تؤشر تداعيات واستمرار احتجاجات تشرين وما بعدها في العراق حقبة تراجع قبضة حكم أحزاب الإسلام السياسي الواسعة بشكل عام، وتدهور في قاعدتها الاجتماعية والشعبية بعد أن أخفقت في تقديم نموذج حكم يحقق المصلحة الوطنية يسهم في بناء دولة المؤسسات والخدمات، بل قدمت نموذج حكم قائم على أساس...
تؤشر تداعيات واستمرار احتجاجات تشرين وما بعدها في العراق حقبة تراجع قبضة حكم أحزاب الإسلام السياسي الواسعة بشكل عام، وتدهور في قاعدتها الاجتماعية والشعبية بعد أن أخفقت في تقديم نموذج حكم يحقق المصلحة الوطنية يسهم في بناء دولة المؤسسات والخدمات، بل قدمت نموذج حكم قائم على أساس المحاصصة والمغانمة وتخادم المصالح الفئوية والجهوية مع باقي الأحزاب القومية وغيرها، متقاطعا بذلك مع منطلقاتها ومبادئها وأصولها العقدية والفكرية.
هذا التدهور والتراجع الشعبي والسياسي لواقع معظم أحزاب الإسلام السياسي التقليدية ناتج عن مركب في ضعف آداء قياداتها ومستوياتها التنظيمية في ردم الفجوة وقراءة الواقع العراقي وتحولاته ومتطلباته، إضافة إلى استعانة معظم هذه الأحزاب بالأدوات التقليدية التي أوصلت البلد إلى ماهو عليه الآن، وأثبتت إخفاقها بالحكم طيلة السنوات السابقة، ومن الأدوات التي تلجأ إليها في كل مرة تجد نفسها بحاجة إلى شد القواعد الجماهيرية إليها: إستعادة الطائفية وتفعيلها وتصعيد الخطاب الانقسامي إزاءها، إلى درجة أن الشارع العراقي أيقن هذا السلوك وعرف دوافع الخطاب السياسي المتطرف والاتهامي، فبدل أن تعمل هذه الأحزاب على تحقيق هوية عراقية وطنية موحدة تراعي خصوصيات التنوع والتعدد تعمل على استدامة الاختلاف وتوسيع حالة الصراع الطائفي والمذهبي القومي لتغذية وجودها واستطالة بقاءها في السلطة ليكون المواطن العراقي هو الضحية لتعود هي من جديد لمنطق التوافق وتقاسم النفوذ والموارد.
ولهذا تركز تلك الأحزاب على إيقاظ هواجس الماضي لإشاعة الخوف من الآخر من أجل إعادة انتخابها باعتبارها الملاذ الوحيد المعبر والمحافظ والمدافع عن الخصوصيات والاعتبارات والقيم الثقافية لقواعدها الشعبية وطمأنتها، لتكون شرعية البقاء عبر الإيهام بإحلال المنجز الأمني بشكل يتقدم على شرعية الانجاز والأداء العام.
عرف عن غالبية أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة وشركاءها من بقية الأحزاب أنها لا تستثمر اللحظات الإصلاحية بل عُرفت بضياع فرص الإصلاح وتجديدها للقواعد التقليدية واستعارتها لآليات الاشتغال بأدوات النظام القديم وإبرام الصفقات التواطئية والترويج لمقولات الخوف من الإرهاب وعودة الطائفية والتدخلات الخارجية واتساع المخاوف وبالتالي ضياع كل لحظة تغيير وإصلاح.
لا يمكن القول أن هذه الأحزاب ستضمحل وتختفي من الساحة السياسية بشكل مطلق فلازال لبعضها قواعد وأنصار وتنظيمات مساعدة وإعلام داعم ومال سياسي ومشاريع استثمارية ونفوذ سلطوي في الحكومة والبرلمان، وباقي المؤسسات. حتى أن تراجع الثقة الاجتماعية بها لا يؤثر كثيرا على نتائج الانتخابات ومخرجاتها في تشكيل الحكومة وتقاسم المواقع بشكل كبير، لأن تيار الرفض لهذه الأحزاب هو تيار المقاطعة الانتخابية وهذا يعطِ فرصة كبيرة لهذه الأحزاب بالبقاء، إضافة إلى قدرتها في التأثير في مجربات عملية الانتخابات ونتائجها لصالحها.
مع ذلك تبرز مؤشرات تقدم حركات وأحزاب سياسية مدنية شبابية جديدة تنافس هذه الأحزاب وقد تتفوق عليها من حيث الثقة الشعبية لكنها قد لا تتجاوزها انتخابيا لحداثة تنظيمها وعدم امتلاكها التمويل اللازم للتمدد والتأثير، لكن في الأمد القصير سيكون تفوق هذه القوى واضمحلال غالبية أحزاب الإسلام السياسي هو النتيجة الحتمية لاستمرار ممارساتها بأدواتها التقليدية، إلا في حالة عمل تلك الأحزاب على إعداد الأرضية المناسبة للإصلاح وانجاز التحول الديمقراطي وفق المستلزمات التالية:
١- عدم تركيز أحزاب الإسلام السياسي على مظالم الماضي وامتلاك رؤية ايجابية استشرافية للانتقال لمواجهة الخوف الذي غرسه النظام السلطوي السابق، والتعامل وفقا لمقاربة التسامح وعدم السعي للانتقام ومصادرة وجودهم، مع عزل واستبعاد الذين يرفضون نبذ العنف ويصرون على القطيعة والتعنت.
٢- يجب أن تعترف أحزاب الإسلام السياسي بالقوى السياسية المدنية ويكون لها دور أساس في التحولات السياسية الحاضرة وفي بلد مثل العراق يكاد يكون دور تلك القوى مغيب ومقموع، لكن القوى المدنية أصبحت واقع حال على الأحزاب السياسية الإسلامية بأن تتعاطى معها وتعترف بوجودها ومبادئها.
٣- وجود المعارضة القوية الحاصلة على الدعم الشعبي الكافي لتكون منافس معقول على السلطة وتبادل الأدوار والمواقع مع أحزاب الإسلام السياسي والقوى الشريكة لها، أي يجب مغادرة عقلية المحاصصة والتوافق والتقاسم للمواقع والموارد والنفوذ مع الأطراف التقليدية القومية وغيرها، فإما أن تكون هي في السلطة أو في المعارضة.
٤- رأب صدع الخلافات العميقة وبناء الجسور بين الأحزاب السياسية الإسلامية ذاتها حول الأهداف والقيادة والاستراتيجيات المهمة والمشاريع والبرامج السياسية، فلا بد أن يعمل قادة أحزاب الإسلام السياسي في السلطة أو المعارضة على التغلب على هذه الانقسامات وبناء تحالفات واسعة وتوحيد المواقف، فأي فشل في توحيد الرؤى والمواقف فأن واقعها ومستقبلها سيتعثر ويتراجع ويختل.
٥- توسيع قاعدة المشاركة السياسية داخل الأحزاب السياسية الإسلامية بدفع أجيال جديدة وشابة من جميع الطبقات لتوجيه المطالب وتطوير الأحزاب، فضعف هذه الأحزاب وتنظيمها سبب كافي لتدهور التحول الديمقراطي ومواكبة الوعي الشبابي ومعرفة اهتمامات ومطالب الشارع والاستجابة لها.
٦- من الصعب بناء ديمقراطية عاملة وفاعلة ومستدامة إذا لم تعمل هذه الأحزاب في نهاية المطاف على تنفيذ السياسات وبناء المؤسسات وتقديم الأمن والخدمات وكسب تأييد الرأي العام وجعل الناس يؤمنون أن التحول الديمقراطي ممكن.
في الختام نقول: "إن تجربة الحكم في عراق مابعد ٢٠٠٣، تحتاج إلى أن يعمل قادة الأحزاب السياسية كافة على التفاوض والتنازل والعمل من أجل الصالح العام لا من أجل إحياء النزعة العائلية وحصر الامتيازات بالدائرة الضيقة للأحزاب وحواشيها وتوابعها بالمواقع والمناصب والنفوذ".
وهذا يحتاج إلى التضحية والعمل الجاد من قبل القوى الجديدة والشرائح الاجتماعية المخاصمة لهذه الأحزاب والذهاب صوب المشاركة بدل المقاطعة للانتخابات وإبراز قيادات شبابية واعية تمتلك المهارة وإجادة فن القيادة وإلى بعض الحظ، للمساعدة في تكريس نظام حكم ديمقراطي مستدام يسهم الجميع في تكريسه في العراق.
اضف تعليق