انّ خلق طبقة نخبوية طافحة من خريجي الجامعات، وحاملي الشهادات العليا في العراق، سوف يؤدي الى اضطرابات اجتماعية وسياسية واقتصادية، كما ان الإسراف في التأسيس للجامعات، سوف يقوض الملاك الوسطي، من خريجي المدارس والمعاهد المهنية، بسبب الفهم الملتبس لدور حامل الشهادة العليا الذي يجد نفسه أسمى من ان يخوض في المهن المتواضعة...
يتحدث الكاتب الراحل أنيس منصور عن كلمة لوزير ألماني شكا فيها خطورة نقص القراّء، وندرة المخترعين، في بلاده، مقارنة بالأعداد الهائلة لحاملي الشهادات ومؤلفي الكتب، على الرغم من ان الشهادة العليا في ألمانيا لا تُمنح لمجرد تأليف بحثي تحتويه الصفحات من دون تجديد، او اكتشاف، أو معلومة غير مسبوقة.
وعلى الرغم من هذه الشكوى، تعرض ألمانيا سنويا، مئات الألوف من الكتب الجديدة التي تخوض في غمار الابداع وكشف الأسرار، وتطوير التقنيات، في العراق ودول أخرى كثيرة، يتحوّل الكلام المجترّ والمعلومات الجاهزة، الى أطاريح تُمنح في ضوئها الشهادات العليا، من دون ان يميّز أحد فائدة عملية لهذه التلال من الورق، وفي ما اذا تصفحها آخرون غير مؤلفيها، وقد أدى هذا الفلتان في الشروط الاكاديمية، الى تحوّل التعليم العالي في الدول المتخلّفة الى وسيلة سهلة للوجاهة والاعلان والمنصب.
تدفع هذه الإشكالية دولا مثل الولايات المتحدة الى مناقشة جدوى “الأعداد الضخمة من حملة الدكتوراه”، وفق مقال الكاتب الأميركي نوح سميث الذي يقول فيه ان الولايات المتحدة على أعتاب تغييرات كبيرة في برامج الشهادات العليا، التي تمنحها جامعاتها، لا سيما في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والأدبية، التي تضخ عدداً مهولاً من الرسائل وباتت في حاجة إلى التقليص، والتركيز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
سميث يتحدث عن الإفراط في منح الدرجات الأكاديمية العليا، في الولايات المتحدة التي تحتل المرتبة الأولى في أعداد حملة الدكتوراه بين جميع الدول الغنية، واذا كان ذلك مشكلة للولايات المتحدة ذات الاقتصاد العظيم واعداد الجامعات والمعاهد والمؤسسات البحثية والدراسية الهائلة، فكيف سيكون الامر في بلد مثل العراق الذي يفتقر الى المجالات التي تستوعب حملة الشهادات العليا الذين يعتبرون انفسهم نخبا ويجب ان ينالوا المناصب العليا في الدولة ومؤسساتها.
لا تبدو الإشكالية متناظرة بين الحالين، ذلك ان الثقافة الاجتماعية في الغرب تتيح للمهندس والطبيب وحامل شهادة الدكتوراه، التوظيف في أي مجال حتى في غسل الصحون في المطاعم، بينما الأعراف والنظام الاجتماعي، في العراق والدول العربية، لا تتيح ذلك، اذ يستنكف المتخرّج العمل في قطاعات العمل الدنيا.
لنركّز على الحالة العراقية، وننتفع من تجارب الدول الغربية، التي نجحت في ايقاف ضخ المزيد من حملة الشهادات العليا، بالاعتماد على المحاضرين والمساعدين ذوي الأجور المنخفضة، بحثا عن العمالة الرخيصة، وعدم منح الامتيازات الا لمن يمارس درجته العلمية بصورة عملية، الامر الذي فرمل اللهاث وراء شهادات عليا ليست ذات منفعة.
انّ خلق طبقة نخبوية طافحة من خريجي الجامعات، وحاملي الشهادات العليا في العراق، سوف يؤدي الى اضطرابات اجتماعية وسياسية واقتصادية، كما ان الإسراف في التأسيس للجامعات، سوف يقوض الملاك الوسطي، من خريجي المدارس والمعاهد المهنية، بسبب الفهم الملتبس لدور حامل الشهادة العليا الذي يجد نفسه أسمى من ان يخوض في المهن المتواضعة ويأبى الانخراط في طبقة الملاكات الوسطية.
اضف تعليق