الانتخابات في الديمقراطيات الغربية لم تعد تمثل تعبيراً عن اختيار ديمقراطي حرّ نزيه، بل أن هناك من يرى إنها باتت تعمّق التصدعات السياسية الحاضرة في المجتمعات الأوروبية والأميركية، وتوسّع هوة الانقسامات الاجتماعية، وأن أزمة الديمقراطية أزمة تمثيل، (غياب التمثيل)، وهو ما يستوجب إعادة النظر بالديمقراطية...

توصف الديمقراطية بأنها أفضل نظام للحكم ابتدعه العقل الإنساني، ليتم من خلاله اختيار الحاكم الذي يقوم بإدارة شؤون السلطة وتنظيم العلاقة بينه وبين المحكوم؛ وفق آلية تجسّد مبدأ (الشعب مصدر السلطات).

ومنذ أن نشأت فكرة الديمقراطية واكتملت عناصرها، خضع النظام الديمقراطي للتطور والتكيّف بما ينسجم مع التغيّرات في أبعاد الدولة والمجتمع سياسياً واجتماعياً وثقافياً...الخ، فبعد أن طُبِقت بصيغتها المباشرة البسيطة ابتداءً في أثينا القديمة، تطورت الديمقراطية عبر مراحل التاريخ المختلفة لتأخذ أشكالاً وصوراً عدة تبعاً لمكان وزمان تطبيقها، فظهرت لدينا الديمقراطية شبه المباشرة والديمقراطية النيابية وأخذت هذه الصور والأشكال من الديمقراطية تتفرع بدورها إلى صور وأشكال أخرى.

ويبدو أن الديمقراطية أعجبت الكثير من الأمم والشعوب حتى أن العديد من النظم السياسية في العالم تدّعي بأنها حكومات تطبق ديمقراطية نابعة من خصوصياتها الاجتماعية والثقافية والجيوسياسية رغم إنها نظماً غير ديمقراطية، فظهرت لدينا تسميات مثل: ديمقراطية الاستفتاءات في ألمانيا النازية، والديمقراطية المركزية عند ماوتسي تونج، والديمقراطية الموجهة عند سوكارنو، والدكتاتورية الديمقراطية عند سيكوتوري، والديمقراطية الحقّة عند كاسترو.

وظهر لدينا بعد التطوّر الصناعي والتجاري الذي عرفته الدول الغربيّة ما يسمى بالديمقراطية الاجتماعية وهي بمثابة إيديولوجيا أو فكر سياسيّ، يجمع بين الليبراليّة السياسيّة من جهة، والعدالة الاجتماعيّة من جهة ثانية، وتسمح للدولة وللأفراد بالتدخّل في المجال الاقتصاديّ، وذلك بهدف تحقيق المصلحة العامّة وضمان تكافؤ الفرص بين مواطني الدولة.

إنّ المبادئ والقيم التي تحملها الديمقراطية قد جعلت منها طموحاً وهدفاً للشعوب الحالمة بحياة أفضل تسودها الحرية والعيش الكريم، حتى أن الكثير من الشعوب نظّمت صفوفها لتثور بوجه الحكام المستبدين وتقضي على الدكتاتورية، ومن ثم تؤسس للأنظمة الديمقراطية أملاً في إيجاد بيئة تضمن الحياة المثالية التي يتمناها الأفراد.

وبعد عقود طويلة من نجاح الديمقراطية في الدول الغربية، بدأت الديمقراطية تواجه أزمة حقيقية في بداية القرن الحادي والعشرين، ويُعتقَد أن الأزمة التي تواجه الديمقراطية ناتجة من تراكمات خلقت مظاهر غير مرغوبة في الممارسة السياسية لدى الدول التي وصلت الديمقراطية فيها إلى مراتب متقدمة، وأدت هذه الحالة إلى تمكين نُخب سياسية واقتصادية مهيمنة من فرض نفوذها، وتفريغ الممارسة الديمقراطية من محتواها.

وقد ركّز الكثير من العلماء على دراسة التحديات التي تواجه الديمقراطية ومنهم عالما الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، والإيطالي كارلو بوردوني، حيث تبنى هذان العالمان رأياً مفاده أن الديمقراطية التي يعيشها العالم الغربي، هي ليست أزمة مؤقتة على الإطلاق بل هي أزمة متأصلة في طبيعة الديمقراطية وآليات ممارستها، ويلفت العالمان البولندي والإيطالي الانتباه إلى مصطلح جديد ومثير في الوقت عينه، وهو مصطلح (الاستبداد الديمقراطي)، ويشيران إلى أن الجماهير التي خرجت سعياً للديمقراطية، وضد الاستبداد، قد طرأ عليها متغير جديد، فهي باتت مترابطة في ما بينها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى أنها باتت مقاومة لمختلف أشكال السلطوية، بما في ذلك ما يسمى (الاستبداد الديمقراطي).

أمّا الكاتب والمفكر فوكوياما فيشير إلى مظاهر تفتت النسيج المجتمعي الأميركي، وكيف أن العنصرية والطبقية، وربما عن قريب المحاصصة المذهبية، والتوجهات اليمينية، كلها باتت تنخر في جسد (النسق الديمقراطي) الأميركي.

ويمكن أن تُثار أسئلة مهمة منها: هل أن الديمقراطية بدأت تفقد بريقها؟، وهل أن الغرب مهدد بخطر انهيار الديمقراطية؟، وهل أن الديمقراطية قد وصلت إلى القمّة ولا بد أن تبدأ بالانحدار؟.

قبل الإجابة على هذه التساؤلات لابد من القول: إن أهم مشكلة تواجه الديمقراطية هي تصاعد الشعبوية بشكل يتنافى مع الحتمية التاريخية القائمة على تغليب المؤسسة الديمقراطية الحكومية، وعلى الانتماءات الدينية والعرقية.

وهذه هي الإشكالية التي بدأ الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا يعانيان منها، كما أن أهم ملامح التراجع العالمي للديمقراطية تمثّل بانتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الذي يصفه الكثير من المفكرين ومنهم فوكوياما بأنه حاكم مستبد، وذلك بالتزامن مع أزمة الديمقراطية في أوروبا خاصة في بريطانيا التي صوت شعبها لصالح المزيد من الخصوصية بعد سنين طويلة من الاندماج السياسي والاقتصادي مع أوروبا، فضلا عن صعود التيارات الشعبوية وتحقيقها حضورا واضحا في كل من فرنسا وإيطاليا وهنغاريا، وكذلك تأخّر تشكيل الحكومات الائتلافية في ألمانيا.

لا يخفى على أحد أن هناك شكوكاً وهواجس عميقة لدى الناخبين في أوروبا وأميركا حول جدوى العملية الانتخابية، وفيما إذا كانت نتائجها محصنة من التلاعب والتزوير، وما يدور في الولايات المتحدة مثال على ذلك، إذ يجد الأميركيون أنفسهم أمام ديمقراطيات مشوهة ويتم التلاعب بأركانها حسب رغبة أصحاب النفوذ، حتى أصبحت المناصب التنفيذية والتشريعية تُمنح للأكثر قدرة في جمع التبرعات، ومن خلال كسب التأييد الجماهيري بأساليب غير نبيلة، فضلا عن تصاعد الاتهامات المتبادلة بين أقطاب السياسة الأميركية بتزوير نتائج الانتخابات.

هناك إحساس بأن الانتخابات في الديمقراطيات الغربية لم تعد تمثل تعبيراً عن اختيار ديمقراطي حرّ نزيه، بل أن هناك من يرى إنها باتت تعمّق التصدعات السياسية الحاضرة في المجتمعات الأوروبية والأميركية، وتوسّع هوة الانقسامات الاجتماعية، وأن أزمة الديمقراطية إلى حد كبير أزمة تمثيل، أو بمعنى آخر أكثر دقة (غياب التمثيل)، وهو ما يستوجب إعادة النظر بالديمقراطية وآلياتها كون مخرجاتها وما تفرزه من نتائج لم يعد يتوافق مع روح الديمقراطية الحقيقية الذي يستند إلى فكرة حكم الأغلبية مع مراعاة حقوق الأقلية، فقد أضحت نتائج الانتخابات وسيلة لحكم الأقلية وليس الأغلبية سواء كانت بحساب الأصوات التي أهلت المرشحين للفوز أو حتى بمسألة غياب شرعية الإنجاز لدى من وصلوا إلى السلطة عن طريق الانتخابات.

وهناك معضلة أخرى تواجه الديمقراطية وتجردها من عدالتها وتشوه صورتها لدى طبقة واسعة من الجماهير، وتتمثل بالتلاعب بإرادة الناخبين بوسائل وأساليب شتّى، مرة بالمال السياسي وشراء الذمم، ومرة أخرى من خلال الإعلام الموجه والذي امتلك القدرة -بما أتاحت له الثورة الرقمية من ميزات- على التأثير بميول واتجاهات وآراء فئات واسعة من المجتمعات.

لقد تلاشت الفكرة الأساسية للديمقراطية وأسباب نشأتها الحقيقية والمتمثلة بانتخاب الشعب لحاكم يعمل على ضمان الرفاهية لشعبه، وتحولت آليات الديمقراطية إلى طريق للوصول إلى السلطة والصراع السياسي من اجل الحكم، في الوقت الذي يتجاهل الحكّام مصالح الشعب الجوهرية وتنشغل الأحزاب السياسية بمكاسب السلطة التي تتبادلها أو تتقاسمها فيما بينها من خلال وجودها في المجالس النيابية في حين يبقى الشعب على الهامش باستثناء بعض الفتات من الخدمات البسيطة والإجراءات الشكلية التي لا ترقى لاستحقاق الجماهير وطموحها.

كل هذا يحدث في بلدان توصف الديمقراطية فيها بأنها عريقة وراسخة فما بالك بالبلدان التي مازالت حديثة العهد بها والتي ما زالت تحاول تثبيت أسس الديمقراطية في مجتمعاتها، وظهر بما لا يقبل الشك أن محاولات هذه البلدان باءت بالفشل لوجود ارتدادات وتداعيات خطيرة نتيجة الأخذ ببعض عناصر الديمقراطية، فتصاعد الصراع القومي والديني والمذهبي، والانقسام المجتمعي الحاد، وشيوع الفساد الفاحش وضعف سلطة الدولة وانتشار السلاح خارج مؤسسات الدولة، هي مؤشرات على أن الديمقراطية تواجه تحديات كبيرة قد تؤدي إلى فشلها في غير بلدانها الأصلية.

ولما سبق فإنه من الضروري تركيز الجهود الفكرية لدراسة وتقييم التجربة الديمقراطية والتقرير في إمكانية ابتكار نظام حكم أكثر تطورا وملائمة لطبيعة المرحلة التاريخية التي تعيشها البشرية لتكون بديلاً للديمقراطية خصوصاً بعد تراجع أداء الديمقراطية وأفول عصرها الذهبي، وإنْ كانت هذه المهمة مستحيلة فعلى الأقل يتوجب العمل على إصلاح ما فسد من أركان الديمقراطية لإعادة ثقة الشعوب بجدواها.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2021Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق