رغم الاتفاق العام على أهمية تنمية الإعلام في التقدم لكن الجماعة الدولية والحكومات، ووكالات التنمية، والمانحين عادة ما ينظرون لتنمية قطاع الاعلام المستقل كهدف ثانوي بدلا من مسألة ذات أهمية حاسمة. هذه المراجعة لعرض دليل يقترح ان نوعية الاعلام المستقل له تأثير ايجابي على المجتمع ومحصلة تنموية...
"حين يصبح كل جزء من البلاد واع بالأجزاء الاخرى، بشعبها، فنونها، العادات، والسياسات، وحين يُسمح للقادة الوطنيين بالتحدث للشعب، والشعب يتحدث للقادة، والقادة لبعضهم البعض، عبر إتاحة حوار على مستوى الامة في السياسة الوطنية، توضع فيه الاهداف والانجازات الوطنية دائما امام الشعب، يمكن ان يساعد ذلك في دمج الجماعات المنعزلة، والثقافات الفرعية المتباينة والجماعات والافراد المرتكزين على الذات وأشكال التنمية المنفصلة في تنمية وطنية حقيقية"(شرام ويلبر، مؤسس وأب دراسة الاتصالات).
في شهر 7 عام 2019 نشر صندوق استثمار تنمية وسائل الاعلام (MDIF) ورقة بحثية تتناول دور الميديا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سنعرض بالتفصيل أهم ما جاء في هذه الورقة.
مقدمة
في عام 1848، أعلن مؤتمر الامم المتحدة حول حرية المعلومات بأن الوصول الى المعلومات هو حرية اساسية – تعزز كل الاشكال الاخرى للحرية. بهذا المعنى، يمكن فهم الوصول الى المعلومات كغاية بذاته. لكن في استبيان أجرته اليونسكو عام 1962 وُجد ان اكثر من 70% من العالم يفتقر للوصول الى المعلومات الكافية. واستجابة لذلك، دعت الامم المتحدة كل الدول لتضمين ستراتيجية تنموية للميديا ضمن خططها للتنمية الاقتصادية. وبالاضافة الى تأمين هذا الحق الاساسي، جرى التأكيد ايضا بأن، "معلومات الميديا لها دور هام في التعليم وفي التقدم الاجتماعي والاقتصادي".
ومؤخرا، اعترفت الامم المتحدة بالدور المهم للإعلام المستقل في خلق حوكمة جيدة – وهو الشيء الذي يحتاجه المواطنون دائما في كل العالم. الناس يريدون "ان يُستمع لأصواتهم ويريدون مؤسسات شفافة ومتجاوبة وقديرة ومسؤولة".
في تعريف الأهمية المركزية التي تلعبها المعلومات في التنمية المستدامة، يسلط تقرير بانوس لعام 2007 الضوء على الكيفية التي تحفز بها المعلومات الناس لتقرير مسارات التنمية الخاصة بهم."التنمية من حيث الجوهر، اذا اريد لها ان تكون مستديمة يجب ان تكون عملية تسمح للناس ليكونوا وكلاء أنفسهم في التغيير لكي يتصرفوا انفراديا وجماعيا، مستخدمين براعتهم الخاصة في التعامل مع الافكار والممارسات والمعرفة اثناء البحث عن طرق لإنجاز طموحاتهم". الإعلام التعددي المستقل يلعب دورا رئيسيا في توفير المعلومات التي يحتاجها الناس ليشتركوا في النقاشات والقرارات التي تصوغ حياتهم.
ورغم الاتفاق العام على أهمية تنمية الإعلام في التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأوسع، لكن الجماعة الدولية والحكومات، ووكالات التنمية، والمانحين – عادة ما ينظرون لتنمية قطاع الاعلام المستقل كهدف ثانوي بدلا من مسألة ذات أهمية حاسمة. وبالنتيجة فان المانحين الدوليين يخصصون أقل من 1% من موازنة المساعدات الدولية للتنمية الاعلامية.
ان الهدف من هذه المراجعة الأدبية هي لعرض دليل يقترح ان نوعية الاعلام المستقل له تأثير ايجابي على المجتمع ويجب ان يُنظر اليه كمحصلة تنموية هامة بذاتها. المراجعة قُسمت الى ثلاثة اقسام تعالج ثلاثة مجالات وحيث يكون للميديا تأثيرا ايجابيا على المجتمعات:
التأثير على الحكومة
الفساد له تأثير سلبي على المجتمع، خاصة في تعميق الفقر واللامساواة في الدخل. عدد هائل من الدراسات تبيّن ارتباطا قويا بين الصحافة القوية الحرة المستقلة وقلة الفساد. الصحافة الحرة تكشف فساد القطاع العام والخاص. انها تراقب مسؤولي الحكومة وتوسّع معرفة الناخب حيث تسمح للناخبين بجعل السياسيين الفاسدين عرضة للمسائلة اثناء الانتخابات، بما يدفع السياسيين لتقليل الفساد.
التأثير الاقتصادي
يحتاج اللاعبون الاقتصاديون الى معلومات دقيقة وملائمة لتخصيص الموارد بفاعلية. المستثمرون وجماعات اخرى ومن خلال الميديا يزيدون من قيمة الرقابة على الحوكمة. الصحافة الحرة والمستقلة توفر المعلومات والمراقبة لعملية التنمية الاقتصادية بما يقود الى سياسات اقتصادية اكثر فاعلية. انها ايضا تقلل المخاطرة السياسية وتزيد الحوكمة الجيدة – وهي ظروف هامة لتنمية اقتصادية قوية.
تأثير اجتماعي
لكي تكون التنمية عادلة ومستدامة، يجب على المواطنين المشاركة المنتجة في القرارات التي تطبع حياتهم. المشاركة تتطلب وجود مواطنين ذوي اطلاع. الميديا الحرة والمستقلة تجهز معلومات ملائمة للمواطنين بما يسمح لهم تغيير سلوكهم الشخصي والسعي نحو مستويات اجتماعية أعلى للمجتمع.
1- الميديا تحسّن الحوكمة عبر مراقبة أفعال اولئك الذين في السلطة وتحذر الجمهور من الفساد وإساءة استخدام الثقة.
قطاع الاعلام القوي والمستقل يقود الى أقل مستوى من الفساد
الفساد يعمل كضريبة على الفعاليات المنتجة في الاقتصاد، حيث يؤدي الى تدفق الموارد للفعاليات غير المنتجة. الاعلام المستقل الذي يراقب اولئك الذين في السلطة ويسلم معلومات دقيقة للمواطنين اثبت انه مراقب فعال للفساد من خلال العديد من الدراسات.
دراسة شملت عدة دول اجريت عام 2006 ضمت 51 بلدا للفترة من 1995-2004 وجدت انه حتى انخفاض بسيط في القيود على الصحفيين (مثل تقليل العنف ضد الصحفيين) له تأثير ايجابي على الفساد. الدراسة وجدت ان تحسين الجدوى الاقتصادية والتنافسية لقطاع الميديا يؤدي الى زيادة بمقدار انحراف معياري واحد في حرية الصحافة وهو "سيكون مترافقا بهبوط في الفساد بين 0.6 الى 1.7 للتأثيرات الاقتصادية و 0.7 الى 1.4 للتأثيرات السياسية".
وفي دراسة اجريت عام 2004 من 97 دولة وتغطي فترة من 1995-2002 وجدت ان حرية الصحافة لها تأثير هام على الفساد. الدراسة وجدت ان تقليل القيود على حرية الصحافة بـ 1% يقود الى 5.1% تحسن في مؤشر الفساد(cpi). "وجود صحافة حرة سيكشف حالات الفساد امام الناخبين بينما الناخبون في الانظمة الديمقراطية بدورهم يعاقبون السياسيين الفاسدين بطردهم من السلطة. وعليه، فان السياسيين المنتخبين يكون رد فعلهم تجاه الناخبين هو تقليل الفساد".
وفي ورقة عُرفت على نطاق واسع عام 2003 في مجلة الاقتصاد العام توفر دليلا آخرا بان الصحافة الحرة هي قوة فعالة للسيطرة على الفساد. تحليل المقطع العرضي لـ 125 دولة من 1994 الى 1998 وجد فيها المؤلفون علاقة قوية بين حرية الصحافة وقلة الفساد، وتقترح الورقة بان اتجاه السببية يسير من أعلى حرية صحافة الى أقل فساد. الدليل يشير الى ان تحسّن بمقدار 1 انحراف معياري في حرية الصحافة قد يقلل الفساد بين 4 و 9 نقاط على مقياس من صفر الى 6.
الميديا يمكنها ايضا ان تقلل الفساد بشكل غير مباشر. دراسة في عام 2000 وجدت انه في الدول ذات القدرات الضعيفة في الرقابة المدنية (بما فيها ميديا قوية ومستقلة) لن يكون للمستويات العالية من التعليم اي تأثير ايجابي متوقع على الفساد (بيروقراطيون ذوي تعليم أفضل يجب ان يوفروا خدمات عامة أفضل). السياسيون بدون رقابة، ربما يستعملون التعليم ليصبحوا فاسدين بفاعلية أكبر. الدراسة تختبر تأثير التعليم العالي على الفساد، بينما تتحكم بشكل متدرج بعوامل اخرى جرى تشخيصها في التأثير على الفساد (مثل حرية الصحافة). "النتائج تدعم فرضيات الدراسة بأنه "في الدول ذات المستوى المنخفض من الرقابة المدنية على اصحاب السلطة، ربما يؤدي التعليم الى زيادة الفساد".
الوصول الى المعلومات يساعد المواطنين في وضع حكوماتهم امام المسائلة
عبر توفير وصول سهل للمعلومات لمستعملي الخدمات العامة، فان الميديا تمكّن المواطنين من المطالبة بالجودة والمساءلة من حكوماتهم. دراسة في عام 2004 للبنك الدولي اختبرت حملة الصحف الاوغندية لإبلاغ المعلمين حول منح التعليم المالية وتأثير الحملة على تحسين نظام التعليم عبر تقليل هيمنة واستئثار الوكالات الخاصة. الفرضية كانت ان معلمين اكثر اطلاعا سيجعل المسؤولين عرضة للمساءلة عن الاستخدام الصحيح للأموال.
وفي ورقة نُشرت عام 2004 للباحث ديفد سترومبيرغ وجدت ان المواطنين الافضل اطلاعا هم الاكثر امكانية في التصويت، وهو بدوره يشجع السياسيين ليكونوا أكثر استجابة. نتائج هذا البحث حول كيفية تأثير الراديو على برامج تخصيص الإعانات أشارت الى ان الحكام خصصوا الكثير من اموال الاغاثة للمناطق التي تمتلك فيها اكبر نسبة من السكان لأجهزة الراديو. التأثيرات كانت هامة احصائيا واقتصاديا. "تقديرات هذه الدراسة تتضمن انه لكل نقطة مئوية زيادة في نسبة أرباب المنازل المالكين للراديوات في مناطق معينة، تقابلها زيادة في المساعدات من قبل الحكام بمقدار بـ 0.6%لكل نسمة.
وبينما لايزال هناك نقاش حول الموضوع، لكن البحث الاخير أكّد على الدور الرائد للإعلام المستقل في عملية تحسين الحوكمة الديمقراطية. في تقييم بيانات امتدت لعشرات السنين عن الصحافة الحرة والتنمية السياسية، وجد كل من كارين كرليكار و لي بيكر ان وجود قطاع صحفي صحي هو مرتبط بقوة بحريات سياسية واسعة. وبنظرة قريبة على الدول التي شهدت زيادة حادة او نقصا في الحرية السياسية، فان الباحثين وجدوا ان الصحافة الحرة تُعتبر عادة كمؤشر رائد لإتجاه النظام السياسي للبلد.
الاعلام التعددي يحسّن استجابة الحكومة بإعطاء صوت للضعفاء
هناك ارتباط قوي بين التنمية الاعلامية واستجابة الحكومات، خاصة بالنسبة للفقراء الذين لديهم قوة عددية في ظل الديمقراطية لكنهم عادة يتم تجاهلهم من قبل السياسيين. قطاع الاعلام الذي يصل ويعطي صوتا للشرائح الضعيفة يمكنه ان يخلق مواطنين مطّلعين يستطيعون ان يراقبوا بشكل أفضل أفعال السياسيين المسؤولين ويستخدمون هذه المعلومات في قراراتهم الانتخابية. وفي دراسة عام 2002 قام بها تيموثي بيسلي و روبن بيرجس اختبرت بيانات من الهند للفترة من 1958 الى 1992 بيّنت "ان الحكومات كانت اكثر استجابة للهبوط الحاصل في انتاج الطعام والضرر الحاصل في غلات الغذاء من خلال توزيع الطعام العام و انفاق برامج الاغاثة حيثما كان تداول الصحافة عاليا ومسؤولية الناخبين اكبر.
في الدراسة، وُجد ان انخفاضا بمقدار 10% بانتاج الطعام كان مترافقا مع زيادة بنسبة 1% في توزيع الطعام العام في الولايات التي هي في المنتصف من حيث تداول الصحافة لكل فرد. اما في الولايات التي هي في الـ %75 بالنسبة لتداول الصحافة لكل فرد، وجدت الدراسة ان 10% انخفاض في انتاج الطعام كان مترافقا مع زيادة بنسبة 2.28% في توزيع الطعام العام". ربما افضل تعبير عن هذه العلاقة يأتي من امارتيا سين في محاضرته عام 1981 المنشورة عام 1984: "الهند لم تحصل بها مجاعة منذ الاستقلال، وفي ضوء السياسة الهندية والمجتمع، فمن غير المحتمل ان تواجه الهند مجاعة حتى في سنوات الندرة الحادة للطعام. الحكومة لا تستطيع تحمل الفشل وستخذ اجراءات فورية عندما يحصل تهديد بمجاعة كبيرة. الصحف تلعب دورا هاما في هذا الميدان، في كشف الحقائق وإجبار الآخرين على مواجهة التحدي.
2- الإعلام يحسّن فاعلية الاقتصاد عبر تزويد اللاعبين بمعلومات اكثر وافضل يستطيعون بها اتخاذ القرارات وتعزيز الاستقرار.
الاعلام يعزز التنسيق السياسي في تطوير سياسة اقتصادية سليمة
في ورقة نُشرت عام 2002 لكريستوفر كوين و بيتر ليسون توضح دور الاعلام في التنمية الاقتصادية عبر تحليل دور الميديا كآلية لتعزيز التنسيق في تطوير السياسة. التقرير ينظر في عدد من حالات دراسية تاريخية، بما فيها امثلة ناجحة للتنمية الاقتصادية مثل بولندا وهنغاريا، وامثلة اقل نجاحا مثل اوكرانيا. في الحالات الناجحة في بولندا وهنغاريا "لم يكن فيها فقط اعلام لعب دورا في تحويل مواقف الصراع الى تنسيق وانما ايضا وفرة المعلومات سمحت للسياسين وللشعب للتنسيق في تكوين آراء جيدة تقود الى تقدم اقتصادي".
تنمية قطاع الاعلام يقلل المخاطرة السياسية ويزيد الاستقرار للدول عالية الخطورة
الدول التي فيها مخاطرة سياسية عالية يمكنها ان تحصل على الاستقرار عبر زيادة فاعلية قطاعها الاعلامي. هذه هي استنتاجات الدراسة الاقتصادية لعام 2011 عن تأثير قطاع الاعلام الصحي على ظروف المخاطرة السياسية لدول الصحراء الافريقية. "تحليلات الانحدار الكمي تقترح ان الاعلام الحر وتدفق كبير للمعلومات له تأثير كبير على تحسين المخاطرة السياسية للدول عالية المخاطرة قياسا بالدول الاكثر استقرارا".
3- الاعلام يحفز التغيرات الايجابية في المجتمع عبر تزويد المعلومات التي تؤثر في الرأي العام.
الاعلام يقود الى زيادة في الوعي وتغيرات في السلوك عبر القضايا الاجتماعية
دراسات هائلة في الاربعين سنة الاخيرة من كل العالم وفرت دليلا للدور التحفيزي للاعلام في تزويد المعلومات التي تؤثر في الرأي العام وتقود الى تغيير اجتماعي. التأثيرات يمكن رؤيتها عبر القضايا الاجتماعية مثل الصحة العامة. (بما في ذلك الصحة النسوية وسلوك الطفل والمثلية الجنسية والتغيرات المناخية). ان التنفيذ الجيد للحملات الاعلامية التي تصل الى الجمهور عبر الوسيط الذي ينال اهتمامهم، يقود الى زيادة المعرفة وتغيير في السلوك.
الوصول الى المعلومات يرتبط بأقل تأثير على البيئة
المشاركة العالية (مستويات الأبجدية، الوصول الى المعلومات، والمساواة) تقلل مستوى الضرر البيئي الذي يرغب البلد بقبوله خلال عملية النمو. هذا هو الاستنتاج الرئيسي لدراسة اجريت عام 2002 من قبل سلفاتور بمونت الذي اختبر بيانات مقطعية من 35 دولة اوربية ودول اخرى من رابطة الدول المستقلة بما فيها اوكرانيا وروسيا وبلغاريا وهنغاريا وسلوفانيا وكرواتيا ومقدونيا. الدراسة وجدت ان امكانية الوصول الى المعلومات (مثل عدد الصحف لكل 1000 شخص) هي مؤثرة في البيئة. الورقة تؤكد ان الطريقة الوحيدة لتحقيق تنمية مستدامة هي بزيادة مستوى المشاركة. ولذلك، فان انجاز تنمية مستدامة يتطلب اشراك الناس بعملية النمو.
تلخيص
هذه المراجعة تعرض دليلا للاقتراح بان الاعلام المستقل يلعب دورا حاسما في تحسين الحوكمة وتقليل الفساد وزيادة الفاعلية الاقتصادية والاستقرار، وخلق تغيرات اجتماعية وبيئية ايجابيية. الاعلام يوفر معلومات للفاعلين في كل المجتمع بما يسمح لهم بالمشاركة في القرارات والنقاشات التي تصوغ حياتهم. الاعلام ايضا يلعب دورا رقابيا هاما في الديمقراطية التي تمكّن المواطنين من مسائلة حكوماتهم ومسؤوليهم المنتخبين بما يقود الى تنفيذ افضل للسياسات والخدمات. لهذه الاسباب وغيرها فان التنمية الاعلامية يجب النظر اليها كمحصلة تنموية مرغوبة تدعم كل المحصلات الاخرى.
اضف تعليق