وتمر الطبقة المثقفة الآن بمرحلة الحيرة الفكرية قبل ان يستوعبوا الصدمة، فالمفردات الفكرية والمفاهيم التكوينية الخاصة بجهازهم المعرفي غير قادرة على استيعاب هذا الحدث الكوني وغير مؤهلة للجدل في موضوع استثنائي على مستوى الوجود البشري العام. نعم تحدث علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع وافترضوا أفكارا في...
في عصر المشاعية كانت المعرفة خاضعة الى شرطها التاريخي المشاعي في كل شيء يمثل هبة الطبيعة، فكانت المعرفة واحدة من تلك الهبات المشاعية بين البشر تنتقل كخبرات أساسية في الحياة بين أجيال البشر، لكن في عصر التفاوت وانحيازات الملكية الخاصة تقلصت المشاعية شيئا فشيئا وصارت مرهونة بالشرط التاريخي الخاص، وكفت الطبيعة عن هباتها المباشرة وصارت تهب بشرط الجهد البشري، وهنا ظهرت الحيازات الزراعية الخاصة أو ما عبر المؤرخون عنها بالقرية الزراعية الأولى في التاريخ البشري.
وعلى أثر هذه الحيازات تقلصت المشاعية في كل شيء، وتقلصت المشاعية المعرفة ولم تعد بعد الأن تعتمد على هبات الطبيعة بل على الكسب البشري لها وهو ما دعا النظام المعرفي القديم الى تقسيم المعرفة الى حضورية -بديهية وحصولي – كسبية، وفي هذا التقسيم المعرفي ظهر مصطلح العلم ليحل محل مصطلح المعرفة في التداول العلمي ومال الى التحصيل أو الكسب في بناء كيانه الذي لازال معرفيا–فكريا.
ليتطور تصنيف هذا العلم بعد ازدياد حركة العقل وتخصصه في تحصيل وكسب المعرفة وكان بدأ هذا التصنيف منذ عصر الأغريق ليستمر التصنيف في أبوابه وفروعه الى عصرنا هذا.
وكان التصنيف في العلم يمر وفق معايير الحضارات والشعوب التي ظلت تخوض مغامرات العقل وتكّون عقلها الخاص بها وتنتج بواسطته معارفها وعلومها، لكن أهم وأول تصنيفات العلم هي تصنيفات افلاطون ومن ثم تلميذه أرسطو وغالبا ما يقدم تصنيف أرسطو ولعله بتأثير علماء الحضارة الاسلامية في تاريخ العلم وقد نظروا الى أرسطو بأنه المعلم الأول ويقوم تصنيف أرسطو على تقسيم العلم الى:
أولا – العلم النظري ويشمل ما نسميه اليوم علوم أكاديمية فنية ورياضية ما عدا الميتافيزيقيا (علم ما بعد الطبيعة).
ثانيا – العلم العملي ويشمل أيضا ما نسميه علوم أكاديمية عقلية كالاقتصاد والسياسة ما عدا علم الاخلاق.
ثالثا – العلم الانتاجي ويشمل ما نسميه علوم الأدب والفنون ويضيف اليه أرسطو علم الجدل.
وقد أضافت اليها الحضارة الاسلامية تصنيفات أخرى للعلوم ثم أعقبتها النهضة الأوربية والحضارة الحديثة تصنيفات أكثر دقة وتفرعا.
وفي اهمية الخطابة التي تنتمي الى العلم الانتاجي ومركزية الجدل فيها يرى أرسطو أن الخطابة يمكن لها تثقيف الناس في ادراك الموضوع من جميع جوانبه، وبذلك تكون أول اشارة الى صلة العلم بالثقافة باعتبارها مجالا معرفيا خاصا أو نشاطا معرفيا خارج أسوار الدرس الأكاديمي ومتمما له في دخوله في الحياة العقلية للمجتمع وهي أول محاولة نظرية في كسر احتكار العلم.
فالعلم بأصنافه الثلاث لدى أرسطو ظل حكرا على الطبقات العليا في المجتمع وحصرا بيد المؤسسات ذات الصلة بالسلطة والدولة، وهو ما تسبب في إقصاء المجتمعات الدنيا وطبقات الهامش عن المعرفة والثقافة الفكرية، ومع كل مواجهة كونية مدمرة أو جائحة مرضية تخسر الدول والحضارات وجودها ومركزيتها، لكن هذه العلوم سرعان ما تتكيف مع آثار الدمار وجائحات المرض وتعيد دورة انتاجها بتغيير جزئي لكنه مهم في المضمون والشكل، وهو ما يفسر استمرارها وبقاءها بعد كل مواجهات الدمار الكونية والجائحات المرضية ويتطور لديها النظام المعرفي تطورا مهما ودقيقا لكنها تظل تحتفظ بالحاجز الطبقي للعلم كما يصفه (ج د برنال في كتابه تاريخ العلم).
لكن في عصر التنوير وبشكل جزئي في عصر النهضة بدأ كسر هذا الحاجز الطبقي للعلم وفي نظر برنال فهي أهم فترات تقدم العلم وفيها انتشرت أفكار العلم في المجتمعات وتأثرت به ايديولوجيات العصر، وتم تمثل أفكار العلم من قبل الوعي الاجتماعي الذي نستطيع القول أنه ومن خلال هذا التمثل الفكري الاجتماعي لمقولات العلم نشأت طبقات المثقفين في هذه المجتمعات وخرج العلم عن أسوار الجامعات والأكاديميات واطاره الخاص الى متناول الفكر البشري العام، ليصوغ منه المفكرون والمثقفون أراءهم وأفكارهم ونظرياتهم حول ما يتصل بالحياة الاجتماعية العامة، وكان دافعا لخروج الاساتذة من أسر الاكاديميات الجامعية الى حقول الفكر البشري العام وتوجيه رسائلهم الفكرية والثقافية الى المجتمعات، وهنا برز دور الصحافة في توجيه وتثقيف الجماهير، لقد صارت أفكار ماركس ومقالاته الصحفية حديث الطبقات الهامشية العمالية.
وأدى استمرار التواصل العلمي بالثقافي الى زيادة اتصال العلم بالثقافة بما هي مجالات غير أكاديمية للفكر من خلال ظهور وتطور العلوم الاجتماعية والانسانية أو باختصار علم الانسان الذي أغرى الطبقة المثقفة الحديثة بالاستزادة من مناهج هذه العلوم وأفكارها ونظرياتها، ثم صنعت الطبقة المثقفة الحديثة والمعاصرة مجالاتها المعرفية الخاصة بها وأفكارها ومفاهيمها ومفرداتها حتى ابتكرت مصطلحاتها الخاصة بها أيضا، وهنا نستحضر الأسماء الثقافية الكبرى في العالم الحديث والمعاصر التي نقلت نشاطها المعرفي وخطابها العلمي الى الحلقات الاجتماعية والفئات المجتمعية العديدة خارج أسوار الجامعة.
وقد عبرت تلك الطبقات الثقافية عن صلتها الشديدة بالحياة الاجتماعية البشرية وكانت أفكارها ونظرياتها صدى أو نتاج واقع هذه الحياة الاجتماعية، وكانت تطمح تلك الطبقات المثقفة أو طبقات المثقفين على تنوعهم واختلاف مشاربهم الفكرية والنظرية الى صياغة الواقع أو الحياة الاجتماعية والسياسية للبشرية على ضوء أفكارهم ونظرياتهم، وقد أوشكوا على تحقيق ذلك لاسيما مع تجارب التغيير السياسي والاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية وصولا الى مرحلة ما بعد انهيار نظام القطبين، التي أفرزت واقعا سياسيا واجتماعيا لعبت فيه طبقات المثقفين دورا بارزا ورئيسيا ولو على الصعيد النظري والمعرفي الثقافي، إلا ان ظهور جائحة كورونا جعلتهم يلزمون الصمت على مستوى المفاهيم والمفردات الفكرية الخاصة بالثقافة الحديثة والمعاصرة.
وتمر الطبقة المثقفة الآن بمرحلة الحيرة الفكرية قبل ان يستوعبوا الصدمة، فالمفردات الفكرية والمفاهيم التكوينية الخاصة بجهازهم المعرفي غير قادرة على استيعاب هذا الحدث الكوني وغير مؤهلة للجدل في موضوع استثنائي على مستوى الوجود البشري العام.
نعم تحدث علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع وافترضوا أفكارا في عالم ما بعد كورونا، لكنها تقف عند الحدود الدنيا وتلامس سطوح هذا العالم الطارئ دون الجرأة على الولوج في أعماقه، وبذلك لم تتزود الثقافة المعاصرة من مصادرها الرئيسية في التفكير وما يمكن أن يقدم لها العلم الأكاديمي من تحليلات واحصاءات وتوقعات نظرية.
لكن حين يستفيق المجتمع البشري من أثار الصدمة الكورونية فان العلم لاسيما علم الانسان سيستعيد قدرته على التكيف وانتاج ذاته وأفكاره من جديد، بل يسعى الى استثمار هذه الجائحة من أجل زيادة رصيده العلمي لاسيما علوم الاقتصاد والسياسة، وحينها تبدأ الطبقة المثقفة باستعادة نشاطها الفكري وهي تلجأ في أول الأمر الى نقد جهازها المعرفي الذي لم يكن يمتلك القدرة الفكرية في الجدل في الجائحات والمواجهات المدمرة، وسيلجأ الى ازاحة الكثير من مفردات الحداثة ومفردات ما بعد الحداثة، واستبدال مفاهيمه بمفردات اصطلاحية ومفاهيمية تفرضها عليه وقائع عالم ما بعد كورونا لأن الفكر هو نتاج الواقع في جدلية العلاقة بين الواقع والفكر.
لكن الى أي مدى يمكن استشراف طبيعة مفاهيم وأفكار الثقافة في عالم أو واقع ما بعد كورونا؟ انه من الصعوبة الفكرية بمكان أن تُحدد الآن لا سيما وأن البشرية لازالت في موقع التحدي الذي تمر به بإزاء كورونا.
اضف تعليق