q

الثاني والعشرون من مايو 2015 ينبغي أن يكون خطا فاصلا بين ما قبله وما بعده على مستوى الوطن كله. فقد شهد جريمة كبرى من جرائم الفكر التكفيري الذي عاث في الأمة فسادا، وقطّع أوصالها تقطيعا. قام في هذا اليوم أحد المجرمين بتفجير نفسه بحزام ناسف في المصلين في مسجد الإمام علي (ع) في بلدة القديح بالقطيف، مختارا توقيته بدقة؛ ظهر الجمعة حيث يغص المسجد بالمصلين، مما أدى إلى استشهاد 21 مصليا، وإصابة العشرات منهم إصابات مختلفة. يفعل ذلك تحت عنوان طلب الشهادة والتقرب إلى الله بقتل عباده في مسجده!!!

وهنا تكمن خطورة الفعل وقابليته للتكرار مرة أخرى، لا سمح الله، ما لم تعالج أسبابه الحقيقية، وما لم يتم استهداف قواعده الخلفية التي لا تفتأ تشحن الأدمغة بالمقولات القطعية المبررة والمزينة والمشرعنة والمحرضة على ارتكاب مثل هذه الجريمة دون أن تكون لها بالضرورة علاقة مباشرة بالمخطِّط أو المنفذ. يكفي أنها تهيئ البيئة المناسبة لذلك من خلال منابرها الإعلامية المختلفة في الفضائيات والمساجد والمناهج والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي وفضاء الانترنت وغيرها.

لا يتسع المجال في مثل هذا المقال لاستعراض وثائق التحريض على الكراهية ومستنداته، وهي متوفرة على الشبكة العنكبوتية، يمكن لمن أراد الرجوع إليها بضغطة زر، فما أبقى غوغل لمعتذر عذرا. لكن المسألة الأساس تكون دائما في سؤال: ماذا بعد؟! وهو سؤال موجه للوطن الذي نحرص جميعا على وحدته وتماسكه وأمنه وسلامته.

سؤال ماذا بعد، ينبغي أن يشغل الجميع، وعلى رأسهم أصحاب القرار السياسي الذين يُنتظر منهم بحكم موقعهم ومسؤوليتهم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإيقاف التحريض ومحاسبة المحرضين، وإرساء خطاب جامع لا يفرق بين مواطن وآخر. وهو ما دعا إليه الكثير من الكتاب والإعلاميين خلال الأيام التالية للحدث الفاجعة. فقد كتب مثلا داوود الشريان مقالا في جريدة الحياة بعنوان: (الحزن يلف القديح مجددا) جاء فيه: "جريمة القديح يجب أن تصبح محطة فاصلة، إذا كنا جادين في لجم الإرهاب المذهبي. يجب إصدار قانون يجرم كل من ينال من المذاهب. وكل من يصمت عن وصف الإرهابيين بأنهم كذلك. لا بد من استبدال خطاب التحريض والكراهية، بخطاب المواطنة. لا بد من تخليص خطابنا الثقافي والسياسي من المؤدلجين، وأصحاب الأفق الضيق. أبعدوهم عن قيادة الرأي العام حتى تسود المواطنة".

قد يجادل البعض بعدم الحاجة لسن قانون جديد، بحجة أن المادة الثانية عشرة والمادة التاسعة والثلاثين من النظام الأساسي للحكم، الذي هو بمثابة دستور البلاد، تغطيان ذلك. وهذا وإن كان صحيحا في الجملة، إلا أن كلتا المادتين باعتبارهما قانونين أساسيين لم تتطرقا إلى ذكر المصاديق الأبرز للفرقة والفتنة والانقسام خصوصا في مجتمعنا، كما لم تنصا على تجريم الممارسين لذلك، وإنما نصتا على المنع والحظر. لذا فإن الحاجة تبقى ماسة لإصدار لوائح تنفيذية تفسر ما جاء في نصوص تلك المادتين من عبارات عامة بوضوح، ولقوانين تنص على تجريم التحريض والتمييز المذهبي والقبلي والمناطقي والعرقي، ثم إلى هيئة عامة لمكافحة التحريض والتمييز على غرار هيئة مكافحة الفساد. فالقانون لوحده لا يكفي كما علمنا التاريخ في أكثر التجارب في العالم.

ما يريده الشيعة في هذا الوطن ليس أكثر مما يريده أي مواطن آخر. وهو معاملتهم انطلاقا من اعتبارهم مواطنين كاملي المواطنة، يتساوون مع غيرهم من أبناء الوطن في الحقوق والواجبات، ويتكافؤون في الفرص والثروة. أما أن يستمر الطعن في مذهبهم وفيهم بأبشع النعوت وأقذع الصفات دون رادع، وأن تنتقص مواطنتهم بانتقاص فرصهم في الوظائف والترقيات والتنمية والخدمات دون محاسبة، فهذا لا يخدم الوطن أبدا.

لقد أثبت شيعة الوطن بأفعالهم دائما أنهم لا يقلون انتماء لوطنهم عن غيرهم من المواطنين، وأن حبهم له لا يقبل المزايدة، وأنهم لا يريدون سوى أن يبادلهم الوطن حبا بحب من خلال واقع عملي ملموس.

هذا ما تتوقعه الدماء الزكية التي سالت في القديح حتى تطمئن على مستقبل الوطن.

وما حدث في مسجد الإمام الحسين بالعنود في الدمام مشهد يختصر كل المشهد.

شخص يحاول اقتحام بيت من بيوت الله بطريقة تنكرية مستهدفا قتل أكبر عدد من المصلين الذين يؤدون صلاة الجمعة، عازما على تفجير نفسه فيهم، متقربا بفعله الإجرامي إلى الله تعالى، معتقدا أن هؤلاء المصلين أشرار يمثلون الخطر الأكبر على العالم كله، وأن الله اختاره لمهمة استثنائية، وأن له الصلاحية المطلقة في إبادة من يشاء من خلق الله بدعوى أنهم على الباطل وأنه وحده وأشباهه على الحق المبين.

في المقابل أربعة تطوعوا لحماية المصلين مسترخصين أرواحهم، مستعدين لبذلها من أجل إنقاذ حياة الآخرين. انقضّوا بكل قوة على ذلك الشخص، وهم يدركون أن أجسادهم ستتحول إلى أشلاء، لكنهم وطّنوا أنفسهم على مثل هذا الموقف.

الأول قتل الناس جميعا، والأربعة أحيوا الناس جميعا.

لم ينتهِ المشهد بعد، فمن عبأ الأول بثقافة الكراهية والقتل وفخخ رأسه وغسل دماغه لا يزال خارج المساءلة. قد يحني رأسه للعاصفة كي تمر، ثم يعود ليواصل التحريض في فضائه الإلكتروني وفضائياته وصحفه وخطبه ومحاضراته وكتبه وغيرها من الوسائل.

ولا يزال الأربعة الآخرون ينتظرون من يعترف بهم كأتباع مذهب من المذاهب الإسلامية، وأنهم مواطنون لا فرق بينهم وبين غيرهم. وستبقى أجسادهم تسأل: متى تتسع الدمام لمقبرة لأمواتنا؟!!

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق