تتنافس ايديولوجيات العراقيين السياسية على تصنيف العمق العراقي وفق متبنياتها الفكرية والثقافية وتتأرجح إقليميا في تحديد الهوية العراقية، وهو تحديد يشكل استفزازا دائما بين هذه المتبنيات ويضيف شرخا آخر الى الشروخات التي تنهش بالذات العراقية المهددة حتى بافتراضات وجودها بعد الحصار المفروض على الهوية الوطنية العراقية...
تتنافس ايديولوجيات العراقيين السياسية على تصنيف العمق العراقي وفق متبنياتها الفكرية والثقافية وتتأرجح إقليميا في تحديد الهوية العراقية، وهو تحديد يشكل استفزازا دائما بين هذه المتبنيات ويضيف شرخا آخر الى الشروخات التي تنهش بالذات العراقية المهددة حتى بافتراضات وجودها بعد الحصار المفروض على الهوية الوطنية العراقية نتيجة العلاقة العكسية بينها وبين اتجاهات هذه المتبنيات الفكرية، فكل متبنى فكري–ايديولوجي عراقي يريد الأخذ باتجاه وجذور هذه الهوية نحو أصوله العقدية والنظرية مما أوحى بصياغات ليست متعددة فحسب وانما مختلفة للهوية العراقية.
ويبدو أن الثنائية في تصنيفات العمق العراقي كانت سابقة تاريخيا على هذا التنافس الأيديولوجي –السياسي الحديث وتمتد الى فترات التكوين الأول للعراق بعد الفتح العربي–الاسلامي في المنطقة، وهو التكوين السياسي والاجتماعي الذي ظل فاعلا ومؤثرا في توجيه مسارات وانتماءات العمق العراقي --- مع التشديد على بقاء آثار التكوينات الأقدم للعراق قبل الفتح العربي ورسوبها في القاع الاجتماعي والثقافي العراقي لكنها ظلت حبيسة النزوعات النفسية والعاطفية والمحفزات السلوكية ---
وقد دأب البلدانيون - الجغرافيون المسلمون على تسمية العراق بالعراقين ويعنون بهما الكوفة والبصرة، وقد ورد هذا الاسم وبتلك التسمية الثنائية في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للبلداني شمس الدين أبي عبد الله محمد المقدسي تـ 380 هـ وفي معجم البلدان للبلداني ياقوت الحموي تـ 636 هـ وفي أثار البلاد وأخبار العباد للبلداني زكريا بن محمد بن محمود القزويني تـ 682هـ وجاء في لسان العرب لابن منظور تـ 711 هـ: والعراقان: الكوفة والبصرة، وهي تسمية شاعت وانتشرت في كتب التراث العربي–الاسلامي.
وعمد المؤرخون القدامى الى توصيف العراق الاسلامي بالعراقين أو المصرين ويعنون بهما الكوفة والبصرة، وأول ذكر ورد لهما بوصف المصرين ورد في حوادث سنة خمسن للهجرة في تاريخ الطبري وجاء على لسان يزيد بن رويم حين رفع دعوى ظالمة على عمرو بن الحمق الخزاعي بقوله لزياد بن أبيه فيه أنه: " قد أنغل المصرين " والغِل – بالكسر- بمعنى الغش والحقد والغَل – بالفتح - بمعنى الخيانة – راجع المختار من الصحاح - وكان عمرو بن الحمق الخزاعي من شيعة أمير المؤمنين علي وزياد بن ابيه من شيعة معاوية وهي أول اشارة الى انشطار الهوية السياسية في العراق بين الحاكم والمحكوم والتخوين الذي دأب عليه تاريخيا الحاكم في العراق تجاه اهل العراق، وفي كتاب الملاحم لابن المنادي تـ 256هـ أن معاوية أشار الى الكوفة والبصرة باسم المصرين بقوله للزبير (دونك الكوفة والبصرة... فانه لاشيء بعد هذين المصرين)، وهكذا تبدو هذه التسمية شامية أو سياسية أموية، وعلى أثر حرب الجمل أو بسبب منها صنفت فيما زعموا لدى القدماء أن الكوفة علوية الهوى والبصرة عثمانية هذا الهوى، وهو نوع من التأصيل الأيديولوجي في انتماءات العمق العراقي وهو تصنيف وضعه وأسسه عبد الملك بن قريب الأصمعي تـ 216 هـ – راجع، العقد الفريد ج7- ولم نعثر على تصنيف للعراق أقدم منه عند غيره من القدماء وهو ما يكذبه الحال في البصرة، ولكن الأصمعي أموي النزعة والهوى فأبى وفق ما يتبنى من أيديولوجيا أن تكون البصرة شيعة لعلي.
والتوظيف المستمر في تلك الثنائية العراقية تطورت باتجاه ثنائية العقل العراقي في تصنيف ذاته كوفيا وبصريا، فكانت مدارس العلم اللغوية الكوفية -النقلية والبصرية- العقلية تؤسس لتلك الثنائية في العقل العراقي التي أكسبت العلمية الاسلامية تطورا ونتاجا معرفيا مؤثرا ومؤسسا للحضارة الاسلامية التي لا شك أن فكرها وعلمها تأسس في الكوفة والبصرة في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وكان الجدل الحاد بين أهل النقل وأهل العقل من العراقيين تضيف بعدا أخر في تلك الثنائية الديناميكية والتي عبر عنها الجاحظ بالفطنة عند أهل العراق ومع الفطنة يكون البحث والتنقيب في قول الجاحظ.
وهذا البحث والتنقيب قد اثار نزعة من روح الجدل في اهل العراق وهو يفسر ايضا ظهور علم الكلام الذي يعتمد الجدل الكلامي في العراق ليضيف انفصاما ثقافيا في الذات العراقية المبكرة منذ الجدل المبكر بين مدرسة الحديث –النقل ومدرسة الرأي– العقل والذي ظل شغالا في العراق حتى القرن الرابع أو الخامس الهجري الذي بدت فيه الكلامية المعتزلية والامامية ومنافستهما الحنبلية ومن ثم الاشعرية ظاهرة مستبدة في ثنائية العقل العراقي الذي رشح عنه انفصام الذات العراقية ثقافيا.
فالثقافة تتشكل وفق مقاسات العقل وترتدي تبريراته وتحتوي تنظيراته وقد رشح عنها تلك الثنائية الجدلية والمفترضة في الهوية العراقية، لا سيما اذا كشفت لنا الجذور التاريخية عن أخطر مكامن ذلك العمق العراقي في انشطاره الفكري والثقافي.
يقول ابن ابي الحديد المعتزلي (وطينة العراق مازالت تنبت أرباب الأهواء وأصحاب النحل العجيبة والمذاهب البديعة، وأهل هذا الإقليم أهل بصر وتدقيق ونظر وبحث عن الآراء والعقائد وشبه معترضة في المذاهب وقد كان منهم أيام الأكاسرة مثل ماني وديصان ومزدك وغيرهم) – شرح نهج البلاغة ج 7 ابن أبي الحديد -.
لقد امتزجت تلك الأفكار التي أنتجها العقل العراقي في صيروراته المتعاقبة بالذات العراقية التي تعددت وانشطرت وفق متبنياتها من هذه الأفكار سواء ما قبل الاسلام منها أو ما بعد الاسلام، وهي ذات مضمون اجتماعي – ثقافي رغم شكلها الديني الاسلامي أو ما قبل الاسلامي وهو ما فسح لها المجال لتتركب في مضامين وأشكال الهويات الفرعية الكبرى والصغرى في العراق. وبالمناسبة فهي كلها فرعية لكنها اصطدمت بمحاولات القضم المتبادل التي مارستها بعض الهويات الكبرى.
الهوية القاضمة:-
لقد كان بموازاة انشطار الذات العراقية انشطار الوطن العراقي وهو انشطار على مستوى التصنيف الاداري الرسمي للعراق، فقد قسم في عصر بني أمية الى اقليم العراق وكان يضم اليه توابع ايران وما وراء النهرين وعمان، واقليم الجزيرة الفراتية وكان يضم اليه توابع اذربيجان وأرمينيا – النظم الاسلامية، د. فاروق عمر - واستمر هذا التقسيم الاداري مع التغيير في توابع المناطق في عصر بني بويه في القرن الرابع والخامس الهجريين فكان العراق يقسم اداريا الى اقليم العراق ويضم الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسامراء وحلوان، واقليم الجزيرة وكان يضم ديار بكر وديار ربيعة وديار مضر – العراق في العصر البويهي، د. محمد حسين الزبيدي - وفي عصر السلاجقة في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري ظهرت تسمية سلطان العراقين، عراق العرب وعراق العجم، وهو لقب يطلق على سلطان السلاجقة استنادا الى ما ورد في خريدة القصر وجريدة العصر لعماد الدين محمد بن محمد الاصبهاني تـ 597 هـ - تحقيق، محمد بهجة الأثري، راجع ما كتبه سلام طه عراق واحد أم عراقان وما كتبه علاء اللامي ما قصة العراقين - واستمرت تلك التسمية وذلك المصطلح الاداري والتاريخي بل وشاعت في العصر المغولي وما أعقبه من الجلائري والتتاري والتركماني– راجع العراق بين احتلالين، عباس العزاوي – ويبدو ان اسم العراق لدى هؤلاء الأقوام الفاتحين من الاتراك كان يشمل كل بلاد ايران وما جاورها فكانوا يقسمونه الى عراق العجم وعراق العرب وهي تعكس أهمية أرض العراق وشيوع اسمه في سياسة وثقافة هؤلاء الفاتحين من البدو الترك حتى أطلقوا على كل تلك الجغرافيا الواسعة اسم العراق – راجع أيضا، رحلة ابن بطوطة --.
وكان ذلك عاملا اخر يتركب مناطقيا في مضامين الهويات العراقية التي اندمجت في مناطقها وحدودها الجغرافية وسوغت إمكانية انشطار الذات العراقية بين ما يعرف عراقيا بالمنطقة الغربية والمنطقة الشرقية وهي بقايا عراق العرب والمنطقة الشمالية بأكرادها ومسيحييها وتركمانها وهي بقايا عراق العجم، وفي كلا بقايا العراقين نشهد نزوعا هوياتيا نحو قضم الهويات الأخرى والاستحواذ على العمق التاريخي العراقي الذي يتركب أساسا في هذه الهويات الفرعية التي تكونه وتؤسسه تاريخيا واجتماعيا، وهو ما يعد الجذر الأول في امكانية تأسيس الهوية الوطنية – العراقية فالعراق وطن مشترك لكل هذه الهويات وقد تصلبت فيه جذورها النسبية وامتداداتها التاريخية، لكن الموروث من محن التقسيم الإدارية القديمة والتجزئة التاريخية التي شملت الاثنية والمذهبية وسياسات السلطات المتعاقبة على العراق في إدامة هذا التقسيم وتكريس هذه التجزئة والمخيال المحدود مناطقيا وعقائديا الذي يغذي هذه الهويات العراقية المتعددة أنتج تصورا جماعويا لدى كل منها بانها لصيقة تاريخ العراق وان كل ما سواها من الأقوام والاثنيات لحيقة به وطارئة عليه، مما يدع كل هذه الهويات تصر على استيعاب العراق وقضمه بشكل كامل في ذاتية – دكتاتورية جماعوية قومية أو دينية وتلجأ الى نبذ ودفع الهويات الأخرى عن العراقية باعتبارها طارئة أو غير أصيلة.
وتلك الدكتاتورية – الجماعوية والموروثة في الذات العراقية المتشعبة هي التي انتجت ذلك الوله العراقي بالدكتاتور واعتباره المنقذ الوحيد والممكن للشأن العراقي الأمني والسياسي مثلما أنتجت فكرة الآخر الطارئ في الفكر الهوياتي العراقي، ذلك الهوس العراقي الذي نشهده دائما في نفي العراقية عن الآخرين من العراقيين وأقرب مثل في ذلك هو مصطلحات البؤس الوطني مثل -الجوكر والذيل- وهو ما يفسر أيضا شيوع مفردات التخوين ومصطلحات العمالة والخيانة والتبعية في أدبيات الخطاب العراقي لا سيما السياسي الرسمي والشعبي منذ سقوط الدولة العراقية في تموز في العام 1958م.
وقد وجد الفكر القومي المتطرف مناخاته الممكنة في هذا السقوط للدولة العراقية وكان ممثله حزب البعث في العراق الذي سعى الى أخذ المبادرة في السلطة والعمل على تكريس وتأصيل العمق العراقي بشكل أحادي قوميا ومناطقيا وأخيرا طائفيا وفق متبنى ايديولوجي يسعى الى دمج الهوية العراقية في أصوله العقدية والنظرية وتكريس مفاهيم التبعية والتخوين.
وقد نمت وربت على اثر ذلك تلك التجزئة الوطنية وتكرست في مخيال عراقي اجتماعي وسياسي صنعه التغييب المتعمد للحقوق التاريخية والسياسية للهويات الفرعية المنضوية في الوطن العراقي من خلال سياسات المحو التي تعمدها الفكر القومي -البعثي المتطرف، وتشهد بذلك سياسات التعريب التي نفذتها حكومات البعث في بعض مناطق العراق – كركوك مثالا- وسياسات النفي القومي للهويات الأخرى – الهوية الايزيدية مثالا - حيث سعى نظام البعث الى تعريبها بل عمد هذا النظام وفي أخطر سياساته المضادة للهوية الوطنية الى نفي الأصل العروبي لسكان الجنوب في العراق واحالة أصولهم الى أقصى بقاع الأرض عن العراق، بل قد مارس سياسات النفي والترحيل القسري وبدواع طائفية وقومية بحق شريحة كبرى من العراقيين وهم الكرد الفيليين ملحقا بهم تسمية التبعية.
وتتأصل تلك السياسات تاريخيا وايديولوجيا في ذلك النزوع نحو الهوية القاضمة التي تريد استيعاب العراق وهوياته في مخيال محدود مناطقيا وعقائديا تغذيه الرغبة الفاوشستية في السلطة والرغبة الجامحة في الثروة، فالعراق الأكثر إغراءا وجذبا في الجشع السياسي والاستحواذي. وكان الفكر القومي ولحيقه الفكر الطائفي هو الأكثر نزوعا وشروعا نحو سياسات الهوية القاضمة التي تظل تبحث عن العمق العراقي في خارج حدود الوطن سواء عربيا أو إقليميا وتجاوز جغرافيا العراق التي رسمتها وحددتها تاريخيا ووجدانيا في الضمير العراقي الخالص كل الهويات المشتركة في تأسيسه وتكوينه وهو الجذر الطبيعي في العمق العراقي وخط الشروع في تأسيس الهوية الوطنية.
اضف تعليق