صورتان مقيمتان في الذاكرة العراقية، صورة التمثال الشهير لصدام حسين وهو يسقط بفعل ضربات جندي امريكي، وصورة (ابو تحسين) الذي ينهال ضربا بشحّاطته على صورة لحاكم العراق الاوحد.
اذا كانت الصورة الاولى، اشّرت لبدء حقبة جديدة بالنسبة للعراقيين، المؤيدين للتغيير او المعترضين عليه، فان الصورة الثانية قد اشرت لحقيقة اخرى، وهي الرغبة في التعبير عن مكنونات النفس من احتقار او ازدراء او عدم خوف، وان كان بواسطة شحاطة (ابو تحسين).
وتلك الشحاطة ايضا، من جانب اخر دخلت الى معترك الاعلام وقتها، والى مجال البيزنس ايضا، فقد تم تقديم عدد من العروض من قبل كويتيين لشراء تلك (الشحاطة).
اسقاط التمثال، واستخدام الشحاطة كوسيلة للتعبير، التقطتها كاميرات التلفاز وسلطت الضوء عليها لتصبح صورة كونية بامتياز، تحدث عنها الجميع.
في سنوات لاحقة، وبعد مخاضات الوضع العراقي الجديد، وانتشار المحطات التلفازية في الفضاء العراقي، المحلية منها والعربية والعالمية، اتسعت مساحات حرية التعبير، لكن منتظر الزيدي، الصحفي والناشط العراقي، (هل تذكرونه؟) عاد الى لحظة التأسيس العراقية الاولى وهي شحاطة (ابو تحسين) لممارسة حرية تعبيره، حين رمى الرئيس الامريكي بفردة حذائه.
اذا كان الحدث (الشحّاطي – نسبة الى الشحاطة) والحدث (الحذائي نسبة الى الحذاء)، فان التلفاز كان هو الحاضر دوما في الحدثين واحداث اخرى كانت ترصد مآلات الحراك السياسي العراقي والديمقراطية الوليدة فيه.
اعترف ان الحدثين شكّلا سابقة عراقية يحسد عليها العراقيون، عند مرحلة التدوين التاريخي للحدث المؤسس او اللاحق له.
ولهم الفضل في اتباع الاخرين لهم في هذا المضمار، فالتعبير بواسطة الحذاء كان حاضرا في مؤتمر حول إعادة تصنيع النفايات في لاس فيغاس في ولاية نيفادا الأميركية حين تعرضت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة والمرشحة الرئاسية، للرشق بحذاء رمته سيدة أميركية.
وهو كان حاضرا حين رشق رجل الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف بحذائه خارج قاعة المحكمة في مدينة كراتشي. وحضر ايضا عند تعرض الرئيس الإيراني حسن روحاني في أيلول (سبتمبر) 2013 للرشق بالحذاء أثناء عودته من نيويورك، من جانب مجموعة من معارضي التقارب مع الولايات المتحدة الأميركية.
أما الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد فقد رماه شاب سوري بحذائه أثناء خروجه من مسجد الحسين في القاهرة، مرددًا عبارات تهاجم دعم إيران لبشار الأسد.
وجميع تلك الحوادث ايضا قد سلط التلفاز كاميراته عليها، واصبحت بالتالي حدثا كونيا تابعه الملايين من البشر.
وهي ايضا احداث وقعت في اماكن عامة مكشوفة للرؤية والمشاهدة والتوثيق، وليست في اماكن مغلقة او وراء جدران لا يمكن اختراقها.
ابرز حدث بطله الحذاء هو ماحدث مؤخرا في مؤتمر جنيف حول اليمن، الذي رمته ذكرى العراسي بوجه حمزة الحوثي الحاضر في قاعة المؤتمر.
واعتبرت الصحافية والناشطة اليمنية ذكرى العراسي إنها لن تفرط يومًا بحذائها الذي ضربت به حمزة الحوثي، رئيس وفد الحوثيين إلى المشاورات الأخيرة في جنيف، (حتى لو دفعوا لي مقابله كنوز الدنيا، فحذائي هذا تاج على رأسي ورأس عائلتي، وهو شرف لي، ورددت به كرامتي وثأرت لإخواني الذين قتلتهم ميليشيات الحوثي في اليمن).
الحذاء الجديد، هو لصحافية وناشطة، وهو يمثل (التاج – الشرف – الكرامة – الثأر)، حسب تعبير البطلة لهذه الواقعة.
وهو ايضا محط تغطية تلفازية جعلته حدثا كونيا يتماشى مع متطلبات العولمة التي جعلت العالم قرية صغيرة.
في السطور السابقة تداخلت الكثير من المفردات السياسية والاعلامية، يمكن الاشارة اليها بالشكل التالي:
(الغزو – الاحتلال – حرية التعبير كميسم رئيسي للديمقراطية – التلفزيون كوسيط) وهي مفردات توفر لها (المجال العام) لكي تظهر بالشكل الذي ظهرت به.
والمجال العام الذي أبدعه الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني يورغن هابرماس، هو أحد سمات الحداثة السياسية، وهي العمومية شديدة الحضور والتواجد الذي يدخل التلفاز كوسيط رئيسي في تداول الاحداث التي تقع امام كاميراته وعيون مشاهديه.
واذا كان المجال العام الذي ظهر في التسعينات من القرن المنصرم، تأثرا بحدث جدار برلين، وخطط نشر الديمقراطية في بلدان اوربا الشرقية، فانه ترافق ايضا مع صعود مكونات المجتمع المدني، من قبيل النقابات والهيئات الثقافية والمؤسسات القانونية – الحقوقية والجمعيات المهنية الحرة.
واذا كان التلفاز قد حل بدلا من (أجورا) وهي الساحة الدائرية التي كان المزارعون في اثينا يلتقون بها قبل اربعة قرون من الميلاد، وكانت ايضا التقاء العديد من فلاسفة اليونان، فان الحداثة السياسية قد استعاضت عن (اجورا) بوسيط جماهيري هو التلفاز لطرح مختلف القضايا والتوجهات.
لكن التلفاز كوسيط لنقل الاحداث وطرح التوجهات، ونحن نتحدث عن عديد من المفردات هل مثل فضاءا للتواصل ام فضاء للهيمنة الايديولوجية وهبل لعب دورا في توسيع المشاركة في الشأن العام، ام انه ساهم في ما يمكن الاصطلاح عليه باللامبالاة السياسية؟
من واقع حال العراق (ولا استثني بلدان كثيرة اخرى)، ورغم الكثير من الهزات السياسية التي نقلها التلفاز وسلطت كاميراته اضواء فلاشاتها عليها، الا ان الملاحظ هو ان تلك الاحداث لم تستطع من خلق رأي عام فاعل يبتعد عن مقاسات الاحذية والشحاطات في قياسه للتقدم الحاصل في الديمقراطية العراقية، والتي بقيت مقتصرة على صناديق الاقتراع في الانتخابات، مع الضجيج والصراخ المصاب بالسعار والعصاب الذي يصيبنا بالصداع من شاشة هذا الوسيط المسمى التلفاز.
اضف تعليق