الرَّأسمال الحقيقي هو الوجود الوطني، لأنَّه جَوهر عابر للأزمنة والأمكنة والمصالح الشخصية، أمَّا وجود المكاسب المادية فهو عَرَض مُؤقَّت زائل، والعَرَضُ لا يَدُوم زَمَانَيْن. وإذا كان انتماء الفرد إلى وطنه، سَيَربح نَفْسَه ووَطَنَه معًا، لأنَّ نَجَاة الكُل هي نَجاة للجُزء. وإذا كان انتماؤه لنَفْسه، سَيَخسر نَفْسَه ووَطَنَه...
(1)
فلسفةُ التفاعل الاجتماعي لا تعني بناء علاقات مصلحية عابرة بين الأفراد، وإنَّما تعني تأسيسَ كِيان إنساني في قلب المجتمع، يُوازن بين الجوهر (الثابت) والعَرَض (المُتغيِّر)، ويُميِّز بين المنفعة المادية القائمة على الاستهلاك الوحشي والاستحواذ غَير الشَّرعي، وبين المنفعة الوجودية القائمة على المصير المُشترَك والخَلاص الجماعي.
وهذا التمييز ضروري للغاية، لأنَّه يكشف حقيقةَ الأفراد وماهيةَ الأشياء، ويُوضِّح بِنيةَ الولاء والانتماء في المجتمع، ويَفصِل بين الأشخاص الذين يَريدون حَمْل الوطن على أكتافهم والنُّهوض به، وبين الأشخاص الذين يَعتبرون الوطن شَقَّة مَفروشة أوْ سَفينة مُعرَّضة للغرق، وينبغي الاستعداد للهرب مِنها عِند الشُّعور بالخطر.
(2)
منظومة (الولاء/الانتماء) لا يُمكن تعريفها بمَعزل عن تعريف الوطن. وإذا اعتبرَ الفردُ الوطنَ هو مركزية الحُلْم الإنساني وشرعية الوجود الحضاري، فإنَّه سيبذل الغالي والنَّفيس مِن أجل رِفعة الوطن وتقدُّمه وازدهاره، أمَّا إذا اعتبرَ الفردُ الوطنَ مُجرَّد بُقعة جُغرافية ومكان للإقامة، وفُرصة لتجميع المكاسب والامتيازات والغنائم، فإنَّه سَيُضَحِّي بالوطن مِن أجل مصلحته الشخصية، ويُلْقيه وراء ظَهْره كأيِّ شيء مُهمَل.
وزاويةُ الرُّؤية التي يُشاهد الفردُ مِنها الوَطَنَ، هي التي تُحدِّد المعنى الحقيقي للولاء والانتماء، هَل يُوالي شرعيةَ الوطن ومشروعيةَ حُلْمه في النهضة والتقدُّم، أَمْ يُوالي أرصدته البنكية ومصلحته الشخصية المُضَادَّة للمصلحة العامَّة؟. هَل يَنتمي إلى الوطن ماضيًا وحاضرًا ومُستقبلًا أَمْ يَنتمي إلى شهواته الطينية ونزواته العابرة وغرائزه المتأججة؟.
(3)
الفرق بين الرُّبان وفِئران السَّفينة هو الفرق بين التضحية والانتهازية، فالرُّبَّان هو العَقْل المُفكِّر، وقائد السَّفينة في بحر مُتلاطم الأمواج. يُضحِّي بحياته وراحته ومصلحته الشخصية من أجل إيصال السَّفينة إلى بَر الأمان، ويظل مُلتصقًا بها إذا تعرَّضت لحادث، مُحَاوِلًا إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، ولا يَترك دَفَّة القيادة، ويَهرب من المسؤولية والتَّحدي.
إنَّ الرُّبَّان كطابَع البريد الذي يظل مُلتصقًا بالرسالة حتى وُصولها إلى مُستلمها، وكما أن طابَع البريد لا ينفصل عن الرسالة ولا يَتركها وحيدةً، كذلك الرُّبَّان لا ينفصل عن السفينة ولا يَخونها.
أمَّا فِئران السَّفينة فهي تَعتبر السفينة مشروعًا استثماريًّا لجني الأرباح المادية والمكاسب المُؤقَّتة، والانتماءُ يكون للمصالح الشخصية الضَّيقة، والولاء يكون للغنائم المُغرِية، لذلك تقوم فئران السَّفينة بتفسير الأحداث والوقائع لخدمة أغراضها وتبرير خيانتها، وهي مُستعدة للهرب والقفز مِن السَّفينة عندما تَشعر بالخطر والتهديد، وتُدرِك أنها لم تعد قادرة على جَنْي الأرباح.
والجديرُ بالذِّكْر أنَّ الرَّأسمال الحقيقي هو الوجود الوطني، لأنَّه جَوهر عابر للأزمنة والأمكنة والمصالح الشخصية، أمَّا وجود المكاسب المادية فهو عَرَض مُؤقَّت زائل، والعَرَضُ لا يَدُوم زَمَانَيْن. وإذا كان انتماء الفرد إلى وطنه، سَيَربح نَفْسَه ووَطَنَه معًا، لأنَّ نَجَاة الكُل هي – بالضَّرورة- نَجاة للجُزء. وإذا كان انتماؤه لنَفْسه، سَيَخسر نَفْسَه ووَطَنَه معًا، لأنَّ الجُزء لا يَقُوم مَقَام الكُل.
اضف تعليق