منذ خلق الله البشرية وهي تسير في خط حضاري تكاملي ذكره القران الكريم بقوله: \"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ\"، حيث تشير كلمة الانسان الى عموم البشر بلا تخصيص زماني او مكاني او عرقي او ديني، وتشير كلمة كادح الى تلبس حالة السير في وجود الانسانية...
منذ خلق الله البشرية وهي تسير في خط حضاري تكاملي ذكره القران الكريم بقوله: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ"، حيث تشير كلمة "الانسان" الى عموم البشر بلا تخصيص زماني او مكاني او عرقي او ديني، وتشير كلمة "كادح" الى تلبس حالة السير في وجود الانسانية.
وتشير كلمة "ملاقيه" الى حدث حضاري كبير، وهو ملاقاة الله. وبما ان الله ليس وجودا ماديا يحده زمان ومكان، فان اللقاء الموعود لن يكون حدثا ماديا فان المقصود هو لقاء صفات الله، بمعنى تجسد صفات الله في حياة البشرية، ومن هذه الصفات العدل والرحمة والقوة والعلم الخ. ويعني لقاء الله تحقق هذه الصفات في المجتمع البشري ليكون مجتمعا عادلا رحيما قويا قائما على العلم.
والمسيرة الحضارية للبشرية تكون من خلال استثمار عناصر المركب الحضاري في اطار منظومة القيم الاخلاقية الصالحة. والمركب الحضاري مؤلف من خمسة عناصر هي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. اما منظومة القيم الصالحة فهي التي يطلق عليها القران الكريم عنوان "الاستخلاف" الذي ينظم علاقة الانسان باخيه الانسان، وعلاقة الانسان بالطبيعة، على اساس منظومة القيم الاخلاقية التي تشكل مؤشرات السلوك وضوابطه.
ويعني استخلاف الانسان في الارض تحقيق الانسان في حياته لهذه الصفات التي يؤمن الانسان بتوحدها في الله، على حد تعبير السيد محمد باقر الصدر. وهذا هو جوهر منظومة القيم الاخلاقية الحضارية العليا.
وهذا هو معيار التقدم والتكامل الحضاري للبشرية عبر تاريخها، وليس سير التكامل الحضاري البشري خيطيا على الدوام، انما هو متعرج عموديا وافقيا، رغم انه تراكمي في محصلته الاخيرة. فالتكامل البشري قد يشهد لحظات صعود تقابلها لحظات هبوط، كما يشهد انتكاسة حضارية في مكان، مقابل تقدم حضاري في مكان اخر.
قبل ١٤٠٠ سنة كانت مكة المكرمة مكانا لانطلاقة حضارية جديدة تواصل ما حققته البشرية منذ ادم حتى تلك اللحظة. وتمثلت تلك الانطلاقة الحضارية ببعثة الرسول محمد (ص) ونزول القران الكريم الذي كان اخر وثيقة حضارية الهية لهداية البشرية في سيرها التكاملي. وقد حدد الرسول محمد (ص) موقعه في هذه المسيرة الحضارية في القول المنسوب اليه والذي يقول: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق". وهذا الموقع هو المتمم لما تم تشييده من قبل لمكارم الاخلاق، او لمنظومة القيم الحافة بعناصر المركب الحضاري. نستطيع اليوم، وبعد حوالي ١٥٠٠ سنة من نزول القران الكريم، ومن خلال منهجية "الفهم الحضاري للقران" ان نقرر بثقة كبيرة ان نزول القران مثّل مرحلة جديدة من مراحل السير التكاملي الحضاري للبشرية. وان المتوقع كان ان تخطو البشرية بسببه خطوات كبيرة في سيره الحضاري، وهذا ما حصل فعلا من خلال ما يندرج تحت عنوان "مساهمة الحضارة الاسلامية في تطور العالم. وقد كانت الحضارة الاسلامية هي الجسر الذي عبرت من خلاله البشرية من العصور القديمة وذروتها الحضارية الاغريقية-الرومانية الى الحضارة الراهنة. ونستطيع من خلال ذلك تتبع السير الحضاري للبشرية وانطلاقته من بلاد الرافدين ومصر، ثم انتقاله جنوب شرق اوروبا (كريت واليونان وروما) ثم عودته الى العالم الاسلامي، ثم انتقاله الى الغرب.
لكن هذه المحصلة النهائية والقراءة الكونية لخط سير التطور الحضاري للبشرية لم تمنع من حصول انتكاسات هنا وهنا، منها الانحراف السياسي الذي وقع في السير الحضاري للمجتمع الاسلامي، ذلك الانحراف الذي وصل ذروته في خلافة يزيد بن معاوية. مثل ذلك الحدث خللا حادا في المركب الحضاري للبشرية الاسلامية الذي قام على اساس استخلاف الانسان والذي تتفرع منه قاعدة حق الجماعة البشرية في حكم نفسها بنفسها، كما وردت في سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ". وبالتالي عدم مشروعية من يتولى الامر، اي الحكم، بدون رضا الناس، هذا المبدأ الذي ثبته الامام علي عندما ألزمه المسلمون بتولي الأمر بعد مقتل عثمان، صعد المنبر وقال لهم في خطبته، كما يروي الطبري في تاريخه: "يا أيها الناس -عن ملء وإذن- إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس". لكن هذا الامر انحرف واختل خللا كبيرة بمحاولة معاوية بن ابي سفيان تولية ابنه يزيد بالاكراه وارغام المسلمين على بيعته، محدثا بهذا التصرف الخلل الكبير في المركب الحضاري للمجتمع المسلم انذاك، وهو مصادرة حق الجماعة البشرية بحكم نفسها بنفسها. وقد ادرك الامام الحسين هذا الخلل السياسي الحاد في المركب الحضاري لمجتمع المسلمين، بما اوتي من فقه القران وعلمه، فنهض في خطبه الكثيرة التي اكد فيها عدم مشروعية تولي يزيد الخلافة وعدم صلاحيته لهذا المنصب، وبلغت دعوته ذروتها بقوله: "اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي،اريد ان امر بالمعروف وانهى عن المنكر..". وكان المنكر او الفساد الذي خرج الامام الحسين من اجل النهي عنه واصلاحه هو تولي يزيد للخلافة، غير المؤهل لها اصلا، وعن غير رضا الجماعة المحكومة. وكان تثبيت هذا الموقف هو المنجز الحضاري، او الاضافة الحضارية التي اضافها الامام الحسين الى المسيرة التكاملية للبشرية، وفي الجانب السياسي على وجه الخصوص.
لم تسقط ثورة الامام الحسين خلافة يزيد، واستمر الانحراف عن مبدأ "حق الجماعة البشرية في حكم نفسها بنفسها"، وابتعد مجتمع المسلمين كثيرا عن هذا المبدأ، لكن مجتمعات اخرى في مناطق اخرى من العالم كان ينمو لديها هذا المبدأ تدريجيا اخذ بتثبيت نفسه في فكر البشرية ووعيها، تدريجيا بعد ثورة الامام الحسين، فكانت ثورة نبلاء انگلترا لاجبار الملك جون على توقيع وثيقة الماگناكارتا عام ١٢١٥، وسقوط نظرية الحق الالهي في الحكم التي مارسها ملوك اوروبا، والثورة المجيدة في بريطانيا عام ١٦٨٨، ثم الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، وسقوط الاستبداد الشيوعي في النصف الاخير من القرن العشرين الماضي وتحرر شعوب المعسكر الاشتراكي من نير الاستبداد وتواصلت المسيرة الحضارية التكاملية للبشرية بتحرير قسم كبير من شعوب العالم استنادا الى المبدأ الحضاري الاصيل الذي ثار واستشهد من اجله الامام الحسين.
لكن معركة الحرية التي استشهد فيها الامام الحسين ما زالت لم تكتمل. فقد اظهر مؤشر الحرية لعام ٢٠١٩ الذي يصدره سنويا بيت الحرية، ان من بين سكان العام البالغ عددهم ٧,٧ مليار (بليون) نسمة يوجد ٣٦٪ غير احرار يعيشون في ٢٥٪ من دول العالم، و ٢٥٪ احرار جزئيا يعيشون في ٣٢٪ من دول العالم. ولا يوجد سوى ٣٩٪ من سكان العالم احرار يعيشون في ٤٣٪ من دول العالم. وهذا يعني ان معركة الحرية التي اندلعت اولى ثوراتها في التاريخ في بلاد وادي الرافدين، بقيادة اوتو-حيگال في ١٤ تموز من عام ٢١٢٠ ق م، لم تقطع سوى اقل من منتصف الطريق نحو التحرير الكامل للبشرية واستعادة حقها في حكم نفسها بنفسها. ولهذا، فان البشرية ما زالت بحاجة الى روح الحسين الثائر من اجل الحرية والاصلاح السياسي.
اضف تعليق