يتطلب اقامة مجتمع على اساس استخلاف الانسان في الارض، كما قلت سابقا، ثلاث قيم اخرى ضمن منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، وهي: الحرية، والعدالة، والمساوة. فحتى يكون الانسان خليفة في الارض يجب ان يكون حرا، ويجب ان تبنى علاقته مع الاخرين على اساس المساواة...
استخلاف الانسان في الارض هو محور منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة. وهذه المنظومة هي شرط اقامة الحياة الكريمة والطيبة للانسان؛ شرط انتاج الحضارة الانسانية واقامة الدولة الحضارية الحديثة.
الاستخلاف يعني، كما كتب سيد قطب في تفسير اية الاستخلاف، "بناء الارض وعمارتها، وفي تنمية الحياة وتنويعها، وفي ... تطويرها وترقيتها وتعديلها، على يد خليفة الله في ارضه"، اي الانسان.
الانسان الخليفة هو العنصر الاول والقائد في هذا المركب الحضاري. لكن فاعليته في المركب الحضاري مشروطة بصياغة توجهاته السلوكية والعملية وعلاقاته مع بني جنسه ومع الطبيعة في ضوء هذه المنظومة. اي ضرر يلحق بهذه المنظومة، وبالتزام الانسان بها، يؤدي الى تخلف الانسان عن اداء دوره كخليفة في الارض.
الاستخلاف هو القيمة العليا الحاكمة في منظومة القيم العليا، ولهذا ينبغي الحفاظ على هذه القيمة وتزويدها بكل القيم الفرعية المساعدة لها. ولهذا تتطلب قيمة الاستخلاف على ثلاث رافعات هي الحرية والعدل والمساواة.
فاما الحرية، التي تعني عدم الاكراه وحرية الاختيار وحق تقرير المصير، فقد نص عليها القران في اكثر من اية كما في قوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"، "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا"، "مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا"، "لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ".
واما العدل فقد امر به الله بصيغة حاسمة لا تقبل التراخي والتأويل: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ."
والمساواة، كما في قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
وانما اوردت الايات القرانية لا لحصر مرجعية هذه القيم بالقران الكريم، وانما لابين ان جوهر الدين هو القول بهذه القيم التي يقول بها المفكرون والفلاسفة، والتي اصبحت الان من القيم المقبولة عند كل البشر.
وتجمع البشرية الان على مفردات منظومة القيم العليا كما ورد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام ١٩٤٨ الذي يقول في مادته الاولى: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء"، وفي المادة الثانية: "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته"، وفي المادة الثالثة: "لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه".
ما اريد الوصول اليه من كل هذا هو ان البشرية تسير بخطى تراكمية نحو الاتفاق والاجماع على منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، مما يمكن ان نسميه بعولمة القيم العليا وانسانيتها، مما سيؤدي في نهاية المطاف الى استعادة الوحدة البشرية التي كانت عليها ذات يوم، كما في قوله تعالى:"كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً".
يتطلب اقامة مجتمع على اساس استخلاف الانسان في الارض، كما قلت سابقا، ثلاث قيم اخرى ضمن منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، وهي: الحرية، والعدالة، والمساوة. فحتى يكون الانسان خليفة في الارض يجب ان يكون حرا، ويجب ان تبنى علاقته مع الاخرين على اساس المساواة، ويجب ان يبنى المجتمع على اساس العدل. ومن هنا اتفق مع الفيلسوف الاميركي جون راولز في تعريفه للمجتمع بان نظام من التعاون بين مواطنين احرار ومتساوين.
ولهذا حرص القران على احاطة الانسان بسياج متين يحفظ استخلافه من الامراض التي قد تعيقه عن ممارسة خلافته في الارض بالشكل المنتج والمثمر.
ومن الممكن ملاحظة ان القران الكريم يحرص على توفير قيمتين اخريين للحفاظ على قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهاتان القيمتان هما التوحيد، ورفض الشرك.
اما التوحيد فقد ورد في الكثير جدا من الايات القرانية التي تدعو الى عبادة الله وحده، مثل الاية ٣٦ في سورة النساء:"وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا".
التوحيد عبارة عن القبول المشترك بمنظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري. وبالنسبة للمؤمنين بالله فان هذه المنظومة مشتقة من صفات الله. واما غير المؤمنين بالله فيكفيهم تبني هذه المنظومة. لان المحصلة المطلوبة هي اتخاذ هذه المنظومة اساسا لبناء الحياة، واطارا لاشتغال المركب الحضاري المنتج للحياة الطيبة المحققة للسعادة.
عبادة الله هي الالتزام الطوعي، الحر والمسؤول، بمنظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري والمشتقة بدورها من صفات الله. عبادة الله تعني تجسيد هذه القيم التي يؤمن الانسان بتوحدها في الله في الواقع الحياتي للبشرية. وهذه هو ايضا معنى الخلافة كما فهمها وفسرها محمد باقر الصدر.
ماذا لم تكن مؤمنا بوجود الله؟ لا معنى لهذا السؤال في حقيقة الامر، انسانيا، لانه لا يوجد انسان سوي لا يؤمن بقانون العلية اولا، ولا يؤمن بمنظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري التي تتجسد في صفات الله: "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ"، "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". روي ان الاية نزلت في رجل من المسلمين، كان يقول في صلاته : يا رحمن يا رحيم . فقال رجل من مشركي مكة : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا".
ان تكثيف الدعوة الى عبادة الله وحده في القران هي المعادل الموضوعي لرفض عبادة غيره من البشر، بمعنى رفض خضوع الانسان الخليفة لغيره من البشر المستخلفين بدورهم، لان الاستخلاف يشمل جميع البشر بالتساوي. فكل بني ادم متساوون من حيث كونهم جميعا خلفاء الله في ارضه. ان الخضوع للحاكم ليس خضوعا لشخصه، وانما خضوع للقانون، وحتى يكون الخضوع للقانون مشروعا يجب ان يكون قانونا عادلا يتساوى فيه وامامه الناس الاحرار اصالةً. ومن هنا الانحراف الكبير الذي جسده فرعون حين خاطب الشعب المصري قائلا: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ"، والخطأ الكبير الذي وقع فيه الشعب المصري بقبول هذه "الربوبية" المدعاة.ومن هنا نفهم التنديد القاسي الذي وجهه القران للبشر الذين يدعون الناس الى عبادتهم، اي الانصياع لهم شخصيا: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ". ماكان لبشر، حتى لو كان نبيا، ان يقول للناس كونوا عبادا لي؛ فمثل هذه الدعوة المحرمة على الانبياء تحطم اصل مبدأ الاستخلاف، فما بالك ببشر عاديين يحملون الناس على عبادتهم (اي الخضوع لهم شخصيا) مثل فرعون وصدام؟
اضف تعليق