الثورة هي إسقاط مفاجئ للنظام السياسي بالقوة الشعبية وذلك عن طريق احداث تغيير مفاجئ في دواليب الدولة ومؤسسات الحكم لصالح الفئات التي كانت مهمشة في النظام القديم وازاحة الفئات التي كانت مبجلة. أصول الثورة متعددة وعميقة وتشمل الاسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولكنها ترتبط بعوامل ثقافية ودينية وتاريخية...
"الثورات هي الأحداث السياسية الوحيدة التي توصلنا بشكل مباشر وحتمي إلى مشكلة البداية."
حنة أرندت، في الثورة
كيف يتحدث الفلاسفة عن الثورة السياسية؟ وبأي معنى يتم تناول ظاهرة الثورة في السياق الفلسفي الراهن؟ وماذا يمكن للفيلسوف ان يكتب ويدون للعالم في الذكرى العاشرة من اندلاع ثورة الحرية والكرامة في تونس؟
الثورة هي إسقاط مفاجئ للنظام السياسي بالقوة الشعبية وذلك عن طريق احداث تغيير مفاجئ في دواليب الدولة ومؤسسات الحكم لصالح الفئات التي كانت مهمشة في النظام القديم وازاحة الفئات التي كانت مبجلة.
أصول الثورة متعددة وعميقة وتشمل الاسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولكنها ترتبط بعوامل ثقافية ودينية وتاريخية وتستند الى اعتبارات معنوية ومطالب رمزية وتعود الى أحداث مؤلمة في الذاكرة والوجدان.
نشأ مفهوم الثورة، كما يستخدم في السياسة اليوم، في القرن الثامن عشر في الغرب. كما يشير المفهوم المادي للمصطلح في الواقع إلى فكرة الدورة والتي تعني الحركة الدورية للنجوم والكواكب في فضاء الأفلاك. لكن ستتطور الثورة تدريجياً نحو ما يمكن أن نعرفه اليوم. تم استخدام مصطلح الثورة في أي شيء وكل شيء: في بعض الأحيان نتحدث عن منتج أو خدمة ثورية. وهكذا تحولت الثورة السياسية تدريجياً إلى ثورة اجتماعية، ولا سيما على يد ماركس الذي دعا إلى تحول جذري في المجتمع وإلغاء المجتمع الطبقي. إن إلغاء اللامساواة ومنع الملكية الخاصة هي مُثُل يجب تحقيقها لكي تكون الثورة سياسية واقتصادية وتتحول الى ثورة الثقافية.
من هذا المنطلق تشير الثورة الاجتماعية إلى حدوث تمزق في النظام تم تنفيذه مباشرة من قبل الشركة. إنه تحول عالمي جذري لجميع العلاقات الاجتماعية اليومية وتفاعلات مجموعة بشرية داخل مساحة معينة. كما تُعرَّف الثورة السياسية بأنها "تغيير مفاجئ وعنيف في البنية السياسية والاجتماعية للدولة، يحدث عندما تثور مجموعة القوى الاجتماعية والأفراد ضد السلطات القائمة، وتستولي على السلطة وتنجح في حراستها.
ما يلفت الانتباه أن الثورات لا تقوم على نفس الأسس وان البعض منها يتجه نحو تدمير النظام القديم وتأسيس مشروع جديد من خلال تطبيق مبادئ فلسفية لعصر الأنوار وتطرح للنقاش العمومي حقوقا جديدة ذات قيمة كونية وتعبر عن الكيفية التي أصبح بها الثوار لاعبين في مسرح التاريخ والبعض الآخر ينادي باستعادة الدولة للمبادرة السياسية المركزية وتطبيق القانون بالقوة وإعادة انتاج الرموز الوطنية وتفعيل الأنماط الخصوصية.
من أجل فهم سياسات القرن الواحد العشرين، يجب أن نعود أيضًا إلى فكرة الثورة التي عبأتها حركات التحرير للقوى المستعمرة. وهكذا فإن الفكر الثوري يقع في قلب سياسات القرن الواحد العشرين، والذي يتم تناوله بشكل خاص من خلال الفاشية، ولكن أيضًا من خلال الشيوعية والصدامات المحيطة بإنهاء الاستعمار.
احترام السيادة الوطنية وتحرير الفرد من القمع والتنكيل والتقليل التدريجي من الجهل والبؤس والرذيلة والمرض وإرساء نظام عدالة أكثر انصافا والتحلي بالمدنية والامتثال للقانون، هذه هي المبادئ الرئيسية التي تمثل عبقرية الثورة. من المعلوم أن الفلسفة لا تنفصل عن الثورة السياسية والسياسة الثورية هي التي تعمل على تجديد الفلسفة وتخرجها من الفضاءات الخاصة الى الفضاءات العامة ومن التمركز على ذاتها الى الاهتمام بالهوامش والانفتاح على الوافد والتقاط معاني من على قارعة الطرق وارجاع القيمة للفعل البشري.
اذا كان الغرض من السياسة هو تحقيق المواطنة والحرية فإن الغرض من الثورة هو منح المجتمع السيادة الفعلية وارجاع السلطة الى صاحبها الحقيقي وهو الشعب وإيجاد المؤسسات التي تعبر عن إرادة الشعب ومنح المواطنين الغطاء القانوني للمشاركة الوازنة في إدارة الشأن العام وفسح المجال أمام المعارضة لتقاسم الحكم.
كل ثورة شعبية لم تصل الى مراميها ولم تحقق أهدافها ومازالت لم تكتمل بعد تحتاج الى ثورة ثقافية تكمل مسارها وتبلغ بها الى أهدافها الحقيقية وتبني العقل الجمهوري وتمنحهم فرصة التغيير وتمد الثوار بالبدائل والرؤى والتصورات الراديكالية وترجح كفتهم في صراع مصيري مع القوى المناوئة والمرتدة والمحافظة.
عندما يتم اختراق الصفوف الأمامية للقيادة السياسية التي تتشكل على أعقاب الثورة الاجتماعية من ممثلي المصالح الفئوية الضيقة ويتم تحويل المطالب وتسويف الاستحقاقات وتعويم المشاكل وتضخيم التحديات فإن الثورة الثقافية تصبح من أوكد الأمور من أجل التخلص من هؤلاء الأوغاد المندسين والمتواطئين مع الأعداء.
الثورة الثقافية ليست مجرد تجربة للتحديث ومحطة تنوير عقلي وانما حركة أيديولوجية ومعركة سياسية تخوضها الحشود ضد أصحاب النفوذ والمصالح وما تبقى من الاقطاع وضد الرأسمالية الطفيلية الموازية وفي اتجاه تخليص أجهزة الدولة من الفساد والمحسوبية والمحاباة وتحييد الإدارة وإيجاد مرافق عمومية ديناميكية.
الثورة الثقافية هي تنظيم للتفكير والمعرفة والفعل والتأثير في اتجاه القطع مع الممارسات التسلطية القديمة والحيلولة دون عودة فلول الدولة العميقة وتفكيك عملية إعادة الإنتاج التي انخرط فيها النظام البائد لنفسه فوق أرضية جديدة وبأسلوب متكيف مع الضربات التي تلقاها ومستفيد من الأزمات التي مر بها بعد قيامه بجملة من الإصلاحات وعدد من الترقيعات ومحاولة انتشاره في الساحة السياسية بوصفه المنقذ والحل في المستقبل.
ليست الثورة الثقافية مجرد ثورة رقمية في العالم الافتراضي وتمارس النضال الإعلامي والاشهار وانما هي حدث سياسي يسعى الى صيانة الذاكرة النضالية وبناء رؤية استراتيجية للتنمية وخلق فرص حقيقية للاستثمار في الذكاء البشري وصناعة التاريخ والاشعاع في العالم وانجاح تجربة الانتقال الى الديمقراطية المباشرة. عبر تغيير العادات الثقافية بشكل جذري، تعمل الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة والشبكات الافتراضية على زعزعة استقرار الصرح الاجتماعي بأكمله مزيلة الطابع المادي والتواصل وفاتحة لآفاق بدأ استكشافها للتو.
الثورة الثقافية هي خوض معركة الأفكار لإخراج الطبقات الشعبية من الأيديولوجية المهيمنة عبر قهر السلطة القائمة واحراز الهيمنة الثقافية وافتكاك مواقع القوة وانشاء كتلة تاريخية راسخة تفتح مسارات جديدة للوطن.
الثورة الثقافية هي التفكير في الأزمة وإيقاف حالة التفكك وإعادة تشكيل السياسية وجعل الأيديولوجيا عامل تعبئة وميدان للنضالات ذات الطابع الفلسفي والسياسي؛ ثورة الفطرة، وهي أيضًا إصلاح فكري وأخلاقي.
لقد أعلنت حنة أرندت في نفس الكتاب الذي تؤرخ فيه للفردوس المفقود أن المفهوم الحديث للثورة، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة أن مجرى التاريخ يبدأ فجأة من جديد، وأن قصة جديدة تمامًا، قصة لم يعرفها أحد أو لم يروها من قبل، على وشك أن تتكشف، لم يكن معروفًا قبل نهاية القرن الثامن عشر وثورتيه العظيمتين.
فهل نحن اليوم فاعلون لثورة ثالثة، بعد ثورة تقوم على صعود المحرك البخاري والسكك الحديدية، ثم ثانية يرمز إليها باستغلال الكهرباء والنفط؟ لديهم شبكات كبيرة مشتركة (سكك حديدية، كهرباء، إنترنت)، مبتكرون (جيمس وات ومحركه البخاري، توماس إديسون وإمبراطوريته الصناعية، بيل جيتس وشركته ميكروسوفت وخيال يبشر بميلاد إنسانية جديدة. من مجال الثقافة (السينما والتصوير الفوتوغرافي والكتب والموسيقى والفنون والصحافة والراديو والتلفزيون ... يأخذ المقياس الدقيق لهذه الثورة في العلاقات مع نفسه ومع الآخرين، في الوصول إلى المعرفة، فيما يتعلق بالمعلومات والحجج. هل هو انقطاع أنثروبولوجي في مجتمعاتنا، أو بالأحرى تحول جديد في استخداماتنا لوسائل الاتصال كما اختبرت الإنسانية؟ وما العمل في ظل بقاء المسار الثوري منقوصا والحكم على الثورة السياسية بالإخفاق والتراجع عن وعودها؟
اضف تعليق