنازعان حق السكن والوطن على هذه الأرض.
وقد انساقت شرائح وفئات ولعله كبيرة ومؤثرة من الشعوب العربية باتجاه العزل المتبع للقضية الفلسطينية عن أولويات الهم العربي السياسي والاجتماعي بعد ان عزلتها الأنظمة العربية الرسمية عن المواجهة الحضارية والثقافية مع الغرب، وقد أسهمت ظاهرة الانقلابات العسكرية في خمسينات القرن العشرين في الدول العربية في تخلي الانسان العربي مبكرا عن القضية الفلسطينية رغم الادعاءات الاعلامية في ظل أنظمة الانقلابات هذه بمركزية القضية الفلسطينية.
ولعل التفسير الذي يجده هذا العزل الموجّه مبررا لدى هذه الفئات من العرب هو فشل المشروع القومي العربي وهزائمه المستمرة على مستوى الحروب وعلى مستوى السياسات الداخلية التنموية والاقتصادية مما تسبب في الانكفاء على همومها ومشاكلها القطرية ومتاعبها السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية على يد السلطات والحكومات العربية كافة هو ما يجعل تلك الفئات ولعلها الواسعة من العرب بمنأى عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، مما أنتج فراغا سياسيا عربيا يكاد يكون عاما في كل القضايا العربية مما مهد لدول آسيا الاسلامية لاسيما ايران وتركيا من استغلال هذا الفراغ واملائه بطروحاتها الاسلامية الأيديولوجية والسياسية بل واملائه بالمساعدات العينية والمادية والتسليحية والتي وجدت لها استجابة في الشارع الفلسطيني وبعضا من التأييد في الشارع العربي مما أحرج دول وحكومات العرب وجعلها في موضع الدفاع الاعلامي عن شرعيتها ومشروعيتها العربية.
لكن الخلفية الحضارية والثقافية الاسلامية والعربية ومركزية القدس والمسجد الأقصى فيها والتأويل الديني–الاسلامي المتأخر للآية 4، 5، 6، 7، 8، من سورة الاسراء ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) باعتبار الوعد الألهي الناجز في خروج اليهود الثاني من الأرض المقدسة وفق التأويلات الاسلامية المتأخرة.
هو ما يشكل المحرك الديني الديناميكي في عملية الصراع مع إسرائيل والموجّه الحضاري والثقافي في إدامة زخم هذا الصراع الذي قد ينهيه على أرض الواقع أو يضع حدا له هو تحقيق وإنجاز دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية والتي تصطدم بطبيعة الفهم التوراتي للميعاد اليهودي والخلفية الثقافية-اليمينية للأحزاب الاسرائيلية التي تخادع الوقائع بانتقالاتها المزدوجة بين العلمانية والدينية، وبذلك تشهد القضية الفلسطينية استقطابا حضاريا وثقافيا-دينيا أكثر مما هو صراع سياسي او حدودي.
ولا بأس بالتذكير بالشعارات القومية والاسلامية التي كانت رائجة في أيام الكفاح العربي المسلح ضد اسرائيل والتي تنص على أن الصراع مع اسرائيل صراع وجود وليس صراع حدود وهو الفهم الذي لازال ماكثا في التصورات الاسلامية لطبيعة الصراع العربي-الاسرائيلي بعد ان تخلت عنه الى حد ما التصورات القومية، ولعل ما يبرر مكوثه او عودته في التصورات الاسلامية وأحيانا القومية هو الأطروحات اليمينية والتوراتية الاسرائيلية المستمرة والهادفة الى استباحة المسجد الأقصى وضمه الى الأراضي المغتصبة لغرض إزالته والكشف عن الهيكل المزعوم الذي يربض في مركزية الصراع الديني واستقطابه الحضاري والثقافي حول القدس والمسجد الأقصى.
اضف تعليق