ففي كل الدورات النيابية السابقة والحالية لم يحرز مجلس النواب العراقي ثورة تشريعية قادرة على تغيير الأوضاع، إذ لا زالت آلاف القوانين والتشريعات والأنظمة والتعليمات تعود لحقبة ما قبل عام ٢٠٠٣ ذات الطابع الاشتراكي والشمولي، كما أنه لم ينجز إقرار وتشريع القوانين الدستورية التي بلغت...

النظام السياسي في العراق كما هو معروف نظام برلماني، ولهذا يعد مجلس النواب هو السلطة الحقيقية الحاكمة للدولة، إذ تنبثق منه جميع المؤسسات الأخرى، وتعد الأداة الرقابية من أهم أدوات مجلس النواب وتدخل في صلب اختصاصاته الفاعلة، فقياس مستوى فعالية المؤسسات الأخرى ينطلق من فعالية البرلمان في الرقابة والمحاسبة والتشريع ومتابعة تطبيق قوانينه ومدى شفافيته ومصداقيته. ولكي نبحث في إحراز الإصلاح السياسي العام علينا أن نبحث في الأدوات المحققة للإصلاح السياسي وأهمها الإصلاح البرلماني ذاته.

دفعت الاحتجاجات الشعبية التي حدثت في العراق في تشرين الأول من العام الماضي، مجلس النواب لتبني حزم إصلاحية عاجلة، منها إقرار قانون الانتخابات الجديد وحل مجالس المحافظات وإقرار قانون جديد للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات والتصويت على مفوضية جديدة من القضاة وتشكيل مجلس الخدمة الاتحادي، وغيرها من القرارات المهمة، لكن كل هذه الإصلاحات لن تكون مكتملة وناضجة ما لم ترتبط بتفعيل أهم ركن من أركان السلطة التشريعية المتعلق بالرقابة.

ففي كل الدورات النيابية السابقة والحالية لم يحرز مجلس النواب العراقي ثورة تشريعية قادرة على تغيير الأوضاع، إذ لا زالت آلاف القوانين والتشريعات والأنظمة والتعليمات تعود لحقبة ما قبل عام ٢٠٠٣ ذات الطابع الاشتراكي والشمولي، كما أنه لم ينجز إقرار وتشريع القوانين الدستورية التي بلغت ٥٥ قانون منها قانون تشكيل مجلس الاتحاد وقانون تكوين الأقاليم، إضافة إلى قانون المحكمة الاتحادية وقانون النفط والغاز، ولغاية الآن لم يُشرع مجلس النواب العراقي قوانين تتعلق بالإثراء غير المشروع (من أين لك هذا؟)، وعدم تضارب المصالح العامة والخاصة، واسترداد الأموال المهربة والمهدورة.

إضافة إلى ذلك، لم يبادر مجلس النواب إلى تشريع وتفعيل وإقرار القوانين التي تؤمّن حق وحرية الوصول إلى المعلومات، وغيرها من القوانين المشابهة، مما يجعل من الصعوبة بمكان إطلاع المواطنين على سير العمل في القطاعات والمؤسسات الحكومية لكي يصبح عنصرا ضاغطا بإتجاه دفع تلك المؤسسات نحو الفاعلية والإنجاز.

إذ أن الاهتمام الجدي في مثل هذه القوانين المهمة يكاد يكون غائب؛ لأن السرية والكتمان والتستر تمسكان بأسس عمل المؤسسات الحكومية في العراق وهذا سياق يتعارض ومنطلقات النظم الديمقراطية.

كما أن البرلمان لم يؤسس لإطار رقابة صارم ولا تقوية لإطار مساءلة فعال، بل حتى في إطار الشفافية لازال منطق الاتفاقات السياسية والمحاصصة والصفقات التواطئية هو العنصر الفاعل في تشكيل الحكومات وإسناد المناصب وتوزيعها، فقد عرف نظام الرقابة والمحاسبة والتعامل مع ملفات الفساد في العراق بعد عام 2003 أنه قائم على أساس تحفيز نظام المحاصصة وتفضيله على نظام الكفاءة مما أدى إلى انتشار نظام المحسوبية وشراء الولاءات وممارسة الفساد والسكوت عنه، إضافة إلى أن البرلمان لم يحقق ولم يدقق ويطالب بالحسابات الختامية لصرف الموازنات المالية للسنوات ١٥ السابقة!.

والأشد من ذلك، إنه لم يمارس الرقابة الذاتية، فلم تتم محاسبة أي نائب في مجلس النواب ولم ترفع الحصانة عن نوابه المتهمين بالفساد والإرهاب إلا بحالات محدودة. ولم تتم إدانة احد رغم تعدد مطالبات القضاء بهذا الشأن، فقد طلبت السلطة القضائية عام ٢٠١٦ رفع الحصانة عن ١٢ نائب، لكن لم ينفذ قرارها ولم ترفع الحصانة عنهم، وفي عام ٢٠١٧ طلب القضاء رفع الحصانة عن ٢٤ نائب، ولم يتم رفعها عنهم، وكذلك قدم مجلس القضاء الأعلى طلبا لرفع الحصانة عن ١٣ نائب متهمين بالإرهاب وجرائم وجنح سابقا ولم ترفع عنهم، وقبل أيام طلب مجلس القضاء الأعلى رفع الحصانة عن ١٨ نائب، ويأمل منه رفع الحصانة عنهم، خاصة أن هنالك ضغط واحتجاجات شعبية تطالب بالتغيير والإصلاح ومحاسبة الفاسدين، وبالتالي لا يوجد أي نائب عراقي سابق أو حالي وكذلك الوزراء ووكلائهم تحت طائلة القانون، بل امتد هذا القصور البرلماني، حتى على مستوى الشفافية التي تقتضي على سبيل المثال كشف الذمم المالية للمسؤولين، فعلى صعيد مجلس النواب لم يكشف ٢٠٧ نائب من مجموع ٣٢٥ نائب من الدورة السابقة عن ذممهم المالية، في حين لم يكشف ٢٠٠ نائب من مجموع ٣٢٩ نائب في الدورة الحالية لغاية الآن.

كل هذا يؤشر عدم جدية السلطة التشريعية لغاية الآن في المضي بإنجاز الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد والخضوع للمحاسبة وإجراءات العدالة كأولوية في جدول أعمال البرلمان، وهذا يعمل على ضياع اللحظات الإصلاحية المطروحة الآن، والتماهي مع السياسات التقليدية التي فرضت استمرارية الإخفاق وضعف البنى السياسية اللازمة للبناء الديمقراطي والتحديث السياسي.

لهذا، وفي معرض الاستجابة لطبيعة الأوضاع الهشة متزايدة التعقيد، على مجلس النواب والقوى السياسية أن تتخذ نهجاً أوسع نطاقاً تجاه دعم الإجراءات الرقابية، بغية التصدي لمصادر الفساد السياسي وتطبيق القانون على أياً كان، ولابد من دعم السلطة القضائية والمؤسسات الرقابية الأخرى وتفعيلها وتعزيز قدراتها في متابعة القضايا والملفات المتعلقة برجالات السياسة ورفع الحصانة والدعم عنهم، فلا بد من تقوية الدور الرقابي لمجلس النواب عبر توسيع نطاق المحاسبة والتشريع لقوانين الرقابة وتحصين تلك القوانين بالقضاء على أن يشمل عمل القضاء الرقابة والمحاسبة لأعضاء السلطة التشريعية والمؤسسات الرقابية الأخرى، وبهذا سيعمل البرلمان على مراقبة الحكومة ومؤسسات الدولة كافة بشكل فعال مما يخضعها للمحاسبة وتطبيق إجراءات القانون، وهذا يسهم في تفكيك ومواجهة الأزمات التي يمر بها العراق والتعافي من آثارها، لاحتواء التراكمات السلبية المتعاقبة في العراق.

قد لا يعول كثيرا الآن على مجلس النواب الحالي بالإصلاح والرقابة الذاتية؛ لأنه من المفترض أن يتجه إلى حل نفسه والاتجاه نحو الانتخابات المبكرة، ويكون على عاتق المجلس الجديد المنبثق من تلك الانتخابات القيام بذلك، ولكن في ظل التباطؤ بملف رفع الحصانة عن نوابه المطلوبين للقضاء وتعطيل الكثير من الإجراءات الرقابية والتشريعية، يدحض توجه المجلس لحل نفسه، وهذا يعزز المطالبات للمجلس الحالي بضرورة تبني نهج الإصلاح والرقابة الذاتية على أعضاءه، خاصة في ظل هذه الظروف والتلكؤ في النظر بإصلاح مجلس النواب سيعزز ويؤكد وجهة نظر الشارع العراقي بعدم أهلية القوى السياسية في البرلمان لإدارة الشأن السياسي وتوجيهه، وبالتالي سيكرس ظاهرة التقليل من أهمية السياسة في المجتمع ويعزز ظاهرة العزوف وضعف المشاركة السياسية والانتخابية تحديدا، أو البحث عن بدائل لهذه الطبقة السياسية المأزومة التي لم تنتج سوى الاختلالات والأعطاب والممارسات اللاعقلانية التي ستدفع لتحفيز أبعاد ودلالات ومضامين الاحتجاجات الرافضة لوجود هذه الطبقة السياسية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2020Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق