اتضح ان الكثير من هذه الأحزاب لا تحمل هما وطنيا حقيقيا، وان صراعها على السلطة لم يأت لتطبيق مشاريع للارتقاء بالبلاد وتعويضها عما خسرته في الماضي، بل لتحقيق مصالح شخصية وحزبية ضيقة، بدلالة تحاصص الوزارات والمكاتب الاقتصادية فيها، ما يعني انها غير مبدئية وليست أمينة، ولا تتحلى بروح وطنية تقتضيها قيادة البلدان...
في اللقاء الصحفي الذي أجريته معه في عام 2008 قال رئيس الوزراء السابق السيد عادل عبد المهدي: (ان لا ديمقراطية من غير أحزاب)، على اعتبار ان التعددية الحزبية مظهر من مظاهر الديمقراطية، وأنها تثري التجربة الديمقراطية بمضامينها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما انها ساتر متين يحمي الديمقراطية من الانتهاكات التي تتعرض لها، لكن الممارسة أثبتت ان الرصاصة التي أصابت قلب ديمقراطيتنا كانت حزبية بامتياز.
فقد تفاعل العراقيون مع هذه التجربة في بداياتها وتحمسوا لها، وتحدوا جميع أشكال الارهاب في سبيل تجسيدها على أرض الواقع عبر مشاركاتهم في الانتخابات الاولى والثانية، وأدلوا بأصواتهم لحساب الأحزاب التي ظنوا انها تعبر عن تطلعاتهم ومشاغلهم، لكنهم أحبطوا أيما احباط في السنوات اللاحقة.
اذ اتضح ان الكثير من هذه الأحزاب لا تحمل هما وطنيا حقيقيا، وان صراعها على السلطة لم يأت لتطبيق مشاريع للارتقاء بالبلاد وتعويضها عما خسرته في الماضي، بل لتحقيق مصالح شخصية وحزبية ضيقة، بدلالة تحاصص الوزارات والمكاتب الاقتصادية فيها، ما يعني انها غير مبدئية وليست أمينة، ولا تتحلى بروح وطنية تقتضيها قيادة البلدان، وان ولاءها للعراق مشكوك فيه، فمصالح الأجنبي مفضلة لديها على المصالح الوطنية، وفي ضوضائها ضاع صوت القوى الوطنية المخلصة، وتعذر عليها منافستها لاتكائها على غرباء يدينون لهم بالولاء السياسي والديني و المذهبي، وتكدّس السلاح في مشاجبها، وعدم توانيها عن استخدامه في حال تهددت مصالحها، ولكل ذلك فان وجود الأحزاب ليس بالضرورة دلالة على وجود ديمقراطية سليمة، بل قد تكون معولا لتهديم بناءها وتشويه رسالتها النبيلة، كل هذا صار واضحا ومعلوما للعراقيين والحديث فيه تكرار ممل.
لقد أثبتت التجربة ان جل أحزابنا بلا مضامين اجتماعية واقتصادية وسياسية، وليست لديها صورة واضحة عن المستقبل الذي تريد له التحقق، وطالما الأمر كذلك فكيف يمكن للعراقيين التحرر منها، وابعادها عن التحكم بالمسار الديمقراطي، وهيمنتها على السلطة.
وفي سبيل ذلك سلك العراقيون مختلف السبل للتحرر، وتمسكوا بالخيارات الديمقراطية في سلوكهم حرصا منهم على الديمقراطية بوصفها طريقا آمنة لقيام الدولة المدنية، فعلى خجل وخوف ومنذ وقت مبكر تظاهروا، لكن تظاهراتهم قوبلت بيد من حديد كانت أبعد ما تكون عن الفاسدين الذين ويتباهون بفسادهم، ويتحدثون عنه صراحة في وسائل الاعلام وكأنه شطارة وذكاء، من دون أن يقول لهم أي من الذين وليناهم القيادة العليا (من اين لك هذا؟).
ويتساءل العراقيون عن الأسباب التي تحول دون مباشرة صاحب السلطة الأعلى بمحاسبة الفاسدين بالرغم من حجم الدمار الذي ألحقوه بالعراق، وقبل التظاهر توهمنا ان الانتخابات بمقدورها تخليصنا منهم، لكن التزوير وأفواه البنادق جاءت بهم ثانية، بينما ابعد الوطنيون، حتى بلغ اليأس بالناس مبلغا أشعرهم ان أبواب التغيير الديمقراطي اغلقت بوجوههم، فعزف ثلاثة أرباعهم عن المشاركة في الانتخابات الاخيرة.
وفي لحظة تفاعل فيها القنوط وانعدام الخدمات وازدياد البطالة وفقدان الثقة بالعملية السياسية، وتلاشي حلم الدولة المدنية، انفجرت انتفاضة اكتوبر، وأقنع هولها وبطولة شبابها ونهر الدم الذي سال فيها القريبين والبعيدين انها حد فاصل بين عالمين، عالم الفساد والعمالة للأجنبي وعالم استعادة الوطن، فقيل ان ما بعدها ليس كما قبلها، لكن الذين لم يستحوا من البشر والتاريخ وما جادت به الانتفاضة من قيم وطنية، عادوا ثانية لتفصيل ثياب القادم من الأيام على مقاساتهم، ومن هنا ستبدأ الكارثة، عندما تمنح هذه القوى نفسها صلاحية تشريع القوانين الانتخابية، فهي لا تمثل الشعب حقيقة بدلالة الانتفاضة، وليس لديها نكران للذات، ولم تتجرد من السلاح، ولا تؤمن بقيم الدولة المدنية، وتلوي أعناق القوانين لمصالحها، كل ذلك يؤكد ان الانتخابات القادمة لن يفوز فيها غير الفاسدين، والخاسر الأكبر فيها هو الشعب.
اضف تعليق