q
هذا العالم اللطيف، المحمي، ذو الابعاد الثلاثة هو وقاء لنا وايضا مدرسة اُعطيت لنا من جانب الحب العالمي. اعطانا عالم آمن نكون فيه اكثر قربا من الادراك الروحاني الحقيقي وايضا نتعلم الكون الكلي في طبيعته الحقيقية عبر دراسة الخارطة التي أمامنا. ماهي الخارطة؟ غرفتنا المغلقة...

ان الطبيعة الكلية للعالم هي الفوضى الأبدية، ليس بمعنى افتقاره للضرورة، وانما في الافتقار للنظام، البناء، الشكل، الجمال، الحكمة وكل ما يمكن ان يمتلكه الانسان من افكار جميلة.. علينا الحذر من ان ننسب له القسوة واللامعقول او أضدادهما: انه غير كامل ولا جميل او نبيل، وليس لديه الرغبة ليصبح أي من تلك.. انه لايعرف أي قانون. لنحذر من القول ان هناك قوانين في الطبيعة. هناك فقط ضرورات. لايوجد هناك من يأمر، لا احد يطيع، ولا وجود للمتجاوز.. لنحذر من القول ان الموت هو المضاد للحياة. الكائن الحي ليس الاّ نوعا من الموتى، وهو نوع نادر جدا.(نيتشة)

الاقتباس أعلاه يلخص النظرة الحديثة للكون، وهي نظرة يشترك بها تقريبا الكثير من الناس اليوم. بالتأكيد جرى التعبير بصراحة كبيرة وقسوة أكبر مما يحرص الناس التعبير عنه. لكن هذه الرؤية الباردة والفارغة والفوضوية للطبيعة النهائية للأشياء هي الصورة الأساسية للعالم الحديث. انها الحجر الاساس الذي بنى عليه القرن العشرون رؤيته عن الكون، وانها توضح عدة أشياء حول الطريقة التي يشعر ويتصرف بها الناس في الغرب في القرن الماضي.

ان الطريقة التي نرى بها الكون هي ليست منفصلة عن الطريقة التي نرى بها أنفسنا. اذا كان كوننا فوضويا وبلا معنى، كيف يمكننا ان نكون منسجمين وتكون حياتنا ذات هدف؟ اذا كان كوننا باردا وفارغا، كيف يمكن لنا ان نعيش بطريقة ذات معنى؟

كل الناس التقليديين رأوا الانسانية والكون باعتبارهما مترابطين راديكاليا، والراعية (maid) نفسها هي "كون جزئي" او "كون صغير" والعكس صحيح ايضا في ان الكون نفسه هو بالنهاية أقرب لأنفسنا. كلمة "عالَم" تعني بالأصل "الانسان العظيم"، وبالطبع، في الاوقات المبكرة، جرى تصوّر الراعية الكونية كأنثى. نحن والكون مرتبطان بفكر تقليدي، ومن نفس الجوهر ونفس المادة. كلانا مدركان وكلانا نعني نفس الاشياء.

الرؤية الحديثة

وعلى عكس ذلك، طبقا للرؤية الحديثة، نحن لسنا الاّ صدفة في اتساع الكون، ربما لم نكن، او ربما كنا بطريقة مختلفة جدا. ضمن المجرات اللامتناهية لسنا الا نقطة ضئيلة، وضمن الأفاق اللامتناهية للزمن الكوني، فان تاريخنا كله، والماضي، والحاضر والمستقبل، ليس الا لحظة، انه غريب بالنسبة لنا، لايعرف اي شيء عن قيمنا او طموحاتنا، لا يعرف اي شيء، هو في الحقيقة ليس الاّ مادة عمياء عديمة الإحساس، وعرضي وبلا معنى كأنفسنا.

عندما تخسر الراعية اهميتها في الكون، ويخسر الكون اهميته تجاهها، فان العديد من الاشياء الاخرى ستضيع ايضا. وحتى وقت متأخر تجسدت الراعية ذاتها في معرفة انها كانت كون صغير، وان ذلك انعكس في كل حركة قامت بها، وكل كلمة نطقت بها، وكل ملابس ارتدتها وكل ما احاط بها من الاشياء.

إرسم الراعية في اللحظة الحاضرة، في ملابس فضفاضة ومرتخية، تكافح دائما لأجل الغريب والشاذ، او اي شيء آخر لأجل الطارئ واللامبالاة. الا تمثل تلك صورتها عن الكون؟ كونها بلا هدف، عرضية، فوضوية، بلامعنى؟ ربما قميصها يحكي بعض النكات المبتذلة أو يعلن عن منتج تجاري. لماذا لا؟ أي احترام هي تطمح اليه، نقطة طارئة عائمة للحظة قصيرة في عالم الغبار العشوائي؟

ملابسها هي ملابس الإحباط والسخرية من الذات. حياتها، تجردت من جميع مصادر المعنى والانسجام، اصبحت تجوالا دائما بلا هدف تتحفز فقط بالرغبات المصطنعة اللامتناهية التي يفرزها النظام التجاري، وبواسطة تلك الرغبات التي نشترك بها مع الكلاب والقطط، رُفعت الى منزلة الكلاب وتحفزت بكل الوسائل المتوفرة للاتصالات الواسعة.

وعندما يتفكك كوننا من الكل الموحد والهادف، الى مجموعة من الأشياء المنفصلة بمسافات مبهمة في الفضاء الأسود البارد، كذلك نسيجنا الاجتماعي يكون مهلهلا، وروابط الولاء والحب والتقاليد والثقة تصبح رخوة، تاركة كل فرد في وحدة منعزلة باستمرار يدافع عن نفسه في عالم بارد ومنعزل.

العديد من النتائج الاخرى تبرز من هذه الرؤية الجديدة للعالم كشيء فارغ وبلامعنى أقلها فقدان إحساسنا القديم بالمسؤولية نحو العالم. اذا كنا لا شيء بالنسبة للعالم والعالم لا شيء بالنسبة لنا، اذا كانت الراعية ليست عالما صغيرا، ولا العالم راعية كبيرة، لماذا يجب علينا ان نتعامل معه باحترام؟ لماذا يجب ان لا ننهبه ونحطمه؟ عندما تتلاشى روابط المعنى والولاء ورقصة التناغم الأبدي، ستبدو حتى المحافظة على الذات ليست كافية لمنعنا من قطع الغصن الذي نجلس فوقه.

نحن ربما نظن انفسنا كحيوانات، والحيوانات هي مجرد مكائن مبرمجة لأجل البقاء، لكن عندما يكون بقاء الحيوان هو كل شيء، وعندما تُنتزع منا عقائدنا وحوافزنا التي هي دائما خاصية انسانية، سيتضح اننا لسنا جيدين جدا في كوننا حيوانات، ولا نهتم كثيرا حتى بالبقاء ذاته.

ولكن حتى لو اتفقنا اننا افضل حالا مع كون عاقل، كون يعكس الراعية ذاتها ذلك لن ينفعنا لو لم نستطع الايمان به كحقيقة.

العديد من الناس اقترحوا انه من الأفضل للانسانية الرجوع الى بعض اساطيرها ومعانيها المبكرة لكي تنهي فراغ وفوضى العالم العرضي العشوائي. هذه الاقتراحات هي ذاتها بلا هدف. نحن لا نستطيع اختيار الايمان بشيء نحن نظن انه غير صحيح. لا نستطيع إمضاء حياتنا عبر ممارسة الكذب الجميل. انه ليس من طبيعتنا.

اولئك المفكرون الذين حلموا باستعادة عالم الاساطير الذي نُظر اليه بعيون الأنثربولوجيا الحديثة او علم النفس قد اخطأوا الهدف كليا. علم النفس الحديث والانثربولوجي وضعا نفسيهما فوق الاسطورة، يسعيان لتوضيح الانسان المتفوق (السوبرمان) بلغة انسانية، ليختزلا ما فوق الطبيعة الى ظاهرة ثانوية لها.

اذا كانت الرؤى الاسطورية صحيحة، عندئذ فهي تكون اساسية. اذا كانت صحيحة، فهي تعطي توضيحات للثقافة الانسانية والذهن الانساني وليس العكس. واذا كانت غير صحيحة، فهي تكون لا فائدة منها لنا ولا لأي شخص.

الصورة الحديثة للكون تعرض نفسها كحقيقة. ليست جذابة او هادفة لنا، ولكن ببساطة هي صحيحة. تلك قوة كلمات نيتشة المقتبسة أعلاه. هذه الرؤية تدّعي انها أبطلت الرؤية السابقة وأنزلتها الى عوالم الفنتازيا القديمة الطراز. الكون الذي صُنع في صورة الراعية (او حتى العكس) كان انانية طفولية لنا. الآن نحن نعرف الحقيقة، سواء كنا نحبها ام لا. الكون هو غير مرتبط بنا ما عدى بمقدار ما نكون احد حوادثه اللامعدودة والعشوائية. ليس فيه رسالة لنا ولا معنى كذلك. هو غير مدرك وغير مدرك. هو فقط كائن وليس اكثر. نحن نعرف هذا كنتيجة لمعرفتنا المتفوقة. علومنا أثبتت ان كل العصور الاخرى خاطئة ونحن على صواب.

تلك هي الحكمة المعطاة من العالم الحديث. ولكن هل هي صحيحة؟ هل الرؤية العلمية العالمية الحديثة أثبتت بطلان الصورة المبكرة للكون الذكي؟ ان لم تكن كذلك، نحن ربما نرتكب خطأً جسيما. ربما ننتزع انفسنا من دعاماتنا النفسية، نزيح انفسنا من مكاننا الطبيعي في الكون، نسبب ضررا نفسيا غير معلن ليس فقط لأنفسنا، وانما للعالم الذي حولنا. نيتشة رأى بوضوح النتائج السايكولوجية لمثل هذه الثورة الداخلية:

"منْ أعطانا اسفنجة لتنظيف كامل الافق؟ ماذا عملنا عندما حررنا هذه الارض من شمسها؟ الى اين هي تتحرك الان؟ الى اين نحن نتحرك حاليا؟ بعيدا عن جميع الشموس.. الم نكن تائهين في العدم اللامتناهي؟ الا نشعر بشهيق الفضاء الفارغ؟ ألم يصبح اكثر برودة؟ الا تأتي المزيد والمزيد من الليالي في كل الأوقات؟"

بالطبع، اذا كانت هذه رؤية جديدة فهي ببساطة صحيحة، نحن لا نستطيع عمل أي شيء تجاهها. الرؤية القديمة التي أعطتنا مكانا في كون متناغم وعطوف جرى إبطالها. نحن يجب ان نعيش مع الحقيقة الجديدة حتى لو كانت تفرغ قلوبنا وأرواحنا، حتى لو تحطم الروابط بيننا وبين الراعية، تقتل إحترامنا لأنفسنا، تزيل حبنا للجمال والشفقة واخيرا تطفئ الرغبة باستمرارية الحياة.

اذا كانت الرؤية صحيحة وأبطلت الرؤية المبكرة فهل حصل ذلك حقا؟ سنبيّن هنا ان الرؤية التقليدية للكون لم يثبت بطلانها. الرؤية التقليدية؟ قد يسأل البعض اي رؤية تقليدية. بالتأكيد هناك العديد من الرؤى والعديد من الميثولوجيا والأديان قبل الحاضر. اي من الرؤى التقليدية نسعى لعرضها؟ نحن سنعرض الرؤية التقليدية لأنها هي الوحيدة حقا. انها صيغت بمختلف اللغات الروحية والرمزية في مختلف الثقافات، ولكن في جوهرها، هي ذاتها دائما وفي كل مكان.

سنفحص الرؤية التقليدية بشكلها النسوي السابق للصيغة الذكورية المعروفة في الثقافات التاريخية الحديثة. سنقوم بهذا لسبين. الاول لأنها الشكل الاقدم والبدائي للفكر الانساني الكبير وثانيا، لأننا نعتقد ان المزيد من مشاكل العالم اليوم بما فيها خسارة ذلك التقليد، يكمن في التقييم المفرط للذكورية كمضاد للنسوية. نحن نتذكر حقيقة ان العديد من النساء اليوم يبحثن عن اجوبة للاسئلة التي تحطم حضارتنا، اجوبة يمكن توفيرها فقط عبر الحكمة التقليدية. غير ان رسالتنا ليست فقط للمرأة. في عالم جائع جدا للانوثة مثلما هو جائع للأبعاد العليا للحقيقة الاسطورية والرمزية، نعتقد ان الرسالة اللازمنية لتقاليد الانوثة العالمية ستأتي كبلسم شفاء لكل من هو مستعد لسماعها.

الرؤية التقليدية

لنعود الآن الى سؤالنا السابق هل الرؤية التقليدية للكون جرى إبطالها وحلت محلها الرؤية الحديثة؟ لابد هنا ان نبدأ بالسؤال: ما هي الرؤية التقليدية؟ هذه الرؤية لدى الغرب الحديث هي التي نالت القبول طوال فترة القرون الوسطى والفترة الكلاسيكية وصولا الى ثورة كوبرنيكوس في القرن السابع عشر. طبقا لهذا النظام، الارض تقف في مركز الكون، هي كرة دائرية، وما ورائها هناك سلسلة من افلاك متحدة المركز، شفافة وبلورية. في كل واحد من تلك الافلاك هناك كوكب هو بالضرورة اله او ملائكة. اول هذه الافلاك التي اقرب الى الارض هو القمر ثم تأتي الزهرة وصولا الى سابع كوكب وهو كوكب زحل. بعد هذا يأتي عالم النجوم الثابتة وعالم السماء ذاته. الآن، هل هذه الرؤية للكون صحيحة ام زائفة؟ C.S.Lewis يشرح بوضوح الصورة التقليدية للكون في كتابه (الصورة المهملة) Discarded Image The (1) وهو متحمس جدا لجمالها وتناغمها، مع ذلك هو يشعر انه مجبر للاعتراف انها ترتكز على ما اسماه "علم الفلك الانفجاري" وعلى فهم زائف "ما قبل العلمي"لطبيعة العالم الفيزيائي.

هذا بالطبع، كان الإجماع العام للعالم المتعلم الحديث منذ القرن السابع عشر. ان الصورة يجب ان لا تُهمل ابدا. الاسباب التي رُفضت لأجلها كانت اسباب زائفة. كامل العملية ترتكز على سوء فهم بسيط لكنه جوهري، وان الراعية الغربية كانت غريبة عن كونها، عالمها متجرد من العمق والأهمية نتيجة لخطأ التفسيرات والالتباس. الصورة التقليدية للكون ما كانت مرتكزة على "علم الفلك الانفجاري"، لأنها لم ترتكز على علم الفلك ابدا. ليس لها مشتركات مع علم الفلك بالمعنى الحديث للكلمة – وهي محاولات لفهم الكون الفيزيائي على مستوى فيزيائي خالص.

هذا في الحقيقة بعيد عن الكتابات التقليدية حول الكون. عالم القمر او الذي تحت مجال القمراو الارض هو عالم الاشياء المادية، عالم التغير والاضمحلال، وبكلمة اخرى، الكون الفيزيائي. كل شيء في التجليات الفيزيائية، اي كل شيء يُفهم بواسطة علم الفلك الحديث وبالعلم الحديث ككل – من اصغر الجسيمات ما دون الذرة الى أبعد المجرات بعدد لامتناهي من السنوات الضوئية - هو جزء من اول حلقة من الكون التقليدي. حالما نصل الى اقرب مجال سماوي وهو مجال القمر، نكون سلفا وراء العالم المادي ووراء كل شيء متميز لدى العلوم الفيزيائية.

القول بان الكون التقليدي انفجر بواسطة علم الفلك الحديث هو مشابه لمستوى الاستنتاج غير المنطقي الذي نجده في الكتابات الالحادية: "انا كدكتور استطيع التأكيد لك بعدم وجود حياة بعد الموت". الدكتور ربما يدّعي معرفة كبيرة في جسم الانسان قياسا بالإنسان العادي. ولكن في الاسئلة التي تتجاوز العالم الفيزيقي هو ليس لديه ادّعاء اكثر من اي شخص آخر، وان ادّعاءه بان معرفته بمجال معين هي ضمان لتأملاته في مجال اخر هي ليست اكثر من نكتة ساخرة. صحيح ان إزاحة الكون التقليدي كانت اقل خداعا من احتيال الطبيب الملحد، لكنه كان مرتكزا على التباس حقيقي اكثر من ان يكون على خداع متعمد، و النتيجة تبقى هي ذاتها.

مع تزايد الوعي المادي للعالم الحديث، جرى وبسرعة نسيان ان دراسة الكون يمكن ان تكون حول اي شيء عدى المادة الفيزيائية. كان الافتراض ان العلم التقليدي كان يحاول القيام بنفس الشيء كالعلم الحديث، لكنه يقوم بذلك بشكل سيء. لا اتفاق على ان الحكمة القديمة لها اهداف مختلفة كليا عن تلك الاهداف في العلوم المادية، وانه حتى عندما تبدو ظاهريا كذلك، فهي لاتدرس في الحقيقة نفس الأشياء (2). صحيح ايضا ان معظم القدماء تصوروا بالفعل الكون الفيزيائي وبنفس المقدار الكون الميتافيزيقي، اي، انهم فشلوا في رسم تمييز كافي بين البناء الملموس للكون ورموزه الفيزيائية الخارجية. كذلك صحيح ايضا انهم عرفوا القليل عن التفاصيل العملية للكون الفيزيائي قياسا بما قام به العلم الحديث. كل هذه النواقص هي نتيجة لحقيقة ان مستوى الوجود الخالص فيزيقيا لم يكن يهمهم كثيرا وان اهتمامهم الرئيسي كان في الحقائق العليا التي ترمز لها ظاهرة العالم المادي. من الطبيعي لأي ثقافة ان تكون جاهلة بأشياء تعتبرها غير هامة. اذا كان العالم القديم عاجزا في اسئلة الفيزياء المادية والفلك، فان العالم الحديث هو جاهل وبنفس المقدار في مجالات الميتافيزيقا والحقيقة الروحية.

من المهم ان نفهم ان تصورنا للكون يتم عبر توسط الحواس الخمس. نظريا، تلك الحواس يمكنها ان تتعدد عدة مرات. لاحدود هناك لعدد الحواس التي نمتلكها مبدئيا. يتبع ذلك، ان نسبة الكون القابل للإدراك لتلك الحواس الخمس هو فقط نسبة ضئيلة جدا من الواقع الكلي. اذا كانت حواسنا متعددة، نحن يجب ان نندهش بالضخامة المرعبة للكون: منسحقين، محطمين، مجتاحين بالاتساع الرهيب المتعدد الأبعاد غير القابل للتحمل "الكائن الانساني لايستطيع تحمل الكثير جدا من الحقيقة".

هذه النسبة القليلة الآمنة من الكون التي خُصصت لنا –هذا العالم من الحواس الخمس– هو في ذاته فعل للرحمة، تجسيد لشفقة امنا الكبرى. الطيبة والشفقة مندغمان في نسيج الكون، وان رؤية نيتشة للكون الفارغ والبارد والذي بلا معنى هي رفض سخيف لتلك الطيبة، لأن فهمه ارتكز على سوء فهم عميق لمكاننا ضمن طبيعة الاشياء.

لو تصورنا مخلوقا صغيرا يمضي كامل حياته على طاولة في غرفة. سطح الطاولة هو خريطة للعالم. الطاولة، وكل الغرفة تمثل عالم الحواس الخمس. هذا المخلوق تعلّم منذ البداية ان الخارطة التي على سطح الطاولة هي صورة للعالم، وانه عبر دراستها هو ربما يعرف العالم وذاته. الآن لنتصور في يوم ما هذا المخلوق ينسى التقليد الأصلي ويقرر ان يتعلم اكثر مما تبيّن له الخارطة. هو يقوم بصنع تلسكوبات ووسائل اخرى وحالا يجد انه يستطيع النظر الى النهايات البعيدة للغرفة. هو يتعلم عدة اشياء لم تتضمنها خارطة العالم. هو يتعلم عن طاولات ومقاعد، بساط وحتى من مسافة بعيدة يرى الشباك والباب، رغم انه غير متأكد تماما ماهية تلك.

هو الان يحتقر خارطته ويعتقد انه يعرف الكثير حول العالم قياسا بأسلافه السذج الذين آمنو به. هو اكتشف اشياء لا تُعد ولم يحلم بها ابدا. ولكن ما لا يعرفه هو انه وراء هذه الغرفة توجد غرف اخرى، وراء كل تلك الغرف بيت آخر وعدد من البيوت الاخرى في نفس الشارع ومئات من الشوارع الاخرى في المدينة، مئات من المدن الاخرى في البلد، ومئات من البلدان الاخرى في العالم – وليس فقط بلدان، وانما بحار واسعة وغابات وصحاري وكهوف تحت الارض ومناطق قطبية والكثير. كل هذه الاشياء تُرى على الخارطة التي على سطح الطاولة، الخارطة التي هو يعتقد الآن ان تكون "مطلقة" بسبب معرفته الجديدة المتفوقة المكتسبة عبر النظر الى غرفة منفردة من بين تلك الحصة من الكون المرئي للحواس الخمس.

بالتأكيد هو يعرف اشياءً لم يعرفها اسلافه لكنها تشكيلة عشوائية من الأشياء – مثل الاشياء التي صادف حدوثها في تلك الغرفة المحددة، والتي هي قريبة بما يكفي لرؤيتها او سماعها بوضوح. انها ليس لها معنى معين لأنها اختيار عشوائي ولذا تبدأ رؤية نيتشة - الافتراض بانه، بسبب كون الاختيار المحدود للواقع المتاح لحواسنا الخمس عشوائيا، كذلك الكون ذاته بلا معنى وبدون نموذج. هذه الرؤية النيتشاوية، ذات الخواص المرعبة تدفعنا لنرى ان كانت حواسنا متعددة الى النقطة التي يمكننا ان نرى اي شيء. نيتشة ذاته اصيب بالجنون. معظم العقول الصغيرة تبقى عاقلة لأنها لا تواجه الآثار الكاملة لما تعتقد.

ولكن لماذا من غير الممكن لنا رؤية الكون الكلي؟ ذلك بسبب اننا في حالتنا الراهنة ضعيفين جدا لرؤيته. الراعية لديها القدرة لرؤية الكل، المطلق واللامتناهي – الاله، فيه الكون الكلي يمتلك وجوده. لكن رؤية الاله هو بالضبط ما ابتعدت عنه الانسانية. انكشاف الكون الكلي الآن سوف يعرّضنا الى حمولة هائلة من الطوارئ – شيء مثل كون نيتشة متعدد بملايين ملايين المرات اللامتناهية: فوضى بأبعاد متعددة لامتناهية لا تتوفر فيها الحماية لأرواحنا، ذلك ليس بسبب ان الكون فوضوي وانما لأنه يُرى من جانب شخص لم يحصل على الادراك الروحاني الحقيقي، انه من الضروري ان يبدو هكذا.

هذا العالم اللطيف، المحمي، ذو الابعاد الثلاثة هو وقاء لنا وايضا مدرسة اُعطيت لنا من جانب الحب العالمي. اعطانا عالم آمن نكون فيه اكثر قربا من الادراك الروحاني الحقيقي وايضا نتعلم الكون الكلي في طبيعته الحقيقية عبر دراسة الخارطة التي أمامنا. ماهي الخارطة؟ غرفتنا المغلقة هي الكون المدرك لحواسنا الخمس، لكن ما هي بالضبط الخارطة؟ هي الكون المتجسد مباشرة لحواسنا الضعيفة في هذه الحياة، الكون هو حيثما تشرق الشمس وتغيب، وحيث قبة السماء الزرقاء فوقنا و الكواكب السبعة تتحرك في مداراتها. كما في كل خارطة، نحتاج معرفة ماذا تعني رموزها واشاراتها قبل قرائتها بشكل صحيح، هذه المعرفة او الحكمة اُعطيت لنا منذ وقت طويل.

....................................
الهوامش
(1) كتاب الصورة المهملة للكاتب سي.اس. لويس، صدر اول مرة عام 1964 عن مطبعة جامعة كامبردج في 242 صفحة واعيد طبعه في مارس 2012.
(2) يجب الانتباه خصيصا الى رؤية المركزية التقليدية للشمس الخارقة او الام الشمسية، ان فكرة مركزية الشمس للكون تتطابق ايضا مع الرمزية الميتافيزيقية الظاهرة. في الحقيقة، ان فكرة مركزية الارض تكون صالحة فقط من منظور ارضي. دانتي كان يتبع تقليدا عندما يعلّم ذلك من منظور سماوي (او في لغة افلاطون، في كون مدرك وليس محسوسا) ان الارض لم تعد مركزا وانما هي الحافة الخارجية للوجود. كوبرنيكوس في جداله حول مركزية الشمس كان يؤكد الرؤية الميتافيزيقية او الثيولوجية المرتكزة على احياء نظام شمسي فلسفي للعالم الكلاسيكي. هو لم يكن نموذجا للعالم المادي الذي تحاول الميثولوجيا الشعبية الحديثة اظهاره بها. وهو لم يدّعي طرحه شيئا جديدا وانما استخدم اشارات مرجعية من العالم القديم لمركزية الشمس. من مفارقات التاريخ ان عمله خدم غايات بعيدة عن مقاصده، وفي تحليله للرؤية التقليدية للكون يكون قد مهّد الطريق للنقيض لكل ما اعتقد به. وبعد قرن، استجابت الكنيسة للتصاعد في دعوات نزع الأسطرة الكونية بمحاولة قصيرة الأمد لكبح مركزية الشمس لأنها ومعها اوربا كلها فقدت الأساس الفكري الضروري لدمجها في الاطار الروحي للغرب.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق