المسألة المهمة في هذا المجال هي اعتبار الفطرة الطبيعية معيارا حضاريا؛ فالقيم تكون صالحة حضاريا متى ما كانت منسجمة مع الفطرة الطبيعية، والعكس بالعكس. ومن هذا المنطلق يمكن النظر الى مسالتي المثلية، ومسألة الدين، ولا نقصد بالدين في هذا السياق كتشريعات، وانما كحاجة وجودية فطرية...
اتحدث دائما عن "القيم الحافة بالمركب الحضاري" المؤلف من خمسة عناصر هي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. وهذه القيم تمثل مؤشرات السلوك ومحدداته الحضارية.
وثمة مصادر عديدة للقيم، يمكن ان اعدد منها:
اولا، صفات الله المطلقة كمنشأ انتزاع للقيم. وقد وقعت على عاتق الانبياء مهمة اشتقاق القيم من صفات الله. وقال الرسول محمد (ص) في الحديث المنسوب اليه: تشبهوا بأخلاق الله.
ثانيا، الفلاسفة والمفكرون على امتداد التاريخ، الدين تزامنوا مع فترة النبوات او الذين جاءوا بعدها، امثال كونفوشيوس وبوذا وسقراط وافلاطون وارسطو وروسو وفولتير ولوك وماركس وانجلز وراولز وغيرهم.
ثالثا، الفطرة الطبيعية، وهي التي اشار اليها القران الكريم بقوله: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ." والفطرة الطبيعية بهذا المعنى هي سنة من سنن التاريخ، ولكنها من النوع الثالث حسب تقسيمات محمد باقر الصدر، وهي السنن التي تشكل اتجاهات عامة في حركة التاريخ.
والنفس الانسانية هي الفطرة الطبيعية. وقد اختلف الفلاسفة منذ القدم حيث قال فريق منهم ان النفس البشرية صالحة اصالة، فيما قال اخرون انها شريرة اصالة.
لكن القران اتخذ موقفا وسطا وقال ان النفس البشرية قابلة لان تكون صالحة، وقابلة لان تكون شريرة. فهي صالحة او شريرة بالقوة لا بالفعل. انما الظروف والعوامل هي التي تحدد ايا من الطريقين سوف يتخذه الانسان مسارا. "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا."
وقد تكفل الانبياء في المرحلة الاولى ببيان بعض خصائص الفطرة، واحالوا معرفة استكمالها الى الزمن الذي يتكفل بتعليم البشرية خصائص فطرتها الطبيعية. وهذا ما نلاحظه عصرا بعد عصر. والملاحظ انه كلما مر الزمن، تقاربت البشرية في فهم طبيعتها الفطرية، وازعم ان هذه الفهم يسير بخط تصاعدي وتكاملي: وقد اشار الفيلسوف المعاصر بريان باري (١٩٣٦-٢٠٠٩) الى جملة من هذه الاكتشافات في حقل الفطرة الطبيعية التي توصلت اليها المجتمعات البشرية منذ القدم حتى الان. وذكر ان من هذه الاكتشافات:
اعتبار الفرق بين الذكر والانثى لبنة البناء الاساسية في التنظيم الاجتماعي في كل مكان.
معرفة الفرق بين كبار السن وصغار السن، وربط التوقعات المختلفة بكل منها.
خصوصية المكفوفين والصم وذوي الاعاقات البدنية والمتأخرين عقليا.
وتعترف جميع المجتمعات بصلات الزواج والقرابة.
وقد تخطأ البشرية وقد تصيب في تشخيص الفطرة الطبيعية. وهذا ما نجده الان في الموقف الخلافي من قضية زواج المثليين. فالمجتمعات المؤمنة بتعاليم الانبياء ترفض هذه الظاهرة وتعتبرها انحرافا عن الفطرة الطبيعية، لكن المجتمعات التي لا تدين لتعاليم الانبياء اصبحت تتقبل هذه الظاهرة. وبالنسبة لي كمؤمن بتعاليم الانبياء، فاني اعتبر هذه الظاهرة انحرافا عن الفطرة الطبيعية، واتوقع ان العلم الحديث سوف يؤكد في النهاية صحة هذا القول، وعندذاك سوف يتخلى انصار هذه الظاهرة عن موقفهم، ويذعنون لحكم العلم المقبول من الطرفين، وينصرفون الى معالجتها، بوصفها خللا حادا في المركب الحضاري ومنظومة القيم، بدل الاذعان لها.
المسألة المهمة في هذا المجال هي اعتبار الفطرة الطبيعية معيارا حضاريا؛ فالقيم تكون صالحة حضاريا متى ما كانت منسجمة مع الفطرة الطبيعية، والعكس بالعكس. ومن هذا المنطلق يمكن النظر الى مسالتي الجنس (الزواج بين الرجل والذكر فقط)، ومسألة الدين. و لا نقصد بالدين في هذا السياق كتشريعات، وانما كحاجة وجودية فطرية الى الارتباط بالمطلق. وبهذا المعنى فان الدين من السنن التاريخية من النوع الثالث. واللادين موقف مخالف للفطرة الطبيعية.
اضف تعليق