العالم مريض جدا ليس فقط بسبب فيروس كورونا المستجد، بل مريض سياسيا وأخلاقيا واقتصاديا وأيدلوجيا واجتماعيا وبيئيا، ويفتقد المناعة الكاملة لأي أخطار وكوارث. حيث العالم منشطر جدا يعيش التناقضات والصراعات وغياب الأولويات الجمعية، فكل بلد خصوصا الدول المتقدمة والمتمكنة تعيش في انغلاق على مصالحها الضيقة...
العالم مريض جدا ليس فقط بسبب فيروس كورونا المستجد، بل مريض سياسيا وأخلاقيا واقتصاديا وأيدلوجيا واجتماعيا وبيئيا، ويفتقد المناعة الكاملة لأي أخطار وكوارث.
على الصعيد السياسي: حيث العالم منشطر جدا يعيش التناقضات والصراعات وغياب الأولويات الجمعية، فكل بلد خصوصا الدول المتقدمة والمتمكنة تعيش في انغلاق على مصالحها الضيقة القصيرة الأجل وكأنها تعيش في عالم منعزل، لكنها في الحقيقة موجودة في عالم مفتوح جدا، يفتقد الاكتفاء الذاتي يعتمد على غيره أكثر مما يعتمد على قدراته الذاتية، لكنه مع ذلك لم يؤسس لأي تعاون مشترك في مواجهة التحديات المصيرية المشتركة.
فالعالم أصبح محشورا بين دول الاستعمار الغربية التي تمارس هيمنتها الليبرالية لمصالحها الخاصة، وبين قوى استبدادية كبرى لاتملك أي مؤشرات للشفافية والوضوح.
مع وجود مؤسسات دولية اغلبها منبثقة من الأمم المتحدة هي شكلية مترهلة تعتمد على المحاصصة ومصالح المتنفذين وبيروقراطية استغلالية.
فتعمق الاختلال في بنية النظام العالمي فأصبح العالم بعيدا عن بعضه تسوده النزاعات الشعبوية مع سحق كبير لحقوق الإنسان وانتهاك للحريات الإنسانية.
على الصعيد الاقتصادي: حيث أصبح العالم شرها للسيطرة على موارد الأرض واستنزافها لصالح قلة قليلة جدا مع صعود طبقة كبيرة من الفقراء، دون مراعاة لأولويات بناء المجتمعات الإنسانية، فأصبح الاقتصاد مقدما على الصحة وعلى البيئة وعلى العدالة الاجتماعية، فما فائدة الاقتصاد إذا كان العالم مريضا كما نلاحظ في جائحة كورونا التي جعلت الاقتصاد العالمي في شلل تام.
على الصعيد الأخلاقي: حيث يسود عالم الاستهلاك والمادية المتضخمة واللامبالاة تجاه الآخرين، فغابت القيم الأخلاقية الإنسانية وسيطرت الأنانية والترف والشراهة والفساد والعنف والحروب، وتفشى السلوك الفردي الذاتي تجاه القضايا الإنسانية حيث كل ما يهم الفرد تحقيق متعه وملذاته الذاتية، فكيف تبني عالما سليما في غياب الأخلاق، حيث الأخلاق هي التي تستطيع أن توحد البشرية في مصيرها المشترك، والأخلاق هي التي ترسخ المسؤولية الفردية تجاه الآخرين. فعندما ينمو الوعي الأخلاقي ينمو إحساس الناس بالمسؤولية تجاه البيئات المحيطة، ولكن مع غلبة الاستهلاك الشره يموت الوعي الأخلاقي وتنتزع صفات الخير.
على الصعيد الاجتماعي: تساهم التكنولوجيا في المزيد من الانشطار الاجتماعي محليا وعالميا، فبدل أن تؤدي ثورة المعلومات إلى نمو المعرفة البشرية أدى غياب الثقافة المعرفية إلى صعود النزاعات الاجتماعية وغلبة التفاهة والتسطيح الفكري، مما أسرع بزيادة الأمية الاجتماعية والثقافية واختلال الوعي الجمعي بالمصير المشترك وضرورة التحول المعلوماتي نحو التغيير والإصلاح المثمر، بل أن الاستغلال السيئ لأباطرة التتفيه والاستهلاك غيب كل عوامل التفكير العميق وحول الإنسان إلى مجرد آلة مستهلكة للأشياء في نظام مادي رأسمالي شره لا يعترف بالأهداف الاجتماعية.
على الصعيد الأيدلوجي: حيث بشر دعاة نهاية التاريخ بنهاية الأيدلوجيات ظهرت ايدولوجيات مستنسخة تنشر السلوكيات الشاذة باسم الحرية المطلقة، أدت إلى ابتعاد الكثير من الناس عن القيم الإنسانية المعتدلة والمتوازنة، ومع الاختلال الفكري تظهر المتناقضات ويزيد الانشطار ويبتعد الفكر الإنساني عن الحلول المطلوبة، أدت هذه الايدولوجيات إلى نمو التطرف والكراهية وصعود الشعبوية كأيدلوجية بديلة للدفاع الذاتي، ومع هذا التطرف الايدولوجي الذي يهدف إلى تفكيك القيم الإنسانية سوف يزداد العالم تفككا وظهور المزيد من التطرفات الخطيرة.
على الصعيد البيئي: حيث كل هذه الاختلالات تؤدي إلى فقدان التوازن البيئي بغياب الاتفاق البشري في الاستفادة السليمة والمعتدلة من موارد الأرض، فالفوضى المناخية والسلوكيات الشاذة ستؤدي حتما إلى استفزاز كل القوى الكامنة في الأرض وتؤدي إلى ظهور أنواع الفايروسات والأوبئة والأمراض، أليس الكثير من أمراض الإنسان هي نتيجة لاختلالات جينية بسبب الصدمات النفسية أو الإفراط في الأكل والشرب أو تلوث البيئة، فالاختلال في بنية الأرض وتوازنها الجيني سيجعلها في مواجهة حاسمة مع الكوارث والأوبئة الخطيرة.
ما المطلوب عراقياً لتحقيق الأمن الإنساني؟
العراق مشاكله كثيرة واغلبها هي معرفية حيث يعيش اغلب النخب والمجتمع في اللحظة اليومية والسلوك الآني ويغيب التفكير في المستقبل، لذلك تبقى الأزمات تستعيد نفسها وتستنسخ كوارثها.
ومع أن العراق يملك موارد كثيرة جدا لكنه بلد يعيش القلق والخوف من المستقبل، وإذا كان كذلك فلماذا لا يفكر في المستقبل؟
أولا: نحتاج إلى تطوير الوعي الجمعي العراقي بالأمن الاستراتيجي في مختلف الاتجاهات، ونبذ السلوك الريعي اليومي، عبر توجيه الوعي نحو المستقبل. تغيير الوعي يعتمد على تغيير الأفكار وتغيير أساليب التفكير تجاه أنفسنا وتجاه محيطنا وتمكين المعرفة لبناء مناعة ذاتية وجمعية تجاه السلوكيات والأفكار السيئة والسلبية وخصوصا بعض العادات والأعراف الاجتماعية.
ثانيا: أن يتحول النظام السياسي في مدخلاته ومخرجاته نحو بناء الأمن الاستراتيجي والتخلص من الأمراض الفئوية الضيقة التي أرهقت النظام السياسي وجعلته بلا لون ولا طعم، بل تحول إلى نظام فارغ في محتواه بعيدا عن أي هدف. وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى عقلية السياسي الذي كثيرا لا يفهم المقتضيات والتحولات، بل انه لا يملك المعرفة اللازمة للإدارة والسياسة والقيادة، فالعمل بالأهداف المستقبلية وإدراكها سيؤدي إلى ترصين العمل السياسي وإنجاح مخرجاته.
ثالثا: القطاع الخاص الممنهج والمنظم والمحمي سيحقق الأمن الاقتصادي، وسيكون مساعدا كبيرا في مساعدة الدولة المترهلة والقطاع العام المشوه، ولكن بعض الكتل السياسية والاجتماعية لا ترغب في نجاح القطاع الخاص لأنه سيؤدي إلى اضمحلال الدولة الريعية المركزية التي تمكنها من الهيمنة والسيطرة.
رابعا: الانفتاح على العراقيين جميعا خصوصا العقول والكفاءات والمستثمرين، حيث يساهم ذلك في الاستثمار البشري والاقتصادي إلى تحقيق التنمية المستدامة وبناء نظام صحي رصين، واستثمار كل القوة الكامنة في المجتمع، والتي لا يستفاد منها بشكل جيد نتيجة لافتقاد الأمن السياسي والاجتماعي والحماية الأساسية، بسبب المحاصصة والتبعية والفساد وبيروقراطية الدولة العميقة.
كما أن هناك حلول أخرى يحتاجها العراق لبناء أمنه الاستراتيجي ومصيره المستقبلي ومناعته الذاتية، مثل تطوير التعليم ومناهجه ونبذ العسكرة والعنف وترسيخ اللامركزية وتعزيز الرقابة والشفافية والنزاهة وتطوير المجتمع والتعددية السياسية والفكرية.
اضف تعليق