يبدأ الطريق نحو تغيير المجتمع واصلاح احواله السياسية والاقتصادية وصولا الى الدولة الحضارية الحديثة بشروع النخبة المبدعة بزرع بذور النهضة في المجتمع والترويج لفكرة الدولة الحضارية الحديثة وتوسيع نطاق الرغبة الشعبية بها وصيرورتها هدفا اعلى يسعى اليه المجتمع في حركته التاريخية...
كلّما كتبت عن اقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق، سألني بعض القراء: كيف؟ وبعض السؤال ينطوي على يأس من امكانية ذلك بسبب بؤس الحال الذي وصلت اليه البلاد بسبب ٣٥ سنة من حكم حزب البعث المتخلف و١٨ سنة من حكم احزاب المحاصصة الفاسد، مع ما يرافق ذلك من ظواهر سلبية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتربية تجعل مشروع الدولة الحضارية الحديثة حلما خياليا بعد المنال.
كل هذا يجعلني اتجنب الاجابة عن سؤال الكيف، رغم انه يشبه سؤال:"ما العمل؟" الشهير الذي طرحه واجاب عنه زعيم البلاشفة الروس لينين عام ١٩٠١. وكنت اتجنب الخوض في هذا الموضوع، لعدم جدواه اذا لم يتوفر الايمان الكافي بالفكرة لدى عدد معقول من ابناء المجتمع. لكن بعد سنوات من طرح الفكرة، يبدو لي الان ان هذا الشرط متوفر بحده الادنى، وهذا ما شجعني على كتابة هذا المقال.
في مقدمة الجواب، لابد لي ان اقول ان اقامة الدولة الحضارية الحديثة في اي مجتمع هي عملية تغييرية اجتماعية تدريجية طويلة الامد، قد تستغرق سنوات عديدة، وتتطلب صبرا، ويتم تقسيم العمل بين القاعدة والقمة، حيث يقع على القاعدة الدور التمهيدي، ويقع على القمة الدور الاجرائي.
ولما كانت العملية تغييرية فأنها تخضع لقوانين التغيير الاجتماعي التاريخية التي ذكر بعضها القران الكريم وبحث فيها الكثير من علماء الاجتماع والتاريخ. ويتعين العمل وفق هذه القوانين من اجل الوصول الى الهدف، ومن هذه القوانين ما يلي:
قانون المحتوى الداخلي في المجتمع، الذي يشير اليه القران الكريم بقوله: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".
قانون الاقلية المبدعة: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
قانون العمل:"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ".
قانون التعاون:"وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ".
قانون التضحية:"أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ".
قانون التمكين:"الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ".
ولا ينبغي التوقف عند المعنى الديني الخاص لهذه الايات فقط، لانها تتحدث عن سنن التاريخ والاجتماع، وينبغي فهمها من خلال هذه الزاوية الواسعة التي تشمل الحركة التاريخية للمجتمعات مهما كانت.
وخلاصة هذه القوانين ان العمل من اجل اقامة الدولة الحضارية الحديثة يجب ان يبدأ من القاعدة اولا حيث تتكون جماعة من الناشطين المؤمنين بها، وهؤلاء هم المواطنون الفعالون، الذين يأخذون بنشر الفكرة بين الناس من اجل ان تتحول الى قضية عامة يتبناها الجمهور ويطالب بها وقد يسعى اليها. وكما بينت في العديد من المنشورات ان العمود الفقري في الدولة الحضارية الحديثة هي منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة، وبالتالي فان على هؤلاء الناشطين دعوة الناس الى هذه القيم والى الالتزام بها، وتجسيدها في حياتهم العملية وعلاقاتهم اليومية، الى ان تصبح فكرة القيم ثقافة مجتمعية سائدة يؤمن بها ويدعو اليها عدد كبير من الناس، كل في موقعه ومكانه.
الطالب في المدرسة، والموظف في الدائرة، والاعلامي في وسيلة الاعلام، ورجل الاعمال في الاقتصاد، ورجل الدين في المنبر، والكاتب في مقالاته، والمدونون في وسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا. وسوف يؤدي هذا العمل بعد فترةٍ لا ازعم انها قصيرة الى تغيير مساحة مهمة في المحتوى الداخلي للمجتمع. واقصد بالمحتوى الداخلي الصورة المستقبلية للدولة الحضارية الحديثة التي يؤمن بها الناس.
من اجل مواصلة الجواب على سؤال كيفية اقامة الدولة الحضارية الحديثة، من الضروري ان يؤمن الافراد الناشطون في الدعوة الى اقامتها بإمكانية ذلك، سواء من حيث الشروط الموضوعية القائمة او من حيث العوامل الذاتية الكامنة. فالدولة الحضارية الحديثة ممكنة في اي مجتمع من المجتمعات.
وفي التفصيل، لابأس ام اذكر ان هناك ثلاثة انواع من الامكانات:
النوع الاول، الإمكان العملي:
وهو "ان يكون الشيء ممكنا على نحو يتاح لي ولَك او لانسان اخر فعلا ان يحققه". فهناك من يمارسه فعلا.
النوع الثاني، الإمكان العلمي ويعني ان هناك اشياء قد لا يكون بالإمكان عمليا لي ولك ان نمارسها فعلا ... ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتجاهاته المتحركة الى ما يبرر رفض امكان هذه الأشياء ووقوعها."
النوع الثالث، الإمكان المنطقي او الفلسفي ويعني "انه لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قبلية ما يبرر رفض الشيء او الحكم باستحالته".(هذه التعريفات للسيد محمد باقر الصدر)
وحين ننظر الى مشروع الدولة الحضارية الحديثة من زاوية الممكنات الثلاثة نجد ما يلي:
اولا، ان الدولة الحضارية الحديثة من الممكنات العملية لانها ببساطة موجودة في بلدان اخرى. والدعوة الى أقامتها في العراق ليس بدعا من الامر ولا يتطلب معجزة.
ثانيا، ان العلم لا يسلب صفة الإمكان من الدولة الحضارية الحديثة. بل انه يقف الى جانب أقامتها. بل ان المجتمعات توصلت الى اقامة دولها الحضارية الحديثة مستخدمة العلم والتكنولوجيا في ذلك..
ثالثا، ولا نجد في الفلسفة او المنطق ما يسلب من الدولة الحضارية الحديثة صفة الإمكان، بل ان الفلاسفة منذ القدم تحدثوا عن نماذج مختلفة لهذه الدولة.
واضيف هنا ان الدولة الحضارية الحديثة هي في الحقيقة اتجاه تاريخي عام قابل للقياس. فالناظر الى تاريخ البشرية منذ ظهور دول المدن في وادي الرافدين الى اليوم يجد ان الحركة التاريخية للدول تسير في خط تصاعدي وتكاملي مستمر. فقد تسقط دولة هنا، لكن تقوم بدلا عنها دولة اكثر حضارية وحداثة هناك. واذا كان العراق شهد في تاريخه الطويل قيام عدة نماذج لدول حضارية حديثة (بالقياس الى زمنها)، فليس هناك ما يمنع تكرار التجربة وقيام دولة حضارية حديثة بالقياس الى معايير عصرنا الراهن. وهذا يتطلب بطبيعة الحال توفير الشروط الذاتية والموضوعية لتحقيق ذلك. وهذا يتطلب، من بين امور اخرى، ان تؤمن الاقلية المبدعة، او المواطنون الفعالون الذين يؤمنون بفكرة الدولة الحضارية الحديثة بقدرتهم الذاتية والموضوعية على اقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق في سياق زمني معين انطلاقا من اللحظة الراهنة.
وبعد توفر هذا الايمان لدى الاقلية المبدعة، ابتداءً من توفر اشخاص قليلين جدا، يبدأ هؤلاء باشاعة فكرة الدولة الحضارية الحديثة والايمان بامكانها والتطلع الى قيامها بين الناس. واليوم توفر من وسائل النشر والترويج مالم يتوفر للناشطين في مجتمعات اخرى قبل ١٠٠ او ٥٠ سنة مضت. وبالتالي ستكون عملية النشر والترويج اسهل واسرع من ذي قبل.
ويستهدف هذا النشاط زرع بذور النهضة في المجتمع، ومحاصرة حالات اليأس والسلبية، ومن ثم توسيع نطاق دائرة المؤمنين بالدولة الحضارية الحديثة وصولا الى تحويلها الى هدف عام لقطاعات واسعة وكبيرة من الناس.
ومن الضروري الانتباه الى ضرورة نشر المصطلح نفسه. فالمصطلحات هي اوعية الافكار، وليس من صالح الفكرة التغييرية تشتيت مصطلحاتها. ومن هنا جاء تركيزي على مصطلح الدولة الحضارية الحديثة، بالذات، ورفضي استخدام مصطلحات اخرى مثل الدولة المدنية، او الدولة العادلة العصرية او غير ذلك، لانها لا تعطي نفس المدلول بالعمق والدقة اللذين يعطيهما مصطلح الدولة الحضارية الحديثة.
يبدأ الطريق نحو تغيير المجتمع واصلاح احواله السياسية والاقتصادية وصولا الى الدولة الحضارية الحديثة بشروع "النخبة المبدعة" بزرع بذور النهضة في المجتمع والترويج لفكرة الدولة الحضارية الحديثة وتوسيع نطاق الرغبة الشعبية بها وصيرورتها هدفا اعلى يسعى اليه المجتمع في حركته التاريخية.
شهدت فرنسا مثلا نموذجا لهذا التغيير من خلال قيام الافراد البارزين في الاقلية المبدعة بزرع بذور النهضة في اذهان الناس. وهذا ما قام به مثلا جان جاك روسو (١٧١٢-١٧٧٨) الذي نشر كتابه الشهير "العقد الاجتماعي" عام ١٧٦٢، او مونتسكيو (١٦٨٩-١٧٥٥)، الذي طبع كتابه المهم "روح الشرائع" او "روح القوانين" عام ١٧٤٨، وهما الكتابان اللذان اصبحا، اضافة الى مساهمات اخرى، اناجيل الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩. ليس من الضروري في العراق ان نسير بنفس الطريق الفكري- الثوري الذي سار عليه المجتمع الفرنسي صوب دولته الحضارية الحديثة. وذلك بسبب اختلاف ظروف المجتمع العراقي الحالية عن ظروف المجتمع الفرنسي انذاك. وتوفر اليات تغيير ممكنة في العراق لم تكن متوفرة في فرنسا، واعني بذلك الية الانتخابات. فمهما قيل عن سلبياتها، وفي مقدمة ذلك التزوير والفساد والمال السياسي والعشائريات، فانها تبقى الية اقل كلفة من الالية الثورية التي اتبعها المجتمع الفرنسي.
وبناء على هذا فقد يكون من الممكن السير في طريق اخر هو الطريق الفكري-البرلماني. ويسير هذا الطريق بخطين متوازيين هما:
الاول، الخط الفكري الذي يتضمن ما تقوم به الاقلية الواعية من خلال نشر الوعي السياسي الحضاري المستمر بين الناس باستخدام مختلف الوسائل المتاحة. وقد يستغرق هذا وقتا، لكنه قد يكون اقل من الوقت الذي استغرقه مونتسكيو وروسو، لكنه ضروري لجعل الخط الثاني ممكنا. ويستهدف هذا الخط توسيع نطاق المواطنين المؤمنين بفكرة الدولة الحضارية الحديثة، و جعلها واضحة في اذهان المواطنين وبخاصة الذين سوف يشاركون في الانتخابات ترشيحا او تصويتا.
الثاني، المشاركة التدريجية في الانتخابات، بعد التأكد من تحقق مخرجات الخط الاول، بغية الوصول التدريجي الى مؤسسات الدولة في البرلمان او الحكومة او غيرهما من مواقع التأثير والتغيير التربوي والتشريعي والتنفيذي. وهنا يتعين على الاقلية المبدعة وقاعدتها الشعبية عدم خوض الانتخابات من خلال تنظيم انتخابي وحيد من بين ٢٠٠ تنظيم اخر، لان خوض الانتخابات بهذه الطريقة لن يحقق الفوز المقبول، انما يجب خوض الانتخابات بطريقة ذكية smart تتضمن توحيد كل الراغبين في التغيير والاصلاح في تنظيم انتخابي كبير يستطيع ان يفوز بعدد كبير ملموس ومؤثر من المقاعد البرلمانية. وقد اقترحتُ في مقالة سابقة قياسات عددية لمعرفة حجوم الاحزاب العراقية، تضمن القياسات التالية:
اولا، الحزب الكبير وهو الحزب الذي يملك اغلبية مطلقة مؤلفة من ١٦٥ نائبا.
ثانيا، الحزب المتوسط الحجم، وهو الحزب الذي يملك حوالي ثلث عدد مقاعد البرلمان اي ١٠٠ نائب.
ثالثا، الحزب الصغير، الذي يملك نصف العدد المتبقي من المقاعد النيابية، اي ٣٢ مقعدا.
رابعا، الحزب الصغير جدا، وهو الحزب الذي يملك نصف المقاعد المتبقية، اي ١٦ مقعدا.
خامسا، الحزب المجهري الذي لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، ويملك ٨ مقاعد فقط.
وبناء على هذه القياسات فيجب ان يكون طموح الاقلية المبدعة وقاعدتها الشعبية الحصول على موقع الحزب الكبير في البرلمان. ولما كان تحقيق هذا الهدف غير ممكن من الناحية العملية في الانتخابات المقبلة، فيجب العمل على تحقيق ذلك على مرحلتين في انتخابات عام ٢٠٢٥ وانتخابات عام ٢٠٢٩.
فاذا ما تحقق ذلك، يستكمل الحديث حول الخطوات الاجرائية لإقامة الدولة الحضارية الحديثة.
اضف تعليق