أكثر سؤال يدور في اذهان الطلبة الجامعيين العراقيين هو: هل احصل على وظيفة حكومية ام أبقي مشتغلا في القطاع الخاص الفاقد للضمانات المالية؟ وإذا ما حصلت على وظيفة هل امارس اختصاصي ام احشر في احدى المؤسسات الحكومية لا علاقة لها بما درسته طوال سنوات الطفولة والمراهقة؟...
أكثر سؤال يدور في اذهان الطلبة الجامعيين العراقيين هو: هل احصل على وظيفة حكومية ام أبقي مشتغلا في القطاع الخاص الفاقد للضمانات المالية؟ وإذا ما حصلت على وظيفة هل امارس اختصاصي ام احشر في احدى المؤسسات الحكومية لا علاقة لها بما درسته طوال سنوات الطفولة والمراهقة؟
السؤال تُرجّمَ الى حراك طلابي ضد الواقع السياسي الحالي، وفي بعض الأحيان الى استهانة بالشهادة الجامعية، الوظائف غير موجود وان وجدت لا تراعي الاختصاص، فالخريج يرى ان نظام الوظائف يجب ان ينصفه وان يضعه في مكانه الذي يستحق، والاستحقاق يعود للكفاءة العلمية التي يتمتع بها، اذ ان الطالب يقضي على اقل تقدير 16 عاما يتعلم في الابتدائية ابجديات الكتابة والرياضيات واللغة الاجنبية (الانجليزية الرسمية).. الى هنا لا يشعر الطالب بحجم المكسب العلمي الذي يحصل عليه فالغالبية العظمى من الشعب لديهم شهادة الابتدائية، لذلك يعتبر الطالب ان ما تعلمه في الابتدائية من البديهيات لكن الواقع ليس كذلك فاذا كان اغلب الناس يعرفون ما تعرفه لا يعني ان ما تملكه ليس علماً، بل يعني انك تعيش في مجتمع متعلم، وتحتاج للارتقاء لمرتبة افضل لتنفع المجتمع، لذلك تذهب للمرحلة المتوسطة والاعدادية تتعمق اكثر في علوم الحياة والرياضيات والكيمياء والفيزياء والتاريخ والادب واللغة، بالإضافة الى اللغة الأجنبية، وحتى هذه المرحلة ما زالت شريحة كبيرة من المجتمع تشترك معك، وهم خريجو الإعدادية، لذلك لا يشعر الطالب بالفرق الذي احدثته دراسة الاعدادية.
في الجامعة يأتي التخصص، انت الان طالب او خريج إحدى الكليات المختصة بالعلوم الصرفة او العلوم الانسانية، متميز عن المجتمع وتستطيع تقديم خدمة ما تفيد مجتمعك او الإنسانية عامة، ترى ان الخدمة التي تريد تقديمها لا تأتي الا من خلال اتاحة الفرصة لك وتوفير الظروف المناسبة، وترى ان ليس من واجبك إزاحة العقبات التي تقف امامك، بل هذا من واجب الحكومة التي انتهكت قواعد التوظيف بحسب نظرتك المثالية. هذا التفكير غارق في المثالية، اذ يعتقد الخريج الجامعي ان نظامه السياسي يوقر العلماء ويرفع من شأنهم، ويحترم الاختصاص انه محض تفكير مثالي، لا يوجد لدينا مجتمع مثالي كما دعا الى ذلك افلاطون بحيث يقود الفلاسفة الدولة، فلدينا دولة شبيهة بأنظمة سياسية مجاورة، اغلب الوظائف قائمة على الولاء وذوي القربى انها حالة طبيعية، ودولة كهذه لا تريد نشر العلم وتوقير حاملي الشهادة الجامعية، بل هي سلطة غاشمة تعيش على الجهل.
طالب علم ام طالب ثروة؟
قد يعترض أحدهم ويقول إذا كانت الحياة بهذا السوء فإنني أستطيع التعلم ذاتيا وتحقيق كل ما اريده بدون الدولة، ولا فائدة اليوم من المدرسة والجامعة، فهما مجرد حلقة للتعب والعناء، اقول لك هذا طبيعي فالتعلم لا يقتصر على الجامعة فقط، هناك تعلم ذاتي وتعلم جامعي (ايضا لا يخلو من الذاتية وبحسب جهد الطالب)، وفي النهاية يبقى الهدف من التعلم هو الذي يميز طالب العلم الحقيقي عن طالب الثروة بعلمه، هل تريد تحصيل الثورة عبر امتطاء صهوة العلم؟ ام تريد اصلاح المجتمع عبر العلم الذي تمتلكه؟
إذا كنت تعتقد ان العلم يجلب لك الثروة فهذا تصور غير دقيق، اما إذا كنت تطلب العلم لإصلاح المجتمع وتحمل رسالة إنسانية، فمن حقك توبيخ الحكومة بكل قسوة لكن لا تستهين بشهادتك الجامعية لأنها أعظم من الوظيفة، وهنا اضع لك مثالين لنتعرف انا وانت على قيمة العلم الذي نكتسبه وطرق كسبه واهدافه:
المثال الاول: الفيلسوف الالماني يعقوب بوهمه، كان يعمل اسكافياً، ولم يتعلم الا من خلال مهنته كإسكافي، حيث ظل منهمكا في ورشته بين الاحذية، وخلال مدة عمله الذي يحط من قدر الانسان بحسب تصوراتنا اصدر كتابا اودى به في السجن، فكم كان الكتاب قويا لدرجة انه وصل الى السلطة وأزعجها، هل تعلم انه لم يكن موظفا ولا حتى قد حصل على مكانة مرموقة في مجتمعه، رغم ان عالم الوظائف موجود في اوربا خلال الفترة التي عاش فيها يعقوب بوهمه.
المثال الثاني: الفيلسوف الألماني "ايمانويل كانط" الذي تخرج بالمرتبة الثانية في مدرسته (بمعنى انه من الاوائل) ولم يستطع اكمال دراسته الجامعية بسبب ضائقة مالية حيث توفيت والدته، وبعد عدة سنوات عاد للجامعة وأكمل الدكتوراه، لكن الجامعة اعطته وظيفة مساعد استاذ وكانت هذه الوظيفة في ذلك الوقت وظيفة من مرتبة متدنية لا تعطي صاحبها الاحترام وليس لها راتب مدفوع انما يحصل على رسوم تؤخذ من الطلاب.
كان يدرس طلابه قرابة ثمانية وعشرين ساعة في الاسبوع، واعطي مجموعة كبيرة من المواد لتدريسها، وبسبب ظروفه المادية كان يشتغل كعامل مساعد في مكتبة عامة تابعة للقصر الملكي (تخيل ان استاذاً جامعياً يشتغل كعامل مساعد).
بقي على هذه الحال لمدة خمسة عشر عاما، عاش العوز والحرمان المالي.
لكن الان اذهب الى اقسام الفلسفة او ابحث عبر الانترنت عن تاريخ الفلسفة لا ابد ان تجد اسم ايمانويل كانط على رأس القائمة، كما ان تاريخ الفلسفة لا يمكن ان يتجاهل اطلاقا فلسفة يعقوب بوهمه، ليس هذا وحسب، بل لهما دور عظيم في تطور الفكر الانساني وعلومه فمن أبرز مؤلفات كانط "نقد العقل الخالص، وكتاب نقد العقل العملي" فضلا عن مؤلفه المشهور "نحو سلام دائم" والذي تأسست من أفكاره عصبة الأمم ومن بعدها منظمة الأمم المتحدة.
يعقوب بوهمه كان طالب علم حقيقي، لم يكن يتوقع من الشهادة الجامعية ان تكون مصدراً للثروة، ولم يكن يطلب العلم لهذا السبب، ولو فكر بهذه الطريقة لم يصل الى ما هو عليه، وايمانويل كانط تبعه في الأثر، فالثروة يمكن الحصول عليها بطرق متعددة غير الشهادة الجامعية، وحتى الوظيفة الثابتة التي يطالب بها الخريج الجامعي ويحصل من خلالها على التقاعد يستطيع الوصول اليها بدون الشهادة الجامعية مع فارق بسيط في الراتب الشهري، الشهادة الجامعية لا توفر المال، وحتى الوظيفة التي تتوظف بها (حتى لو كنت في الوظائف الراقية كالأستاذ الجامعي والطبيب) لا تتعدى اقل اجر يتقاضاه من يعمل في التجارة او العقارات.
نتفق جميعا على ضرورة احترام صاحب الشهادة لكونه الضوء الذي ينير طريق الإصلاح وتحسين أحوال المجتمع، لكن السياسة عدو للعلم وتريد دائما ان تجعله في مرتبة متدنية، ورجل السياسة لا يريد مجتمعا مستنيراً لذلك يحاربه ويتمنى ان يحتقر المجتمع الشهادة الجامعية وينبذها، يريد من خريج الجامعة ان يحرق شهادته الجامعية وينشر ذلك على مواقع التواصل، فهذه الشهادة والعلم الموجود خلفها تكشف زيف السياسة وتنير طريق المجتمع وهذا لا يصب في صالح السلطة السياسية.
أيها الطالب والخريج الجامعي، اعترض وافضح السياسيين لأنهم يحرمونك الوظيفة لكن لا تستهن بشهادتك الجامعية، فهي أكبر من وظيفة، انها مقدسة بحجم العلم الذي تعلمته خلال ستة عشر عاما، وقد تقول لي انني بالغت في المثالية، لكنني لم أكن مثاليا أكثر من المثالية التي تريد فيها ان يقوم رجل السياسة الصاعد فوق ركام التجهيل المجتمعي ان يوفر لك وظيفة تستحقها بعد تخرجك مباشرة.
اضف تعليق