بين الولادة والموت يمر الانسان بتغييرات هائلة. أجسامنا تتغير بشكل كبير، حيث كل واحدة من خلايانا تُستبدل عدة مرات أثناء الحياة. ونفس الشيء ينطبق على ذاكرتنا وشخصيتنا وكامل النفس كلها في تغيّر دائم طوال حياتنا. وأمام هكذا تغيرات شديدة، كيف يمكن الادّعاء اننا نمتلك هوية واحدة تبقى ثابتة...
بين الولادة والموت يمر الانسان بتغييرات هائلة. أجسامنا تتغير بشكل كبير، حيث كل واحدة من خلايانا تُستبدل عدة مرات أثناء الحياة. ونفس الشيء ينطبق على ذاكرتنا وشخصيتنا وكامل النفس كلها في تغيّر دائم طوال حياتنا. وأمام هكذا تغيرات شديدة، كيف يمكن الادّعاء اننا نمتلك هوية واحدة تبقى ثابتة في كل تلك الظروف؟
قد يبدو هذا سؤالا فلسفيا عميقا والعديد من الناس قد يدّعون اننا نستطيع بسهولة القول اننا نفس الشخص الذي كنا عليه في الأمس ولذلك لا توجد مشكلة. مع ذلك، هناك حاجة عملية كبيرة جدا لإعتماد معيار ملائم للهوية يصلح على مر الزمن، وهناك انعكاسات واسعة لفرض مثل هذا المعيار. فمثلا، نحن قد نجد ان بعض الناس يختلفون جدا عن ذواتهم في الماضي لدرجة ان معاقبتهم على الجرائم التي ارتكبوها في الماضي سوف لن يكون عادلا. انعكاس آخر هام يأتي من التحقق ما اذا كان يجب اتّباع رغبة شخص ما ام لا. اذا كان بالإمكان تبيان ان هذا الفرد لم يكن هو ذاته عندما كتب تلك الوثائق، فنحن سنعتبره غير مناسب للاتّباع.
كيف يمكن معالجة المشكلة؟
رودريك تشيشولم يدّعي اننا عندما نتحدث عن هويتنا في الماضي او عن ذواتنا المستقبلية، انما نتحدث عن ذلك بمعنى صارم، اي اننا نعني بالضبط نفس الشيء. لكن التغيير في الخلايا، يبعدنا عن معيار تشيشولم للهوية الصارمة، بمعنى ان الهوية الوحيدة التي نأملها عبر الزمن هي هوية مرنة (تشيشولم، ص82). ونفس الشيء، حجم التغيير الكبير الذي نخضع له يجنّبنا التشابه النوعي. لهذا السبب، سنهتم بالقول ان شخص ما يستطيع الحفاظ على الهوية العددية اثناء حياته(1).
في هذا المقال، سنفحص مختلف الاقتراحات لأجل التوصل لمعيار لإستمرارية هوية الفرد. هذه الاقتراحات عادة تميل للوقوع تحت صنفين رئيسيين: وهما الاستمرارية الجسمية والاستمرارية النفسية. سنفحص ايضا الصياغة المعدلة لنظرية الاستمرارية الجسمية التي تستعمل الدماغ كمعيار للاستمرارية، بالاضافة الى معيار الذاكرة للاستمرارية. كانت هناك مقترحات اخرى لاتقع ضمن أي من الصنفين أعلاه، مثل نظرية حزمة ديفد هيوم في الذات. سوف لن نعالج هذه الاتجاهات، لأننا نرغب بتحديد مجموعة من المعايير الواضحة المعالم التي يمكن استخدامها في التحقق من مكانة هوية المرء ومن ثم امكانية استخدامها في الحياة الواقعية.
سنتطرق هنا لدراسة الحجج المؤيدة والمعارضة لكل من المعايير الأربعة. سننظر في أي العناصر يجب اعتبارها ضرورية للهوية والتي يجب ان تغطى الموقف الذي نقرر بالنهاية تبنّيه بشأن الهوية الفردية عبر الزمن.
الاستمرارية الجسمية
سوف نبين هنا، انه من خلال وصف حدود التغيرات الفيزيقية المقبولة، فان معيار الجسم وحده غير كاف لاستمرارية هوية المرء. كذلك، سوف نبين ان بعض اشكال الاستمرارية الفيزيقية، مثل التركيب الجيني للفرد هي اساسية.
معيار الاستمرارية الجسمية
بعض الفلاسفة الماديين مثل ايرك اولسن ادّعوا ان الجسم الفيزيقي هو مصدر الهوية. هذه الرؤية تدّعي انه طالما يبقي المرء بنفس الجسم خلال حياته؟، فهو سيضمن المحافظة على هويته المتميزة. هذا الاتجاه يجعل تحديد الذوات واضح وبسيط، لأننا نستطيع تحديد بالضبط الموقع الزماكاني لكل ذات بالاضافة الى بدايات ونهايات الذوات. لذا، على سبيل المثال، لو ارتكب احد جريمة، نحن بسهولة نقرر ما اذا كان مذنبا ام لا بالدليل الواضح كطبعة الأصابع او شهادة الشهود. طالما جسمه ارتكب الجريمة، سنكون قادرين على معاقبته.
الانتقادات لهذا الموقف بشأن التغيرات مع الزمن
هناك الكثير من المعارضة للرؤية القائلة ان هويتنا يجب ان تكون محدودة فقط بالجسم الفيزيقي. هذا الموقف هو مضاد لمعظم الأديان التي ترى ان أرواحنا غير المادية هي جوهرية لهوياتنا. التصور الديني للروح يميل ليكون مشابه لذلك الخاص بالوعي، وان بعض الاديان مثل اليهودية والمسيحية تدّعي ان هذا الجزء منا يستمر في البقاء بعد موت الجسم الفيزيقي. وكما يشير ديريك بارفيت، مع ان معيار الجسم يسمح فقط للحياة الثانية بشكل انبعاث فيزيقي او تقمص (بارفيت 204)، غير اننا بالتأكيد لا يجب ان نرفض معيار الجسم فقط لأنه غير منسجم مع الاديان الشائعة.
هناك الكثير من الانتقادات الرافضة لمعيار الجسم للهوية. أجسامنا هي باستمرار تتغير اثناء النمو، تفقد او تكوّن خلايا جديدة. لذا، كم مقدار الجسم الذي يجب ان يبقى ذاته لكي يُصنف كنفس الفرد الذي كان قبل عدة سنوات مضت؟ فمثلا، المقارنة الشهيرة هنا هي تلك التي تصف زوج جوارب للفيلسوف جون لوك، الذي حدثت فيه شقوق وثقوب اثناء الاستعمال. كلما حدثت الثقوب، يقوم لوك بترقيعها. ولكن بعد فترة من اصلاح الجوارب، لم يبق شيء من المواد الاصلية، وهي ببساطة اصبحت رقعا او مزيج من قطع جديدة من المواد (باركر552).
النقاش الأصلي لقضية لوك هو سفينة ثيسوس التي كانت تُستبدل اجزاءها عند الضرورة (ليبنز119-231). العديد من الناس يعتقدون انه في مرحلة ما ستفقد سفينة ثيسوس الكثير من أجزاءها الأصلية ولم تعد نفس السفينة التي عاد بها ثيسوس من كريت. ونفس الشيء، يعتقد البعض ان جوراب لوك المفضل لم يعد موجودا بعدما اختفت جميع الخيوط الأصلية. اذاً لو ساوينا الهوية مع خلايا الجسم، فان تلك الامثلة تقترح اننا يجب ان نطوّر هوية جديدة لأن اجسامنا الخلوية تتغير دائما اثناء الحياة.
هذا الموقف هو غريب، لأنه ستكون هناك تغيرات غير مكتشفة في مظهرنا او شعورنا. دلالات هذا ستكون اننا يجب ان لا نعاقب من هو في الستين من العمر على جريمة ارتكبها حينما كان في العشرين، لأن جسمه هو ليس نفس الجسم اثناء ارتكاب الجريمة. وبينما هناك فرق كبير بين ماضي الذات وحاضرها، لايزال يبدو من السخف ان نقرر ان خلايا الجسم هي المظهر الاكثر اهمية، بدلا من التركيز على احتمال تكرار الجريمة.
حلول ممكنة للانتقادات
لا يتفق كل فرد على صحة هذا. العديد من الناس يعتقدون ان التغير التدريجي الحاصل في الامثلة السابقة يضمن بانهم يحتفظون بهويتهم الاصلية. في حالة جواريب لوك، يميل الاجماع على ان ما تبقّى من جواريب هو في الحقيقة ذات الجواريب المفضلة لدى لوك، لأن هذه هي الطريقة التي نتحدث فيها عن الاشياء الخاضعة للإصلاح. ونفس الشيء، التغيير التدريجي في سفينة ثيسوس يضمن انها تحتفظ بهويتها. وبقدر ما يتعلق هذا بالجسم، انه يقترح، رغم ان كل من خلايانا تُستبدل كل سبع سنوات (مارهون، ص88،)، لكن هذا لايمنع من بقاء نفس الفرد.
هذا يعني ان التغيير التدريجي لخلايا الجسم يقع ضمن الحدود المقبولة للتغيير، بما يحفظ معيار الجسم للهوية. ان الحاجة للتغيير التدريجي تدعمها التجربة الفكرية لبارفيت من خلال الناقل عن بعد. هو يصف ماكنة تنقل الناس الى المريخ عبر تسجيل موقع كل خلية في أجسامهم، ثم تحطّم الجسد وتبني بالضبط جسدا مشابه له على المريخ. ولكن في يوم ما تتغير الماكنة ولم تعد تحطم الجسم الارضي، فتسبب مشاكل قلبية تقود للموت في بضعة ايام. بارفت يؤكد ان الفرد على الارض سيعتقد انه سيموت لأن الافراد على المريخ هم مجرد نسخة طبق الاصل لذاتهم الحقيقية (بارفت199-201). اما رودرك شولم يعرض شكلا اخرا حول هذه الفكرة، حيث تُستبدل الواح السفينة بألمنيوم (شولم273).
ان القطع التي ازيلت من السفينة اعيد تجميعها لاحقا لتكون نسخة مطابقة للسفينة. ولكن في هذا المثال، نحن اكثر ميلا للحالة بان "النسخة" من السفينة التي جرى تجميعها من القطع الاصلية هي نفس سفينة ثيسوس، بينما تصليحات الالمنيوم اصبحت نسخة مطابقة.
هذا بسبب ان الجزء الاساسي من نظرية استمرارية الجسم يتطلب منا ان نحتفظ اساسا بنفس التركيب الوراثي. هذا يجعل مفهوم استمرارية الجسم ينال الكثير من الدعم من جانب العلوم، والذي يميل للنظر الينا كمخلوقات بايولوجية محكومة بردود الافعال الفيزيقية التي تحدث في ادمغتنا. وكنتيجة لهذا، هو اننا بينما اجسامنا يمكن ان تتكرر كليا بشكل معدني، هذه الروبوتات ستفتقر الى الشفرات الوراثية وسوف تكون صورة عن الأصل بدلا من انفسنا.
الحتمية الوراثية تأخذ هذا الموقف الى مدى أبعد، وتدّعي ان منْ نحن يعتمد كليا على جيناتنا. وبسبب هذه الرؤية، يبدو ان القدريين الجينيين يجب ان يؤمنوا ان الاستنساخ سيكون مشابها للفرد المستنسخ عنه. نحن يجب ان نرسم الفرق هنا بين الهوية النوعية والهوية العددية. التوأمان المتشابهان يشتركان بـ 100% من جيناتهما، لكن هذا يجعلهما متشابهان فقط نوعيا وليس عدديا.
الحدود المقبولة للتغيير
ذكرنا ان إعادة البناء التدريجي لخلايانا يقع ضمن مجالات مقبولة من التغيير، بينما لو استُبدلنا تماما بجسم غير انساني (على سبيل المثال، جسم معدني) فان الامر ليس كذلك. اذاً أين بالضبط تكمن حدود التغيير التي تُعتبر مقبولة؟ كم يمكننا ان نفقد من أجسامنا دون ان نفقد هويتنا؟ برنارد وليم يعرض تجربة فكرية فيها يُستبدل جسم الفرد تدريجيا بجسم نابليون. يدّعي ويليم ان هذا المثال هو عرضة لمفارقة الركام (بارفت234). ازالة حبوب من بين الركام لايمنع من كونها ركاما، انه يبدو ان كل تغيير هو صغير جدا لدرجة لا يسمح بتغيير هويتنا. مع ذلك، في نهاية التجربة، جرى استبدال جسم الفرد بجسم نابليون.
في هذا المثال، يصف وليم التغيرات الفيزيقية التي تحدث لموضوع هذه التجربة، ولكن ليس التأثيرات السايكولوجية. انه يبدو ان المعلومات التي نحتاجها لكي نتأكد ما اذا كان الفرد لايزال هو نفس الشخص ام لا بعد التجربة كما كان في السابق انما يتعلق بذكرياته وسماته الشخصية. اذا كان اعطاؤه سيقان واذرع نابليون ذات تأثير قليل على هويته، فان اعطائه دماغه هو اكثر اهمية. هذا يشير الى ان الدماغ هو الجزء الوحيد من الجسم الضروري لإستمرار الهوية. واذا كان هذا المثال متطرف جدا، فهو ليس له تأثيرات عملية.
اذا كان مقدار معين من جسمنا مطلوب ان يبقى نفسه لكي نبقى نفس الفرد، فان هذا يطرح اسئلة حول بتر الاطراف والناس الذين يباشرون عمليات جراحية بلاستيكية مكثفة. فمثلا، ماذا لو بتر رجل ذراعيه ومن ثم ساقيه؟ هل هو لايزال نفس الرجل قبل العملية؟ مع انه الان يفتقر للعديد من المهارات التي امتلكها في السابق، لكن يبدو من غير الانصاف الادّعاء انه ليس نفس الرجل. ماذا لو اختُزل بطريقة ما الى مجرد رأس في جرة، ورُبط الى مكائن لتبقيه حيا؟ يبدو ان الجزء الوحيد من الجسم الضروري لإستمرار هوية الفرد هو الدماغ.
هذا المقترح نال الدعم من سدني شومكر الذي عرض التجربة الفكرية التالية بالضد من معيار الجسم. يصف سدني تجربة تتعلق برجلين هما براون وروبنسن الذين باشرا زراعة دماغ. دماغ براون وُضع في جسم روبنسن وبالعكس. عندما استيقظ جسم روبنسن كان يتذكر كل شيء في حياة براون، يتصرف مثل براون، له نفس معتقدات براون وحتى يتبنّى كل السلوكيات التي تمارسها عائلته تجاه براون. يبدو ان عائلتي براون وروبنسن يجب ان يتفقا على ان جسم روبنسن هو الان اساس لهوية براون (سدني43). وبينما هذه تُعد حالة متطرفة، لكنها فعلا تظهر ان الجسم وحده لا يكفي ولا هو شرط ضروري لإستمرار هوية الفرد، وان الدماغ هو مرشح افضل.
ايريك اولسن يدافع عن معيار الجسم ضد هذا النقد، يرى ان الفرد هو مجرد عضو بايولوجي. هو يدّعي ان الانسان يمكن ان يقاوم تغييرا سايكولوجيا كاملا ويبقى هو ذاته طالما هو حي (اولسن131). البعض لا يتفق معه في هذا الموقف، باعتبار انك لو أزلت شخصية الفرد وسلوكياته وذكرياته وميوله، تكون ازلت هوية ذلك الفرد. اولسن يبدو كأنه بسّط قضية الهوية. من السهل القول ان الانسان لايزال موجودا رغم التغيير في حياته الذهنية، لكن من الصعب جدا اثبات الادّعاء بان هويته الفردية لم تتأثر بهذا ابدا.
استمرارية الدماغ
سنبيّن هنا ان الدماغ هو العنصر المادي الوحيد المطلوب لكي يبقي المرء على هويته على مر الزمن. هذا بسبب انه المنطلق لأهم عنصر لهوية الفرد و نفسيته.
معيار استمرارية الدماغ
يبدو ان نظرية استمرارية الجسم يمكن تعديلها لكي يكون التركيز على جزء واحد حيوي من الجسم وهو الدماغ. هذا العضو يحتفظ بكل المعلومات الحيوية لهويتنا مثل الذكريات والعقائد والآراء والعواطف والميول والمواقف وغيرها. وكما لاحظنا، ان اهم المؤيدين البارزين لهذا الموقف هو برنارد ويليمس. في تجربته الفكرية يصف ويلمس تغيرات صغيرة هائلة عندما نأخذها فرادى، تبدو لا تحدث فرقا في هوية المرء. غير ان هذه التغيرات الصغيرة تتحد مع بعضها لكي تحوّل الفرد تماما. يؤكد بارفيت بانه لو كانت هناك نقطة بين بداية ونهاية التجربة وحيث يموت الفرد الأصلي، فان الفرق بين الحياة والموت يجب ان يكون هامشيا جدا يستحيل تحديده تماما كالفرق بين عدة حبات قمح في كومة كبيرة (بارفيت244). وبسبب هذا، يعتقد وليمس ان الهوية يجب اختزالها الى دماغ وظيفي واحد(نونان7). هذا يبسّط مسألة الهوية ويسمح بتعريف واضح يسهل اعتماده. لذا، على سبيل المثال، يمكن بسهولة للرجل المسن الادّعاء انه مشابه لذاته الشابة لو انهما يشتركان بنفس الدماغ الوظيفي.
عيوب هذا الموقف
اولا، يبدو ان الدماغ يعطينا طريقة اكثر وضوحا في تعريف الهوية من محاولة حساب كم عدد الخلايا المتولدة، لأن الدماغ اما حاضرا ويعمل ام لا. لكن من الممكن للناس ان يعيشوا فقط بنصف دماغ. لذا، طالما كلا النصفين من الدماغ تطوّرا بشكل متساوي، فان نصف واحد من الدماغ يمكن نظريا ان يُزرع في جسم شخص آخر. احدى المشاكل في معيار الدماغ هي انه يترك الامكانية مفتوحة لشخص واحد في ان يكون مطابقا لأكثر من فرد واحد في المستقبل لو انهما قاما بزراعة جزئية للدماغ. مع ذلك، وكما ذكرنا انفا، نحن نهتم بالهوية العددية بمرور الزمن وانه من غير الممكن لشخص واحد ان يكون مطابقا عدديا مع اثنين من الاشخاص.
لو اردنا تجنّب هذه المشكلة في معيار الدماغ، ربما ندّعي ان نصف الدماغ لا يكفي لي كي اتمسك بادّعائي بهويتي. اذا كان هذا هو الموقف، فسوف اموت بفاعلية عندما اخضع لهذا الاجراء. ولكن لو أخذنا هذا الموقف، ماذا سنقول عن الشخصين الذين يتجولان بدماغي؟ يبدو انه، وفق هذا المعيار، سنُجبر على القول ان هويتين جديدتين سيبرزان بطريقة ما، مع ذكرياتي والكثير من شخصيتي. هذا موقف دفاعي غير صائب، يؤكد ان معيار الدماغ بحاجة للتنقيح.
لذا، اذا كان معيار الدماغ لايستطيع حل السؤال حول ما يحدث لي بعد هذا الاجراء، اذاً ماذا يستطيع ان يفعل؟ لكي نريح انفسنا من هذه المشكلة، يبدو ان افضل خيار هو الرجوع الى معيار الجسم. هذا المعيار الاضافي يسمح لنا بالتمييز بين الهويتين، من خلال القول اني استيقظت بنصف دماغ، بينما شخص اخر استيقظ وفي جسمه النصف الاخر. هذا يتطابق مع ما توصلنا اليه من استنتاج في القسم الاول، حيث وجدنا ان شفراتنا الوراثية هي من الأهمية بمكان لهويتنا.
نقد هذا الموقف فيما يتعلق بالتغيير مع الزمن
من الآثار المحتملة لهذه النظرية هي ان ضررا في الدماغ سوف يغير هويتنا. من المؤكد ان الضرر الشديد يمكنه حتما ان يؤثر بعمق على هويتنا. فمثلا، العديد من الناس يدّعون ان المصابين بمرض الزهايمر في المراحل الاخيرة سوف لن يعودوا نفس الافراد الذين اعتدنا عليهم، مع ذلك، العديد من الناس الذين عانوا من ضرر بالدماغ أثّر فقط على جزء محدود من الدماغ، بحيث تركهم بالضبط كما كانوا قبل الحادث. السؤال هو كم نحتاج من الدماغ من أجل ان تستمر هويتنا. هذا الدليل يبدو يقترح ان هناك اما جزء محدد من ضرر الدماغ نستطيع تحمّله بدون التأثير على هويتنا، او ان هناك فقط مساحات معينة من الدماغ مسؤولة عن الخصائص الضرورية لتحديد منْ نحن. القضية هي ليست معرفة نسبة الدماغ الأصلي المطلوب وانما أي مساحة في الدماغ هي ضرورية لإستمرار الهوية. هناك اسناد غريزي لهذا الادّعاء حيث يبدو مع ان خسارة قد تحدث للبصر او السمع او الذوق او الشم بدون تأثيرات محددة على شخصيتنا، لكن تغييرا حادا في التصرفات والمزاج سيشكل تهديدا كبيرا.
ان مشكلة الهوية عبر الزمن يمكن تجزئتها الى سؤالين:
1- أي العناصر من نفسيتنا هي مكونات اساسية للهوية؟ و
2- هل ان توضيح الهوية عبر الزمن ينسجم مع البناء العضوي للدماغ والذي هو ضروري لإدراك نفسية الفرد؟ يبدو من المحتمل ان المادة العضوية للدماغ ليست شديدة الأهمية بقدر ما هو المحتوى السايكولوجي له، والذي يمكن ادراكه بمواد اخرى. في المستقبل قد يكون بالإمكان بناء هيكل ادمغتنا من مواد غير عضوية كالمعادن والذي يسمح للكومبيوتر للعمل في محل دماغنا.
استمرارية الذاكرة
سنبين في هذا القسم ان الذاكرة هامة جدا لتصورنا عن انفسنا وهوية الآخرين، لكنها غير موثوقة ولا تكفي وحدها لضمان استمرارية هوية المرء. نعتقد ان المزيد من العناصر السايكولوجية مطلوبة في الظروف التي تكون فيها الذاكرة خاطئة او غير واعية.
نظرية لوك في الهوية الشخصية
يرى جون لوك ان الدماغ ليس هو العنصر الهام في الشخصية وانما المهم هو ما يمسكه الدماغ او الوعي (لوك، ص71). الوعي مفردة يصعب تعريفها. توماس ريد اشار الى اننا لانستطيع ان نكون واعين بالماضي لأننا تستطيع فقط ان نكون واعين بالحاضر (ريد، ص222). لذا ربما يعني لوك ان ذاكرتنا هي التي تجعلنا نفس الشخص كما كنا يوم امس. المشكلة في هذا هي اني استطيع تذكّر ما كان يفعله رفاقي في السكن يوم امس لكن هذا لايجعلني مطابقا لرفاقي في السكن. لذا يجب ان تكون فقط ذاكرة الشخص الأول (النظر الى الحدث بنفس المنظور الاصلي) تبيّن باني مطابق لذاتي يوم امس.
جوزيف بتلر يعارض هذا بالقول انه يؤدي الى موقف دائري، لأن امتلاك ذاكرة الشخص الاول للفعل تعني تذكّري بأني قمت به (بيتلر، ص324). غير اننا يمكن ان نرى انه بالإمكان لشخص ما ان يستيقظ بمرض فقدان ذاكرة، ويعرف ماذا قام بافعال مؤخرا ولكن بدون فكرة عن طبيعتها. وهكذا بالإمكان ان نفصل ذاكرة الشخص الاول عن الهوية. هذا هو الموقف الذي نُسب الى لوك.
نقد موقف لوك
ولكن هل هذا يعني انا لم اعد نفس ذاتي عندما انام، او عندما انسى مؤقتا بأني ذهبت في جولة على السايكل يوم امس و لم اعد نفس الشخص الذي ذهب على السايكل ؟ لوك لايعتقد بهذا الموقف. طالما انا تذكرت عندما استيقظت عندئذ انا لاازال نفس الشخص. ولكن ماذا لو كنت لا اتمكن من التذكر؟ مثلا، شخص ما مصاب بمرض الزهامير قد يعاني من فقدان الذاكرة للأحداث الاخيرة. هناك ايضا موقف ديفد فتباترك الذي عانى من شرود فصامي وهو في عمر 25 سنة، جعله ينسى كل شيء عن حياته قبل الشرود الذهني (القناة الخامسة، الرجل الذي بلا ماضي). بما ان نظرية لوك في الهوية ارتبطت بمسؤولية الفرد، فان لوك سيقول ان ديفد فتباترك لايمكن اعتباره مسؤولا عن أي من الأفعال الجيدة او السيئة التي قام بها قبل هذا المرض.
لا يمكننا القول ان الناس غير مسؤولين عن الافعال التي لايستطيعون تذكّرها. الفرق الذي نحتاج توضيحه في موقف لوك عن المسؤولية هو الفرق بين كونك واع بالفعل الآن وكونك واع به عندما كنت ترتكبه. فمثلا، جول لوي لم يُتهم بقتل والده بسبب انه ارتكب الجريمة عندما كان نائما(سمث- سبارك اون لاين). طالما هو لم يكن واع بالأفعال التي كان يؤديها، هو غير مسؤول عنها، ولكن اذا كان هناك شخص ما يؤذي عمدا عدة افراد ولاحقا ينسى ما قام به فلا يجب ان يُعتبر بريئا.
بقدر ما يتعلق الامر بالهوية، نحن نستطيع رؤية ان هناك أجزاءً من حياتنا لم نعد نتذكرها. فمثلا، معظمنا يتذكر القليل عن طفولتنا المبكرة. توماس ريد يعارض هذا العنصر من نظرية لوك في الهوية بمثال شهير. هناك فتى شاب جُلد لسرقته تفاحا، وبعد ان كبر أصبح مسؤولا ولاحقا أصبح جنرالا. المسؤول تذكّر كونه تعرّض للجلد، والجنرال يتذكر كونه مسؤولا، لكن الجنرال لايتذكر حين جُلد. طبقا للوك هذا يعني ان الجنرال ليس نفس الشخص حينما كان طفلا. ريد يجادل بانه رغم ان استمرارية الذاكرة ليست متجاوزة، لكن الهوية العددية هي كذلك (ريد، ص249). مشكلة ذات صلة هي انني قد لا امتلك ابدا اي ذاكرة للزمن عندما اكون غير واع. هذا يعني لست انا الذي كان نائما في السرير اثناء الليل وانما هو شخص آخر.
هذه القضايا يمكن معالجتها عبر التمييز بين فكرة الارتباط السايكولوجي والاستمرارية السايكولوجية. الشخص س مرتبط سايكولوجيا بالشخص ص اذا كانت حالته السايكولوجية نفس تلك التي لدى الشخص س. من جهة اخرى، الشخص س هو مستمر سايكولوجيا مع الشخص ص لو كانت حالته الذهنية مرتبطة بتلك الحالة لدى الشخص ص عبر سلسلة متداخلة من الارتباط. في هذه الطريقة، بينما الجنرال لم يعد مرتبط سايكولوجيا بنفسه كولد شاب، لكنه لايزال مستمرا سايكولوجيا معه.
المشكلة الهامة في نظرية لوك هي امكانية ان تكون ذاكرة المرء مشوهة بمرور الزمن او انها زائفة كليا. الذاكرة شديدة الهشاشة ويسهل توجيهها بالاقتراحات من آخرين. مثلا، ديفد بايورك وجد بالإمكان ان يستغل الباحثون عقيدة الشخص حول الأحداث عبر تقديم اسباب لعدم دقة ذاكرته (بجوركلد، ص53).
يوضح لوك انه في حالة ان يعاني شخص ما بشكل زائف من ذنب لجريمة ارتكبها شخص آخر، فعندما نذهب الى الحساب، فان الله سيضمن ان الذاكرة الوحيدة التي نمتلكها والتي تكون مسؤولة هي ذاكرتنا(لوك، 473). ولكن لكي يقرر الله أي الذاكرة تعود لنا هو يجب ان يكون قادرا على ان يقرر منْ نحن. لوك غير قادر على توضيح كيف يختلف معيار الله في الهوية ويكون اكثر فاعلية من معياره هو.
الاستمرارية السايكولوجية
سوف نصف هنا الموقف من الهوية الشخصية بمرور الزمن. سنصف حدود التغيرات السايكولوجية المقبولة ونناقش أي العناصر النفسية ضرورية لبقائنا.
معيار الاستمرارية السايكولوجية
يقترح سدني شومكر نظرية الاستمرارية السايكولوجية كتحسن في استمرارية الذاكرة(شومكر، ص43). مع ان فقدان الذاكرة بالتأكيد يشكل خسارة كبيرة، لكن رغم ذلك يمكن للناس الاحتفاظ بنفس الحياة السايكولوجية. ولكن ماذا نعني عندما نتحدث عن الحياة السايكولوجية؟ هذا يشمل اكثر من مجرد ذاكرة، يتضمن العقائد، العواطف، الميول. من الواضح ان ذهنيتنا تتغير كثيرا اثناء دورة الحياة. هذه النظرية تسمح بتحول مشابه كما في معيار لوك في الذاكرة. مع اني لم اعد مرتبط سايكولوجيا بذاتي عندما كنت شابا، لكني بالتأكيد لاازال مستمر سايكولوجيا معها. هذا يكفي للادّعاء اني لم افقد هويتي الشخصية.
تحسين معيار الذاكرة
ان اللجوء الى علم النفس بشكل عام بدلا من مجرد الذاكرة سيجعلنا قادرين على تجنب المشاكل المتعلقة بفقدان الناس للذاكرة ومن ثم فقدان الهوية. الناس الذين يعانون من فقدان الذاكرة يجسدون دائما نفس الطريقة من التفكير كما كانوا قبل الحادث، وهو ما يبيّن استمرارية الذات التي تتجاوز مجرد الذكريات. اذاً ماذا يحدث عندما يباشر احد ما تغييرا سايكولوجيا كاملا؟ هذا نادر جدا لأنه حتى عندما تتغير كامل الشخصية، فان ذكرياتها تبقى عادة.
فمثلا، لو ان احد ما عاش حياة من الإثم المروع فهو قد يمارس تحولا دينيا ويغيّر كل مظاهر حياته برغبة تامة. وبينما يُعد هذا تغييرا جذريا، لكنه سوف يبقى يمتلك ذكريات عن حياته السابقة والتي توفر ربطا كافيا لضمان استمرارية هويته. اذا لم تكن لديه ذكريات عن الماضي نحن بديهيا سنوافق على ان هناك استمرارية غير كافية بين ذاته الآن وذاته لاحقا لكي يمكن لنا اعتباره نفس الشخص.
اضف تعليق