سوريا هي قضيةٌ حاضرة الآن في كلّ الأزمات الدولية، وسيكون مصير الحرب فيها، أو التسوية المنشودة لها، هو الذي سيحدّد مصير عدّة أزماتٍ أخرى. كذلك، فإنّ استمرار الحرب وتصعيدها يعني مخاطر نزاع دولي وإقليمي خطير تنغمس فيه موسكو وواشنطن، وتشترك فيه إسرائيل وإيران ولبنان والعراق...
بغضّ النظر عن احتمالات ما قد يحدث في المستقبل، فإنّ أحداث الأعوام الماضية على الأراضي السورية زاخرةٌ بالدروس والعِبر لعموم العرب. فلا يمكن، منطقياً وعملياً، اعتبار ما حدث في سوريا من "صراعٍ مسلّحٍ" (مهما اختلفت تسميته) "قضية داخلية" فقط، ارتبطت بحراكٍ شعبي من أجل تغيير النظام!. فالأحداث السورية كانت انعكاساً لحدّة أزماتٍ إقليمية ودولية أخرى، مترابطة كلّها بعناصرها وبنتائجها وبالقوى الفاعلة فيها.
إذ لا يمكن فصل الأزمة السورية عمّا حدث في مطلع القرن الحالي من أوّل احتلالٍ أميركي لبلدٍ عربي (العراق)، حيث كانت سوريا معنيّةً بأشكال مختلفة بتداعيات هذا الاحتلال ثمّ بدعم مواجهته. ولا يمكن فصل الأزمة السورية الحالية عن الصراع العربي/الإسرائيلي وعن مأزق التسوية على المسار الفلسطيني، حيث كانت دمشق داعمةً للقوى الفلسطينية الرافضة لنهج "أوسلو" وإفرازاته السياسية والأمنية. ثمّ كانت دمشق – وما تزال – تدعم المقاومة اللبنانية، وهي غير موقّعة على معاهداتٍ مع إسرائيل، كما جرى على الجبهات المصرية والأردنية والفلسطينية، فبقيت سوريا - ومعها لبنان- في حال الاستهداف من أجل فرض "التطبيع العربي" مع إسرائيل، بغضّ النظر عن مصير التسوية العادلة الشاملة لأساس الصراع العربي/الصهيوني، أي القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. وهل يمكن نسيان أنّ مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين يقيمون في لبنان وسوريا، وبأنّ ما يحدث، وما قد يحدث، في هذين البلدين سيؤثّر كثيراً على مصير ملفّ اللاجئين الفلسطينيين؟!.
ثمّ هل حقّاً أنّ التغيير الذي كان منشوداً في سوريا مع بداية الحراك الشعبي في ربيع العام 2011 كان هدفه تغيير نظامها السياسي الداخلي فقط، أم أنّ الهدف الكبير الهام الذي وقف خلفه "حلف الناتو" هو فكّ تحالفات الحكم السوري على الصعيدين الإقليمي والدولي؟! إضافةً طبعاً للهدف الإسرائيلي الخاص بتفكيك وحدة سوريا وإقامة دويلات طائفية وإثنية تسبح في الفلك الصهيوني!.
لقد كانت المصالح الإسرائيلية، وما زالت، هي في مزيدٍ من التفاعلات السلبية للأزمة السورية، أمنياً وسياسياً، وعدم التوصّل إلى أيِّ حلٍّ في القريب العاجل. فمصلحة إسرائيل هي في بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشرق العربي والمهدّد لوحدة الأوطان والشعوب، والمنذر بحروبٍ أهلية في عموم المنطقة، والمُهمّش للقضية الفلسطينية.
هذه أبعاد خارجية مهمّة للصراع المسلّح الذي لم ينتهِ بعدُ في سوريا، وهو صراع إقليمي/دولي على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرفٍ داعمٍ أو رافضٍ للحكم الحالي في دمشق. لذلك نرى اختلاف التسميات لما حدث في سوريا، فمن لا يريد تبيان الأهداف الخارجية للصراع يصرّ على وصف ما حدث في العام 2011 بأنّه "ثورة شعبية على النظام"، فقط لا غير. ومن لا يعبأ بالتركيبة الدستورية السورية الداخلية وبطبيعة الحكم، ويهمّه السياسة الخارجية لدمشق فقط، يحرص على وصف ما يحصل بأنّه "مؤامرة كونية" لا مبرّرات داخلية لها. في الحالتين هناك ظلمٌ للواقع ونتائج لا تُحمد عقباها على الشعب السوري وعلى المنطقة كلّها.
ما حصل ويحصل في سوريا هو تكرارٌ لتجربة حرب محلية/إقليمية/دولية في لبنان عام 1975، ولتجربة حرب أفغانستان في عقد الثمانينات التي كانت لتغيير نظامٍ موالٍ لروسيا الشيوعية فولّدت تطرّف "المجاهدين الأفغان"، كما أفرزت حرب سوريا جماعات "داعش" و"النُصرة". ولم يكن طبعاً ما شهدته سوريا في العام 2011 استمراراً لما حدث في مصر وتونس من حراك شعبي سلمي خالٍ من الارتباطات الخارجية.
سوريا هي قضيةٌ حاضرة الآن في كلّ الأزمات الدولية، وسيكون مصير الحرب فيها، أو التسوية المنشودة لها، هو الذي سيحدّد مصير عدّة أزماتٍ أخرى. كذلك، فإنّ استمرار الحرب وتصعيدها يعني مخاطر نزاع دولي وإقليمي خطير تنغمس فيه موسكو وواشنطن، وتشترك فيه إسرائيل وإيران ولبنان والعراق، إضافةً إلى التورّط التركي الكبير الحاصل في الأزمة السورية. فالأزمة السورية الراهنة وضعت المنطقة والعالم كلّه الآن أمام خياراتٍ حاسمة لا يمكن تأجيل البتّ بمصيرها إلى سنواتٍ أخرى.
المؤسف أنّ كلَّ ذلك يحدث على أرضٍ عربية في ظلّ غياب "مشروع عربي" للتعامل مع كلّ أزمات المنطقة، وبما يُحقق مصالح الأوطان والشعوب العربية أولاً!. فهناك فعلاً صراع محاور إقليمية ودولية على سوريا وفي المنطقة العربية، لكنْ للأسف، فإنّ الرافضين لهذا الصراع من السوريين والعرب لم ينجحوا في صنع البديل الوطني الصالح، والبديل العربي الأفضل، بل نجد هيمنةً أجنبية على تداعيات كلّ الحروب الدائرة في أكثر من بلد عربي، كما يستفيد المشروع الإسرائيلي من هذه الأزمات العربية ويعمل على تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ متصارعة.
وهل يمكن نسيان أنّ "القاعدة"، وهي الأم التي وُلِدت من رحمها "داعش" و"النصرة"، قد ظهرت في العراق ثمّ في سوريا كمحصّلة لنتائج الإحتلال الأميركي للعراق؟ وهل يمكن فصل الأزمة السورية الحالية عن حرب إسرائيل عام 2006 في لبنان التي وقفت خلفها إدارة "المحافظين الجدد" في واشنطن كحلقة مهمة في سلسلة بناء "شرق أوسطي جديد" تحدثت عنه كونداليسا رايس آنذاك؟!. ثمّ هل من الممكن أن تغفر إسرائيل لمن اضّطرها للانسحاب العسكري المذلّ عام 2000 من لبنان، ولمن أفشل مغامرتها العسكرية وحربها المدمّرة عام 2006 بدعم من سوريا؟!. أليس حتمياً حدوث انعكاساتٍ خطيرة على كل المقاومين للإحتلال الإسرائيلي من جرّاء تداعيات الأزمة السورية ونتائجها السياسية والأمنية؟!. وهل حقّاً أنّ التغيير المنشود أميركياً وأوروبياً في سوريا هو في نظامها السياسي الداخلي فقط، أم الهدف الكبير الهام هو فصم العلاقة بين سوريا وإيران من جهة، وبين دمشق وموسكو من جهةٍ أخرى؟!.
واشنطن استفادت كثيراً من تداعيات الأزمة السورية، في بداية سنواتها الأولى، لجهة إضعاف دولةٍ كانت – وما تزال- تُشكّل ثقلاً مهمّاً لروسيا وإيران في المشرق العربي والبحر المتوسط، وتدعم قوًى لبنانية وفلسطينية قاومت الإحتلال الإسرائيلي في حروب مختلفة على جبهتيْ لبنان وغزّة. وواشنطن لم تكن في السابق مستعجلةً جداً على فرض تسوية سياسية للأحداث الدامية في سوريا، فكانت الإدارة الأميركية في العام 2011 تُشجّع الآخرين على تسليح بعض قوى المعارضة، دون تورّطٍ عسكريٍّ أميركيٍّ مباشر على الأرض، ولا تُشجّع في الوقت ذاته على حلول سياسية وأمنية لم يحن أوانها بعدُ أميركياً، كالذي حصل مع المبادرة العربية في خريف العام 2011، حينما دعت علناً وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون أطراف المعارضة السورية المسلّحة إلى عدم ترك السلاح أو تسليمه، كما تضمّنت المبادرة العربية.
الآن تغيّرت الظروف، كذلك هو واقع القوى العسكرية على الأرض ومواقف الحلفاء الإقليميين، لذلك، ليس أمام واشنطن الآن بدائل مفيدة للمصالح الأميركية في حال فشل مشاريع التسوية السياسية للأزمة السورية. أي هل الخيار البديل هو مزيدٌ من التصعيد العسكري في سوريا، تحصد نتائجه روسيا أو قوى التطرّف الأكثر فعالية كداعش و"النُصرة"، والتي تسعى للتمدّد إلى باقي دول المنطقة؟. وهل لواشنطن وموسكو والقوى الإقليمية الكبرى مصلحة في تعاظم خطر الإرهاب "الداعشي" على العالم كلّه؟ أم سيكون الاحتمال، في حال الفشل بتحقيق تسوية سياسية للأزمة السورية، هو استمرارها وأزمات المنطقة على ما هي عليه؟، لكن من يقدر الآن على ضبط إيقاعاتها المحلية ومنع توسيع رقعتها الجغرافية؟ وهل هناك إمكانية لفعل ذلك؟!
لا أعتقد أنّ هذا ممكن، ولا أرى أنّ هناك مصلحةً أميركية وروسية وإيرانية وتركية وعربية في استمرار التأزّم الأمني والسياسي الحاصل. إسرائيل وحدها مستفيدة الآن من الحروب الأهلية العربية، ومن التجاهل الدولي والعربي الجاري الآن للقضية الفلسطينية. وإسرائيل فقط، ومن معها في الأوساط السياسية الأميركية، هي التي ترغب بتغيير خرائط المنطقة وتفتيت كياناتها الراهنة!.
اضف تعليق