q
عرف العراقيون بشكل عام، والمجتمع الشيعي بشكل خاص، أن الاحزاب السياسية الغارقة في الفساد والاستئثار بالسلطة والثروات، انما استصحبت الحالة السابقة، كما هو في علم أصول الفقه، فهم لا يفقهون التعامل مع افراد الشعب، من نساء وأطفال وشباب وشرائح مختلفة، ولا يحسنون التعامل مع مشاكلهم، ولا مع تطلعاتهم...

"وإني لعالمٌ بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي".
أمير المؤمنين، عليه السلام

الجماعات البشرية في العالم المبتلية بسياسات القمع والتنكيل، تبحث عمن ينقذها من محنتها، وينصرها على من ظلمها، و إن كانت الشخص او الجهة المنقذة لا تدين بدينها أو مذهبها، لان المهم اكتساب زخم من القوة والمنعة لمواجهة التحديات الخارجية، وهذا ما لاحظناه –وما نزال- في أقليات أثنية مثل؛ الكرد، في منطقة الشرق الأدني، والأرمن في منطقة القوقاز، والمسلمون في كشمير الهندية، ولكل هؤلاء وغيرهم في العالم ما يبرر استقوائهم بالآخرين لظروفهم الاستثنائية والصعبة.

ولكن! ما بال البعض في الوسط الشيعي العراقي ينحو هذا المنحى في وقت ينظر شيعة العالم، والمسلمون بشكل عام الى هذا المكون الاجتماعي في هذا البلد الغني بموارده، وبموقعه الجغرافي وعمقه الحضاري، بعين الغبطة والحسرة.

القضية لا تتعلق بهذه الايام حيث يحتدّ الشدّ والجذب بين الاقليمي والدولي على النفوذ في العراق، بل تعود الى سنين بعيدة عندما كان البعض يستشعر مرارة القمع والاضطهاد وهو في المهجر، فكان يبحث في كل الاتجاهات عمن يخفف عنه هذه المرارة، بالمواساة، او التضامن لاظهار المظلومية، حتى وإن كان هذا الشخص جليساً لصدام، في سني شبابه، وقد أسهم قبل غيره في بناء ديكتاتوريته الدموية، انما المهم أن نقرأ لهذا الكاتب ما يشير الى مظلومية الشيعة، او نسمع من سياسي ما تضامنه مع مطالب الشيعة وحقوقهم.

وفي الفترة الراهنة حيث لم نعد بحاجة للحديث عن مظلومية الشيعة، وعن قضاياهم الكبرى والمصيرية، مثل حرية العقيدة والتعبير، والعدل والمساواة، والاحتكام الى القيم والمبادئ، و بدأت المساعي تتجه الى قضايا فرعية بنكهة سياسية تختلف عليها وجهات نظر، مثلاً؛ دور علماء الدين والحوزة العلمية على الصعيد الاجتماعي والسياسي، وهل يرتقون الى منزلة القيادة أم لا؟ وهل يأخذ المكون الشيعي النمط المدني في نظامه الاجتماعي؟ وكيف تكون علاقاته مع المحيط الاقليمي والدولي؟

إن البحث عن أجوبة لهذه الاسئلة في عيون الآخرين له عواقب غير محمودة، أقل ما يمكن قوله؛ أنها لن تغني المجتمع الشيعي بوعي أو ثقافة أو قوة أو منعة، فضلاً عن تفجير طاقاته وقدراته، اذا لم نقل أنها تزيد في مشاعر الخيبة واليأس من كل شيء.

يمكن الاشارة الى ثلاثة مآلات لهذه "الحالة التواكلية"، ربما نلمس بعض آثارها في واقعنا الاجتماعي والسياسي حالياً:

الأول: تكرار خطأ الاحزاب السياسية

عرف العراقيون بشكل عام، والمجتمع الشيعي بشكل خاص، أن الاحزاب السياسية الغارقة في الفساد والاستئثار بالسلطة والثروات، انما استصحبت "الحالة السابقة"، كما هو في علم أصول الفقه، فهم لا يفقهون التعامل مع افراد الشعب، من نساء وأطفال وشباب وشرائح مختلفة، ولا يحسنون التعامل مع مشاكلهم، ولا مع تطلعاتهم، بقدر ما يعيشون في اطار افكارهم "المعارضاتية" ومصالحهم الخاصة، ويعتنون ببعض افرادهم –وليس جميعهم-!

هذه الشرنقة القاتلة التي سقطت فيها الاحزاب السياسية، ربما ستبتلع في قادم الآيام المجتمع الشيعي ايضاً، وهو موزع في مشاعره ومواقفه ومتبنياته بين هذا وذاك، ثم يحدث الاصطفاف غير المحمود داخل هذا المجتمع الكبير، وما يعقبه من تراشق بالاتهامات والتسقيط وكلٌ يضرب الآخر دفاعاً عن خندقه الذي يحميه –بظنه- ليكون الاثنان هم الأخسرين والفائز طرف آخر صاحب الخندق الحقيقي!

الثاني: التطبع على الحلول الجاهزة

إن العجز القاتل في انتاج الفكر الناهض وصياغة الحلول والبدائل لابناء الشعب، بل وتجاهل كل الفرص المتاحة والنعم الإلهية العظيمة، لابد وأن تضعنا على قارعة البحث عن الحلول الجاهزة والافكار المستوردة على أنها تصدر من جهات او اشخاص من ذوي الاختصاص والتجربة، وممن حققوا النجاحات الباهرة لشعوبهم، ولا نعلم ما اذا كانت هذه التجارب صالحة لنا ايضاً كما صلحت لهذا او ذاك.

الثالث: تزكية الآخرين بالمجان

أرى أن هذا المآل لا يقل خطورة عما سبق، فهو يدفع البعض لإضفاء المشروعية والصدقية على جهات او اشخاص دون استحقاقهم لمجرد الاستفادة من مواقفهم وتصريحاتهم على أنها "موضوعية"، او "قريبة من الواقع" وغيرها من الصفات، بينما الوحيدون القريبون من الواقع هم افراد المجتمع الشيعي بمختلف شرائحهم، مع التذكير مجدداً بعدم وجود منطلق طائفي للقضية بقدر ما هي إثراء لتجربة اجتماعية وسياسية في العراق تخلق قوة ذاتية توفر الحصانة والمنعة أمام مختلف التحديات، فاذا اردنا الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي ايضاً، علينا التحقق من الطريق الذي لا يسبب فساد انفسنا، لان في هذه الحالة حتى وأن طبقنا شروط ومراحل الإصلاح بشكل علمي دقيق وفق "المعايير الدولية" فان المخرجات لن تفيد ابنائنا وأحفادنا في قادم الأيام، ولن يتذوقوا طعم التنمية و الازدهار، و الاكتفاء الذاتي، و الكرامة الانسانية كما قرأناها في ادبياتنا الفكرية والدينية، فالماء النقي الطاهر يُرتشف بقدح طاهر ايضاً.

اضف تعليق