الذاكرة في حال أقرارنا أنها مستودع تخزين التجارب الادراكية الواقعية المستمدة من العالم الخارجي، واذا ما علمنا أن الذاكرة لا تستطيع استذكار الماضي تماما بسبب النسيان الذي تمتاز به ويلازمها. لذا يكون التساؤل من أين تستمد الذاكرة افكار الخيال وكيف تكون هي مصدر الخيالات في وقت هي تتوجه نحو ماض قائم بوقائعه التاريخية...
تقديم
أن المعضلة التي يطرحها تشابك الذاكرة والخيال قديمة قدم الفلسفة الغربية، منذ ما يقرب من 470-399 ق. م أورث سقراط الفلسفة اليونانية اشكالية علاقة الذاكرة بالخيال في تيارين فلسفيين أحدهما تزعمه افلاطون الذي كان يدافع عن ادخال اشكالية الذاكرة في اشكالية الخيال، والمسار الثاني تزعمه ارسطو الذي يرتكز على ثيمة تمثل شيئا سبق ادراكه أو اكتسابه وتعلمه فيدافع عن أدخال اشكالية الصورة في اشكالية الذكرى، وعلى هذا المنوال لم يتوقف النقاش الفلسفي حول هذه الازدواجية الاشكالية بالفلسفة الى يومنا هذا.
وهنا أود التنبيه أن المناقشة الفلسفية حول تشابك الذاكرة بالخيال، تنطلق من أنهما مفهومان لهما علاقة ترابطية في عملية الادراك باعتبارهما وحدة زمانية تختلف في التعبير عن الزمان كتحقيب زماني - تاريخي في اتجاهين متعاكسين أن الذاكرة هي أستذكار لوقائع واحداث الماضي، والخيال تصنيع لزمان مستقبلي آتي يتبلور كصيرورة كما تصوّره المخّيلة، ولا تشير المناقشات الفلسفية الى أهمية التاكيد أنهما جوهران متعالقان في التعبير التجريدي عن الاشياء مصدرهما تفكير العقل، الذي أجده يحل المشكلة من أساسها، لاننا من دون مرجعية العقل لا يمكننا الحديث عن عمل ذاكرة ولا عن عمل خيال لا في ترابطهما ولا في فصلهما عن بعضهما. الشيء الملفت للانتباه هو معاملة الفلاسفة الذاكرة والخيال موضوعين متداخلين مترابطين بعلم النفس والادراك الحسي، بعيدا عن كونهما تجريدان ناتجان عن منظومة العقل الادراكية يعرفان بدلالة الوظيفة التعبيرية المتداخلة بينهما.
بين الذاكرة والخيال
على خلاف من ديكارت وبرجسون ومعهما فلاسفة آخرين من الذين أنكروا وجود علاقة ترابطية بين الذاكرة والخيال وأنكروا ايضا توليدية الذاكرة لافكار الخيال وارتباط المخيّلة بالذاكرة. في مقاربة هذه الاشكالية الفلسفية يطرح بول ريكور تلازم الذاكرة والخيال بعلاقة ممكن الفصل بينهما بالقصدية التي تتلبس الوعي في الفهم الوجودي وفلسفة اللغة. فهو يؤكد حقيقة غير مشكوك بها فلسفيا على الاقل قوله" الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال، الذي كان قد عومل ومنذ زمان بعيد بكثير من الشبهة كما هو الحال عند ميشال مونتين وباسكال واسبينوزا."
قبل دخولنا تفسير تفاصيل هذا الحكم الفلسفي لريكور الذي نستشف منه تغليبه قيادة الذاكرة في مسكها مقود الخيال والهيمنة عليه، لذا يصبح معنا التساؤل مشروعا أيهما يقود الاخر الذاكرة تقود الخيال أم العكس الخيال هو يقود الذاكرة في حالتي اقرارنا الانفصال أو الاتصال بينهما؟ أم لا علاقة تعسفية من هذا النوع التساؤلي يكون واردا في أعتمادنا حقيقة انفصالهما، وهذا يقودنا الى تساؤل أكثر أهمية ماهي مصادر أكتساب كلا من الذاكرة صفتها الادراكية، وكذا الحال كيف يكتسب الخيال معنى أفكاره التخيلية وما هو مصدر تلك الافكار غير الذاكرة في حال جعلنا من انفصال مفهومي الذاكرة والخيال عن بعضهما حقيقة قائمة لا بل موجبة كما سنرى في تعبير ريكور لاحقا.
والعقبة التي يتجاهلها الفلاسفة أن كلا المفهومين الذاكرة الاستذكار والمخيلة في تعبيرها عن الخيال كلاهما جوهران تجريديان لا يمكننا معرفة أين موقعهما من تكوين الجسم في التبعية البايولوجية لمنظومة الادراك العقلي، حتى في حال العودة أنهما نتاج عمل منطقة محددة في قشرة الدماغ أو في الفص الدماغي المّخي المسؤول عن توليد مثل تلك الفعاليتين التجريديتين الذاكرة والخيال التي هي من أختصاص علمي صرف في دراسة علم وظائف الاعضاء والجملة العصبية.
والسؤال المربك فلسفيا اذا كانتا الذاكرة والخيال كلاهما تعبيران مجردان يصدران عن ملكة العقل الادراكية فكيف تم الربط بين أعتماد الذاكرة خزين توليدها أفكار الخيال؟ يطرح بول ريكور وجوب وأهمية فصل الذاكرة عن الخيال قائلا " علينا الوقوف ضد هذا التيار – يقصد تيار ديكارت باعتباره الذاكرة هامشا متعالقا بالخيال – الذي يحط من شأن الذاكرة ويعاملها على هامش نقده الخيال، أن نقوم بعملية فصل الخيال عن الذاكرة الى أبعد ما نستطيعه في هذه العملية " هذا ما اراده ريكور.
ويضيف ريكور أبعد مما ذهب له حول أهمية الانفصال بين الذاكرة عن الخيال بدقة متناهية الوضوح تعبيره " الفكرة الرئيسية هنا هي وجود أختلاف نستطيع أن نقول عنه أنه جوهري بين استهدافين، بين قصديتين أحداهما هي قصدية الخيال المتجهة نحو الوهمي، القصصي، غير الحقيقي وغير الواقعي، والممكن واليوتوبي، والاخرى هي قصدية الذاكرة المتجهة نحو الحقيقة السابقة، الواقع السابق، وتشكل السبقية السمة الزمنية بامتياز للشيء المتذكر بوصفه كذلك.، بهذا التعبير أعطى ريكور الذاكرة خاصية التعبير في استذكار حوادث الماضي ، وأعطى أفكار الخيال قابلية فتح بناء افاق المستقبل باعتباره وهما أحتماليا تحققه التنبؤي له.
أي جعلهما الذاكرة والخيال يرتبطان بزمنين أحدهما خاصية الذاكرة استذكار (الماضي)، والثاني الخيال خاصية تنبؤه (المستقبل)، فكيف جرى الربط التعسفي بينهما في الغاء عدم المجانسة الزمانية التحقيبية بينهما في تحاشي الانزلاق بوجود أكثر من زمان واحد من ناحية الماهية وليس من ناحية التحقيب للزمان كتاريخ أرضي.
تعقيب وتساؤلات:
- يأخذ بول ريكور توجه ديكارت قوله " لاشيء يأتي لمساعدة الذاكرة بوصفها وظيفة نوعية لبلوغ الماضي " طبعا هنا ديكارت لا يعير أدنى أهتمام للخيال بأعتباره تصنيع أيهامي للميتافيزيقا، وعلى أعتبار الخيال رغم طابعه اليوتوبي الميتافيزيقي، الا أنه توجه معاكس لما تضطلع به الذاكرة باتجاهها قصديا نحو أستذكار وقائع الماضي، في حين الخيال استشراف قصدي مستقبلي مناقض لتوجه الذاكرة يتجه قصديا لخلق عوالم مستقبلية.
كما لا يتطرق ديكارت حتى بالاشارة الى تعالق كلا من الذاكرة والخيال بالعقل البيولوجي كنواتج عن فعالية فسلجية تتم داخل دماغ الانسان عضويا وليس خارجه. جميع حلقات الادراك العقلي هي تجريدات متصلة مع بعضها ولا قيمة حقيقية لوجود أحداها منفصلة. وحلقات العقل الادراكية من التجريدات وغير التجريدات تبدأ باحساسات الحواس، فالجهاز العصبي الناقل لها، الذهن، الوعي، الادراك، الفكر، اللغة، الذاكرة، المخيلة أو الخيال، وغيرها من متصلات معها جميعها تخضع لتصنيع عقلي في الدماغ والمخ تحديدا. وهي تجريدات معرفية لغوية مسؤول عنها وتطلقها مناطق عصبية ترتبط بأجزاء محددة موجودة في قشرة الدماغ أو في تركيبة تكوين المخ.
- كيف تم جمع النقيضين الذاكرة والخيال من خلال قصدية زمنية متعاكسة،؟ الذاكرة تنشد الماضي والخيال ينشد تحقق المستقبلي، بضوء هذا التضاد المتعاكس غير المتجانس يصبح ما طرحه بول ريكور حول ضرورة الفصل بين الذاكرة والخيال أكثر من ضرورية في حال أمكانية برهنة ثبوت تحقق هذا التوجه على صعيد البيولوجيا العضوية عند الانسان وليس على وفق منطق الفلسفة التجريدي.. فكما أن الاعتراف بربط الذاكرة بالخيال عمل أعتباطي بمنهج الفلسفة وليس بحقائق العلم، كذلك طرح الانفصال بينهما هو الاخر عمل أعتباطي بالفلسفة وليس العلم.
كون الذاكرة والخيال أصبحا مفهومين مجردين يعبران عن اشياء يدركها العقل ولا يعرف الانسان كيف نشأت ومن هو المسؤول عنها، وعندما نقول ذاكرة فهي دلالة لفظية نتاج عمل خلايا عصبية موجودة ومرتبطة بالدماغ مسؤولة عنها، وتصبح تجريدا للعقل وليس موضوعا يدركه العقل، كذلك الخيال فهو أيضا دلالة لمفهوم مجرد ترجع مسؤولية أصداره منطقة في قشرة الدماغ أو في جزء من الفص المخي الموّلد له. ويبقى الخيال تجريدا استبطانيا ما لم يتحول الى أفكار تعبيرية تصدرها اللغة.
- الذاكرة في حال أقرارنا أنها مستودع تخزين التجارب الادراكية الواقعية المستمدة من العالم الخارجي، واذا ما علمنا أن الذاكرة لا تستطيع استذكار الماضي تماما بسبب النسيان الذي تمتاز به ويلازمها. لذا يكون التساؤل من أين تستمد الذاكرة افكار الخيال وكيف تكون هي مصدر الخيالات في وقت هي تتوجه نحو ماض قائم بوقائعه التاريخية، في تعارضها المتعاكس مع توجه الخيال الى صناعة مستقبل قيد الصيرورة الزمانية التي يسودها التنبؤ والوهم في التعبير عن وجود غير موجود انطولوجيا بعد، وليس أجترار ماض منقوص يعتريه ويشوبه النسيان. وكيف نفهم تعبير ريكور الذاكرة منطقة هيمنة الخيال؟. لا يوجد قدرة يمتلكها الخيال في السيطرة على ذاكرة لا تجانسه الوظيفة التعبيرية عن المدركات والاشياء.
- اذا ما ذهبنا مع أمكانية انفصال الخيال عن الذاكرة فمن هو الذي يضطلع بتزويد الانسان بخيالات مستقبلية لا حصر لها. الخيال الذي هو لا يمكن معاملته على أنه تخزين تجارب خبرة متراكمة بالذاكرة، فمن يكون المسؤول عن منبع تزويد الانسان بالمخيلة وابتداع موضوعاته الخيالية.؟
جان بول سارتر 1905 - 1980" طرح في كتابيه الخيال ، والمتخيل أهمية الاهتمام في تمايز الذاكرة عن الخيال يجب أن يقترن بمراجعة موازية لموضوعات المتخيل" ص 39، هنا سارتر لا يريد تاكيد انفصال الذاكرة عن الخيال لانهما في حقيقتهما البيولوجية الوهمية والتجريدية جوهران منفصلان، ويمكن دراسة كل منهما منفصلا عن الاخر.
- ربما يكون أقصر الطرق في الاجابة التي على تحييد التفكير العقلي العلمي تداخله بالاشكالية الفلسفية بين الذاكرة والخيال، أن الدماغ هو مصدرتوليد افكار الخيال، ولكن بأية وسيلة ارتبطت الذاكرة بأنها مصدر الخيالات والمخيّلة وهي تجريد تفكيري وليست موضوعا مدركا بذاته؟. هل يمكننا العيش بدون أفكار خيالية في حال يتعذر علينا معرفة مصدر توليد المخيلة لموضوعات الخيال عند الانسان وأين يكون موضعها في المسؤولية الابتداعية التخليقية لها واصدارها افكارها الخيالية نحو الواقع الخارجي في حال جرى تمرير توجه ريكور ومن قبله برجسون لا توجد علاقة حقيقية تربط الذاكرة بالخيال ويتوجب الفصل بينهما.
المسألة الطريفة أن الفصل الذي يبتغيه الفلاسفة بين الذاكرة والخيال هو فصل لجوهرين منفصلين اساسا ولا علاقة ترابطية بينهما سوى في تعبيرات الفلاسفة التي يدحضها التفكير العلمي التخصصي بعلم فسلجة الاعضاء. فالذاكرة والخيال والوعي والذهن هي حلقات تجريدية في منظومة العقل الادراكية التي مركزها الدماغ. ولا تعني شيئا خارج هذا الاطار المعرفي العلمي في الفهم السببي بين تعالق الدماغ بالادراك العقلي للاشياء..
- اذا نحن سلمنا بأن مصدر تخليق الخيالات هو الدماغ فعن أي حلقة في منظومة الادراك نستطيع القاء مسؤولية الحفاظ على الخيالات بعد انفصال الذاكرة عنها وتمت تبرئتها الانفصالية عن الخيال؟ أن المأزق الحقيقي في انفصال الذاكرة عن الخيال ينتج عنهما أنهما كليهما تجريدان تابعان لمنظومة الادراك العقلية. فكيف يكون تشكيل الذاكرة كمنطقة تجريد ادراكي ترتبط بالدماغ،؟ وكيف يكون مصير مخيلة توليد افكار الخيال التي هي تجريد ايضا يرتبط بكل من الذاكرة والدماغ في تفكير العقل ؟.
- لمصادرة أشكالية تعالق الذاكرة بالخيال في وجوب الفصل بينهما يطرح اسبينوزا تعريفا فحواه تضييع الاشكالية التناقضية بين الذاكرة والخيال باعادتهما الى مرجعية وحدتهما الزمانية وأعتباره الزمان هو ديمومة أستمرارية الوجود، وليس للذاكرة تداخل وصلة مع أدراك هذا الزمان.5 مقولة أسبينوزا هذه مأخوذة عن ارسطو قوله " الذاكرة هي من الزمان "، واذا أردنا تمرير هذه المقولة الارسطية الصحيحة يتوجب علينا التوضيح، فزمانية الذاكرة تنحصر في مهمة قصدية تنشدها الذاكرة نحو تذكر حقائق واقعية تاريخية سابقة يحتويها الزمن الماضي كزمن تحقيبي لا يدركه العقل كموضوع غائب الحضور بل يدركه بدلالة محتواه في تاريخية احداثه ووقائعه. والخاصية الزمانية في الذاكرة هي زمانية مكتسبة بالادراك وليست خاصية ذاتية تمتاز بها الذاكرة. ولا توجد في هذه الميزة أدنى ارتباط بين الذاكرة والمخيلة رغم أن كليهما تجريد زماني.
- كيف يتوافق هذا التعبير مع ما ذهب له ريكور أعتباره الذاكرة هي خاصية أستيعابية لتذكر تجارب الماضي وعدم طيّها في غياهب النسيان. علما أن ريكور لم يبد تحفظا من أي نوع تجاه طرح سبينوزا أن الزمن سيرورة وجودية بل أعجب واشاد بها. اذا سمحنا لانفسنا نقد هذه العبارة لسبينوزا، فأن ديمومة واستمرارية الوجود هو علة ادراكنا الزمن غير صحيحة، بأعتبار الزمن لا يتخلق عنه سيرورة الوجود، بل الزمن هو سيرورة أدراكنا الوجود زمنيا بحركة موجودات الوجود داخله ليس في علّة ارتباط حركة الموجودات الذاتية بالزمن، بل ندرك الزمن بحركة الاجسام داخل الوجود. الزمن يساعدنا أدراك الوجود المادي في حالتي السيرورة والثبات الحركي النسبي. لكنه أي الزمن عاجز أن يكون علة وجود موجود مادي متحرك. الزمن لا يمتلك قابلية تحريك موجودات الوجود اذا صح التعبير. فالموجودات سيرورة انطولوجية لا تستطيع الخلاص من قبضة الزمن بالادراك العقلي لها . لذا تكون علاقة الزمن بسيرورة الوجود علاقة ادراكية فقط وليس علاقة سببية لا في حركتها ولا في وجودها الفيزيائي مطلقا.
- بضوء عبارتي ارسطو ومن بعده سبينوزا بأن الذاكرة خاصية زمنية تحتويها القصدية التاريخية للماضي، والخيال قصدية زمنية يحتويها المستقبل، فكلا التعبيرين كما وسبق ذكرناه هو توصيف لفعالية زمنية وليست تعبير عن حقيقة موضوعية منفصلة عن توليد العقل لها. فكما ترتبط الذاكرة بتفكير الدماغ كذلك ترتبط المخيلة بتفكير الدماغ أيضا ، ولا وجود تعبيري لادراكهما كتجريد خارج منظومة العقل الادراكية. كل حلقة تجريد ادراكي للعقل لا قيمة لها بانفصالها ولا تمتلك وجودا انطولوجيا مدركا اكثر من حقيقتها انها تجريد ادراكي مصدره العقل.
ما بعد الانفصال
في حال أقرارنا صحة أنفصال الذاكرة عن الخيال فلسفيا ، وأن مصدر خيالاتنا الابداعية في تذكر وقائع الماضي، وخيالاتنا في تصنيعها المستقبلي، يصبح كلاهما الذاكرة والخيال تجريد ادراكي ليس للزمن وحسب، بل كلاهما جوهران منفصلان بالتجريد متزامنان في تبعيتهما الادراكية للدماغ داخل ترابط منظومة العقل الادراكية. بهذا المعنى المفهومي الصحيح نصطدم بحقيقة واقعية هي لا وجود لذاكرة خاصيتها الماضي ولا لخيالات خاصيتها المستقبل بمعزل عن تفكير العقل المرتبط بهما، كون خاصية الذاكرة الماضوي ليس وجودا عضويا بيولوجيا لها. وكذا نفس الحال مع الخيال أو المخيلة التي لا نستطيع تحديد موجوديتها أكثر من أنها تجريد تفكيري يبتدعه ويخلقه الدماغ، الحقيقة التي نتجاهلها أحيانا أن جميع تكوينات انشطة الانسان الموزعة بين الاحساسات الخارجية والاحاسيس الداخلية هي تجريدات تفكيرية صادرة عن دماغ الانسان ولا وجود حقيقي يمثلها كمواضيع ادراكية قائمة بذاتها سوى ردود الافعال الناتجة عنها المنقولة عن تفكير الدماغ بوسيلة منظومة الجهاز العصبي. فكل ادراكات الانسان الواقعية والخيالية هي تجريد تعبيري صادر عن مناطق معينة بتركيبة الدماغ الانساني.
اللغة في اشكالية الذاكرة والخيال؟
ادراك الذاكرة ليس مصدر أنبعاثه الخيال بل مصدر توليده هو تفكير العقل، وميزة ادراك الذاكرة هو أستذكار صوري مرهون في تمثيل لوقائع الماضي بوسيلة تعبير (اللغة). فاستذكار الذاكرة لوقائع الماضي لا يختلف عن ادراك الحواس لموجودات الحاضر الحسية في وجودها المادي الانطولوجي. فكلا التعبيرين هو تمثيل صوري يتوسل اللغة في التعبير عن تمثله الموجودات في العالم الخارجي. الذاكرة تستذكر وقائعها باللغة التجريدية التصورية التي ترافقها خاصية النسيان الملازمة للذاكرة في تصوراتها اللغوية تعبيرها عن أحداث ووقائع الماضي.
عبارة ديكارت: الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال الذي كان عومل عصورا طويلة بالشبهة، عبارة تناقض نفسها في:
الخيال لايقوم ولا ينوب عن الذاكرة ولا يمثلها من حيث التعبير، لا من حيث الاختلاف الزماني ولا من حيث محتواه التعبيري عن نفسه، فالخيال تصورات ذهنية تتجه نحو المعالجة الحاضرة والمستقبلية، ولا يهتم الخيال بوقائع الماضي الا في أغناء تعبيرات الخيال الفكرية. واذا ما أضطلع الخيال بمهمة أستيعاب بعض الدلالة الواقعية الماضية التي تغني أفكار المخيلة، ومع هذا يبقى الخيال لا تشكل وقائع الماضي أهتماما له في التعبير عنها كوقائع تاريخية حدثت، لا يمكن ولا المستطاع التلاعب بها من حيث هي تاريخ انتهى حدوثه واكتسب زمنه الماضي.
الخيال في حال تحرره من الذاكرة يعجز التعبير عن الماضي بكيفية تطابق تعبير الذاكرة عن الماضي، من حيث الخيال سيرورة حركية في فضاء غير محدود بخلاف الذاكرة التي تكون محبوسة في وقائع حدثت تحاول نقلها كما جرت. الخيال في حال هضمه الاستيعابي لاجتزاءات من وقائع واحداث الزمن الماضي أنما يكون بذلك يقوم بوظيفة الذاكرة الواقعي وليس وظيفة الخيال الوهمي. حين يصبح الخيال استذكارا لوقائع ماضية وليس اسشرافا لسيرورة مستقبل لا يحتويه الماضي ولا يتوفر عليه الحاضر بل يبقى نزوع مستقبلي يعبر عنه الخيال ولا علاقة للذاكرة به.
الاستذكار للماضي هو وظيفة الذاكرة
هنالك رأي يحمّل اسبينوزا مسؤولية التعبيرعنه " أن الذاكرة في حالة أختزالها الى استذكار فهي بالتالي تعمل في سياق الخيال " هذا التعبير الاعتسافي لا يقوم على منطق فلسفي يمرر مقبوليته، فالذاكرة في حقيقتها الوظيفية هي تعبير صوري لاستذكارات ماضية جرت. ولا توجد هناك خصيصة دلالية تشير الى تحميل الذاكرة ما لا تقدر عليه مثل تخليقها الافكار الخيالية بدلا من وظيفة ملكة الخيال عند الانسان التي هي ملكة توليد تفكيري هو من أحدى خصائص الدماغ.
الذاكرة بمقارنة خاصيتها الاستذكارية المحدودة في التعبير التصوري عن الماضي فقط ليس من أمكانيتها الوظيفية أن تكون جزءا من افكار الخيال. فالخيال يتسم بفضاء متحرر غير مقيد وله قابلية التلاعب بمدركاته الشعورية التي يستمدها من المحيط وحتى من وقائع الماضي، ومن اللاشعور الذي يقوم الخيال بتوسيله للتداعيات الفكرية والصورية في توليد استبطاني لا يكون تعبيرا دقيقا كما تفعل الذاكرة في التعبير عن وقائع حقيقية تاريخية لا تستطيع الخروج عنها. الخيال أضافة نقدية فكرية متجاوزة لزمانيتها في أغناء الحاضر تمهيدا لمستقبل افضل، الذاكرة عكس الخيال حلقة تعبيرية من الادراك المنغلق الذي لا تخرج محدوديته الزمانية عن الماضي فقط..
اضف تعليق