في صمت مطبق مرت الذكرى، وكأنها حدث عرضي لم يغير بوصلة التاريخ، وكأنها ليست إلا مناسبة فلكلورية للحنين وللاستعادة الوجدانية للماضي عبر الأناشيد والتراتيل الحزبية. مرت بدون اهتمام رسمي أو شعبي. لكن الأسوأ أنها غدت عند البعض فرصة لوضع الوثيقة وما يصاحبها من ذكريات في خانة المراجعة...
في صمت مطبق مرت الذكرى، وكأنها حدث عرضي لم يغير بوصلة التاريخ، وكأنها ليست إلا مناسبة فلكلورية للحنين وللاستعادة الوجدانية للماضي عبر الأناشيد والتراتيل الحزبية. مرت بدون اهتمام رسمي أو شعبي. لكن الأسوأ أنها غدت عند البعض فرصة لوضع الوثيقة وما يصاحبها من ذكريات في خانة المراجعة والتفنيد بل والتكذيب أحيانا.
فالبعض شكك في نسبتها إلى حزب الاستقلال، وآخرون اكتشفوا وثائق سابقة أو لاحقة يمكنها تفنيد الحدث برمته، وآخرون بحثوا في دور القصر في صياغة الحدث بأكمله.... أفكار وآراء كثيرة تتداول إعلاميا، وفي أحيان قليلة بحثيا، في مسار عنوانه البحث عن الحقيقة التاريخية، لكن مضمونه، سواء وعى به أصحابه أم لم يعوا، هو هدم الذاكرة وتقويض الأسس في مسار بناء البدائل المنتظرة.
فقد احتفل المغاربة الاثنين الماضي بذكرى 11 يناير المخلدة لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944. وإذا كانت الصورة الاحتفالية التي تختزل الحدث في أشخاص معينين أو حزب محدد أو حالة سياسية خاصة تخفي جانبا من الحقيقة، فإن القراءة الموضوعية تستوجب الإحاطة بكامل معطيات المرحلة وتفكيك خطاب الوثيقة بدل العيش في هوامش الحدث.
فكثير من الآراء التي تدعي مراجعة الوثيقة، هنا وهناك، تختزن حالة نفسية عاشها الوجدان الشعبي المغربي في مواجهة الخطاب الرسمي والحزبي منذ السبعينات. فالذين يربطون الوثيقة بحزب الاستقلال وحده، ويدعون أن ذلك "يقود إلى مغالطة تاريخية خطيرة" يحاكمون التاريخ بمنطق الحاضر. فمنطق الحزب الذي قاد حركة التحرر ليس هو نفسه الحاضر في دواليب السياسة المغربية الحالية، لأننا آنئذ كنا نتحدث عن كيان أو هيئة جامعة للنخبة الوطنية بكل اطيافها الإيديولوجية والسياسية واللغوية.
كما أن العلاقة مع القصر لم تكن بالتعقيد الذي عرفته مرحلة الاستقلال، حيث كان التشاور مع السلطان والتنسيق معه في كل عناصر الوثيقة أمرا عاديا في مرحلة تستوجب الوحدة بدل الاصطفاف. ففي التقييم الذي قدمه عبد الرحيم بوعبيد، في شهادته التي نقلها الأستاذ طليمات، للحدث، اعتبره جهدا موضوعيا وواقعيا في إطار تدبير المقاومة للمرحلة، ردا على الكثير من محاولات الإرجاء والاستسلام والنكوص (تحت مسمى الظرفية الدولية) والتي تضمنتها بعض الوثائق التي غدا بعض الإعلاميين يتغنون بها، وبعبارة واضحة أوجز بوعبيد: "بعد تفكير علمي، كان علينا أن نكون واقعيين، وأن نحدد كهدف ما كان آخرون يعتبرونه مستحيلا".
فالوثيقة التي وقعها 58 شخصا، بتشاور مع السلطان محمد الخامس كانت تعبيرا ثوريا وحدويا اجتمعت فيه الأطياف المختلفة لمخاطبة الاستعمار وطرح فكرة المغرب المستقل. فالمخاطبة كانت من خلال مواجهة الرؤية الاحتقارية للذات الوطنية التي وسمت عادة الخطاب الكولونيالي، لذلك افتتحت بالاعتراف باستقلالية المغرب منذ وجوده الجماعي والجغرافي.
أما الاستشراف فقد تحكمت فيه منظومة مفاهيم كانت هي الخيط الناظم: السيادة (وردت ثلاث مرات)، والوحدة(3)، والحرية (5) والاستقلال (4) ونظام الحكم (3)... لأن الوثيقة لم تكن إعلانا لبدء مرحلة الاستقلال فقط بل كانت تختزل رؤية أصحابها، ومعهم الشعب المغربي، للدولة المنتظرة بعد زوال الاستعمار.
لذا فرمزية 11 يناير ليس في ربطها الشَرطي بواقع مغرب الخمسينات، أو البحث عن تفنيد الحدث والتشكيك في الوثيقة، لكن من خلال استيعاب تصور رجالات المقاومة لدولة الاستقلال القائمة على السيادة والوحدة والحرية والانتماء للوطن والأمة. هي مفاهيم مازالت تحمل راهنيتها في زمن تغير بوصلة الانتماء والتشظي الهوياتي وغياب مرتكزات دولة الاستقلال في مخططات الفاعلين السياسيين والحكوميين.
فلم يكن أعضاء الحركة الوطنية وهم يقاومون المحتل ويؤسسون لوطن غدهم غافلين عن مقومات المغرب المفترض والمتصور: المغرب حيث يحافَظ على تراكمات الانتماء الهوياتي والعمق الحضاري والوحدة الاجتماعية والنظام السياسي الديمقراطي. وهذه المقومات هي التي شرعنت وجوده على مر التاريخ ويشتد لمعان بريقها حين نخلدها ونؤمن بها. حتى لا نجد أنفسنا يوما من الأيام وقد حولنا الذاكرة برمتها إلى مجرد كذبة!!!.
اضف تعليق