تعد المنافذ الحدودية معقلا من معاقل الفساد، وتصور وانطباع المواطن العراقي حولها أنها مخترقة من جهات سياسية نافذة تعتمد على الرشوة وعمليات التهريب وهذه هي القاعدة، والاستثناء خلاف ذلك. وباستطاعة تلك الجهات استدامة عمليات التهريب والاستيراد خارج الضوابط من دون دفع الرسوم الكمركية أو توثيق...
تعد المنافذ الحدودية معقلا من معاقل الفساد، وتصور وانطباع المواطن العراقي حولها أنها مخترقة من جهات سياسية نافذة تعتمد على الرشوة وعمليات التهريب وهذه هي القاعدة، والاستثناء خلاف ذلك. وباستطاعة تلك الجهات استدامة عمليات التهريب والاستيراد خارج الضوابط من دون دفع الرسوم الكمركية أو توثيق تلك العمليات للبضائع والسلع المرتبطة بها بسجلات الاستيراد أو التصدير وتغيير أصنافها وتواريخها ومناشئها.
لم يشهد هذا القطاع الحيوي أي محاولات جادة للإصلاح ولا توجد معايير لتعيين الموظفين والضباط وغيرهم بشكل تنافسي أو وفق معطيات تؤهل هؤلاء للعمل في المنافذ، إنما في الغالب يحصل هؤلاء على تلك الوظائف بالرشوة أو التزكية الحزبية والسياسية، ومعروف أن العمل في هذا القطاع يعد فرصة نادرة وناجحة.
ورغم وجود قوانين وتعليمات لكنها معقدة، وعملية فرض تلك القوانين وتطبيق التعليمات ضعيف جدا، كما تلك التعقيدات أساء من خلالها مسؤولو وموظفي المنافذ صلاحياتهم لطلب الرشاوى ومنح الإعفاءات للتجار وللجهات السياسية والخارجية مما أضر كثيرا في معدلات الجباية المتوقع استحصالها لصالح الناتج المحلي الإجمالي من هذا القطاع الغني جدا، ويكاد العراق الدولة الوحيدة في المنطقة التي لا تستثمر وتستفيد من الإيرادات الكمركية فتذهب أما للهدر أو للفساد الذي تقوم به الأحزاب والجهات الخارجة عن القانون.
الخطوات الأخيرة التي قامت بها حكومة الكاظمي بخصوص شن الحرب على الفساد الواقع في المنافذ الحدودية يحمل في طياته أبعاد ورسائل سياسية إقليمية ومحلية أكثر مما يحمله من أبعاد تتعلق بمكافحة الفساد في هذا القطاع الحيوي.
أول هذه الرسائل هو مناطقية الإجراءات الإصلاحية للمنافذ التي اشتملت المعابر الحدودية مع الجمهورية الإسلامية في إيران دون تطبيق هذه الإجراءات في منافذ إقليم كُردستان والمنافذ في المنطقة الغربية مع سوريا والأردن في القائم والرطبة، رغم أن مستويات الفساد والهدر والتهريب في هذه المنافذ لا يقل عنه في المنافذ الجنوبية، الواضح أنه يستهدف إيران أولا والجماعات السياسية المقربة منها.
فعلى مستوى إيران، إن حجم التبادل التجاري الضخم يكون عبر هذه المنافذ، ويعد إجراء هادئ يستعيض عنه باتخاذ قرارات صعبة في قطع العلاقات الاقتصادية معها واستبدالها بمحاور إقليمية أخرى، وهذا بحد ذاته يعطي انطباع إيجابي للقوى الإقليمية والدولية المتصارعة مع إيران في العراق والداعمة للكاظمي، كما أنه بذات الوقت لا يعني أنه خسر الدعم الإيراني أو دخل بمواجهة مباشرة باعتباره شأن عراقي داخلي لا تستطيع أن تعترض عليه إيران رسميا.
أما محليا فالجماعات السياسية المقربة من إيران لا تمتلك علاقات جيدة مع الكاظمي كما أنها تسعى لإفشاله والضغط عليه لأنه تعتقد أنه حل محلها في طرح مرشحها ورؤيتها للحكومة، وطالما أن تلك الجماعات تمتلك من التمويل والنفوذ الذي تستحصله من المنافذ الحدودية؛ فإن قدرتها وصلابتها تتزايد في حين يراهن الكاظمي على إضعافها أو تغيير مواقفها منه أو تليين صلابة الضغوطات التي تمارسها ضده، فهي تمتلك من الغطاء السياسي ما يمكنها للتحرك لتعويق عمله وأيضا لها من السلاح ما يعزز هذا التعويق.
بالمقابل تقويض الغطاء السياسي الذي يحتاج إلى موارد لتجنيد الأنصار والموالين واستدامة زخمها الشعبي والإعلامي لن يكون سهلا بمواجهة مسلحة ولا بمحاكمات قضائية؛ لأن ذلك سيثير جماهيرها ومسلحيها، فأهدأ السبل لذلك هو سبيل التضييق على الموارد التي تحصل عليها من مجالات مختلفة وأهمها هذا الجانب. أما الأطراف الأخرى في الشمال والغرب فهي ساندة وداعمة للكاظمي وحكومته، وبالتالي لا حاجة للتصادم معها في هذا التوقيت فيما يخص المنافذ الحدودية وسياسات أخرى.
مع ذلك، فإن هذه الخطوة ضرورية بغض النظر عن رسائلها وأبعادها، لكنها تحتاج إلى المزيد إن أراد فعلا أن يحقق مردوداتها المزدوجة، فعملية استبدال الموظفين وتغيير القوات الأمنية الماسكة لتلك المنافذ ليست خطوات مضمونة النتائج، فعملية إصلاح هذا القطاع ومكافحة الفساد فيه ومواجهة الجهات المسيطرة والمستفيدة منه لن يكون سهلا ولا سريعا في قطاع ميؤوس منه تماماً، لأنه ليس تحت أعين الجهات الرقابية والإعلامية، كما أن هذا الأمر يحتاج عملية شاملة تشمل تغييرات في التشريعات والتعليمات والموظفين والبنى التحتية والفنية الضابطة والناظمة لعمل تلك المنافذ.
فأولاً لابد من وضع إطار قانوني يحكم عمل المنافذ والكمارك، يضبط قيمة السلع التجارية والزراعية وغيرها ويقدر بإنصاف التعريفة الكمركية وتحديد نسبتها وفقا لقيمة وأهمية تلك السلع والبضائع، مع تبسيط إجراءات الاستيراد والتصدير ليشمل تقليص الوثائق والمستندات المطلوبة للتخليص الكمركي، كما يتضمن هذا الإطار القانوني تأكيد عمليات التدقيق والتفتيش لنسب عالية من الشحنات عبر جهات مختلفة وغير متداخلة وأهمها التقييس والسيطرة النوعية في الحدود.
كما أن الإصلاح لهذا القطاع يستلزم استتباع عملية استبدال الموظفين بوضع إجراءات وقواعد تحفيزية وتدريبية للموظفين الجدد وزيادة رواتبهم ومخصصاتهم منعا لوقوعهم في الرشوة والفساد، والأهم من ذلك معاقبة الراشي وليس المرتشي فقط. ثم يتلازم مع ذلك تطوير وتحديث وتجهيز البنى التحتية للمنافذ بالمعدات الآلية والعدادات الالكترونية اللازمة والكاميرات الحديثة ووسائل التفتيش بدل التخمين والتقدير لأثمان السلع المستوردة والطرق التقليدية، وزيادة طاقم هذه الهيئة بما يضغطِ مهامها دون تعقيد أو روتين يؤدي لدفع الرشوة، ويضاف إلى ذلك تغيير مستمر للقوات الأمنية العاملة في المنافذ الحدودية بكل مستوياتها البرية والبحرية والجوية.
قد تستغرق عملية الإصلاح في هذا القطاع سنوات طويلة وستواجه بالعديد من المصاعب والانتكاسات وقد تفشل، خاصة إذا ربطت بأبعاد خارجية وإذا ما كانت غير شاملة على جميع المنافذ شرقا وغربا وجنوبا وشمالاً، فعدم إصلاح النظام الكمركي بالكامل يعني أن كل هذه الإجراءات ستكون عبثية ومؤقتة وغير موثوقة وبدون مصداقية، وستفسر على أنها إجراءات ذات أبعاد ورسائل سياسية لا أكثر.
اضف تعليق