إن قرار رفع سعر الصرف الدولار إزاء الدينار كان قراراً مستعجلاً، لم يدرس بعناية، وما له من انعكاسات سلبية على واقع الفرد والمجتمع العراقي، وما قد يسببه من أعمال عنف بفعل عومل اقتصادية ونفسية ومجتمعية، لذا لابد من التراجع عنه، الإسراع الفعلي بمكافحة الفساد، ومحاسبة الفاسدين...
ثمة تعاريف كثيرة لسعر الصرف، نأخذ واحداً منها اختصاراً، سعر عملة بعملة إذ تكون أحداهما سلعة والثانية سعر لتلك السلعة.
تلجأ بعض الدول لرفع سعر صرف عملتها أو خفضه، وفقاً لسياساتها الاقتصادية والمالية، بما يحقق مصلحة الدولة وينشط من اقتصادها ليعود بالتنمية وتحقيق الرفاه لمواطنيها، فتخفض الدولة مثلاً، سعر صرف عملتها إزاء النقد الأجنبي العالمي وخاصة إزاء الدولار بوصفه العملة العالمية الأكثر تداولاً في العالم في مختلف عمليات التعاملات الدولية الاقتصادية والتجارية والمالية وغيرها، حينما ترغب في تعديل ميزانها التجاري مع الدول الأخرى التي تتعامل معها تجارياً، بما يحقق توازناً بين ما تصدره أو تستورده من هذه أو تلك الدولة، أو حينما ترغب في زيادة صادراتها لتحقيق مزيداً من الأرباح وزيادة في احتياطاتها النقدية من العملة الصعبة، وهذا ما دأبت عليه كل من الصين واليابان.
كما أن رفعها لقيمة عملتها للإقلال من دخول السلع والخدمات المستوردة للحفاظ على مخزونها النقدي الأجنبي، وكذلك دعماً للمنتج الوطني وحمايته من منافسة السلع الوافدة. لجأت الحكومة العراقية إلى رفع سعر صرف الدينار من 1190 دينار للدولار الواحد إلى 1145 دينار للدولار الواحد دفعة واحدة وبشكل مفاجئ. عللت الحكومة أنها تسعى من خلال ذلك إلى زيادة مخزون البنك المركزي من الدولار، والحد أو التخفيف من الدين الخارجي، والعجز النقدي الحاد الذي عانته الحكومة من تأمين رواتب موظفيها بعد تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية بفعل انكماش اقتصادات الدول الصناعية بفعل تنفشي كوفيد 19 وما سببه من إغلاق المصانع وشلل العمل والحركة في مختلف القطاعات.
قد يبدو هذا التعليل صحيحاً، ومنتجاً في هذه الأبعاد، إلا أن له أيضا من الآثار السلبية الكبيرة والمتعددة، إذ جاء رفع سعر صرف الدولار إزاء الدينار العراقي بشكل مفاجئ دون سابق إخطار أو تحضير ودفعة واحدة دون تدرج ليخلق حالة من التكيف والاستقرار في التعاملات اليومية والحركة التجارية، مما ولد شللاً في حركة السوق، وتسبب في رفع كثير من السلع والخدمات وخاصة المواد الغذائية التي هي قوت المواطن اليومي وكحاجة حياتية ضرورية لا غنى له عنها، مما أثر على شرائح واسعة من الشعب، خاصة محدودي الدخل، دون أن يؤخذ بالاعتبار تداعيات القرار السريع وردود الأفعال المضادة بفعل حالات الفقر والبطالة الكبيرة في نفسية المواطن، وما قد تولده تلك الحالة من استياء وتذمر قد يأخذ بعداً عنفياً شعبياً وما سيتبعه من خسائر مضافة.
وقد صرح بعض المسؤولين أنه علاج بالصدمة! في الوقت الذي قد يلازمها ترويعاً في أبعاد أخرى تكون اكلافها فائضة إزاء ما قد يترجى منها من أرباح، فتفقد فلسفة العمل غاياتها. العراق بلد اقتصاده ريعياُ وحيد الجانب، يعتمد بشكل رئيس في مدخوله المالي على عوائد النفط، وهو عنصر غير مستقر في أسعاره، وليس فيه مشاريع إنتاجية صناعية كبرى، ومهدد في أمنه الغذائي، إذ يستورد جل حاجاته من المحاصيل الزراعية، كما يعاني من أزمات كثيرة، كزيادة عدد السكان، ونسبة بطالة مرتفعة، وكلاهما في تزايد مستمرين، ويعيش ما يقرب من 30% من سكانه تحت خط الفقر، فضلاً عن أزمات سياسية وحركات احتجاجية وتظاهرات بسبب سوء الخدمات وشعور نسبة واسعة من الشباب بالإحباط من المستقبل في أن تعالج مشكلاتهم المتفاقمة.
يبدو أن قرار رفع سعر الصرف لم يكن مدروساً بعمق ودقة كافيين، أو أنه لم يشخص صناع القرار المسببات الحقيقية للأزمة المالية الرئيسة في البلاد. أن مشكلة العراق الاقتصادية نتيجة وليست سبب، فالأزمة بالأساس سياسية أفرزت أزمات عديدة، منها أزمته المالية وتعثره الاقتصادي. نظام المحاصصة وما يعنيه من عدم المساواة، وما أتبعه من فساد مالي وإداري كبير، أسهم وبشكل رئيس في غياب أو فشل مشاريع التنمية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة ومن ثم فقدان ثقة المواطن بالطبقة السياسية، والوقوف بالضد من كثير من قراراتها ومتبنياتها السياسية والاقتصادية. قد نعزو أهم أزمات البلاد إلى عدم وجود قوى سياسية قادرة وتمتلك الرؤية السياسية الواضحة لمعالجة أزمات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الثقافية والأمنية، إذ لو أنها امتلكت تلك الفلسفة والإرادة والنظر العميق، لتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الشخصية والطائفية والقومية الضيقة، لما عصفت بالبلاد كل هذه الأزمات وما طال أمدها حتى الآن. ومما تقدم نخلص لما يأتي:
1. إن قرار رفع سعر الصرف الدولار إزاء الدينار كان قراراً مستعجلاً، لم يدرس بعناية، وما له من انعكاسات سلبية على واقع الفرد والمجتمع العراقي، وما قد يسببه من أعمال عنف بفعل عومل اقتصادية ونفسية ومجتمعية، لذا لابد من التراجع عنه.
2. الإسراع الفعلي بمكافحة الفساد، ومحاسبة الفاسدين، واسترجاع أموال الشعب، والعمل على تحقيق خطط تنموية سريعة وفعالة.
3. تفعيل مواد الدستور التي تدعو إلى المساواة بين المواطنين كافة، وتطبيق مبدأ سيادة القانون، وضمان توزيع عادل للثروات.
4. تعزيز أسس الديمقراطية وبناء دولة المواطنة، القائمة على أساس الهوية الوطنية، والخلاص من نظام المحاصصة.
5. تفعيل مبدأ المراقبة والمساءلة، عدالة القضاء واستقلاله، وضمان العمل وتكافؤ الفرص، والعيش الكريم للجميع.
اضف تعليق