بعد الحربين العالميتين أُطلق العنان لقوة العلم، وأضحى العلم إله العصر الذي يخلص البشرية من كل الأزمات وهو الكفيل بتفسير كل مبهم، لكن هذا التوصيف والتأله للعلم أثبت عجزه في كثير المحطات التاريخية التي مرت بالإنسان، والحضارة الغربية، بما فيها الأزمة البيولوجية فيروس كورونا covid 19...

بعد الحربين العالميتين أُطلق العنان لقوة العلم، وأضحى العلم «إله العصر» الذي يخلص البشرية من كل الأزمات والعقبات، وهو الكفيل بتفسير كل مبهم، لكن هذا التوصيف والتأله للعلم أثبت عجزه في كثير المحطات التاريخية التي مرت بالإنسان، والحضارة الغربية، بما فيها الأزمة البيولوجية الحالية "فيروس كورونا covid 19".

ومن هنا تثار مجددا الجدلية الأزلية بين قدرة الفلسفة مقابل قدرة العلم على تقديم تفسيرات يتقبلها منطق الفكر البشري واعتقاده الروحي لكل ما يحدث من طفرات في عالمنا المعولم، في هذا الصدد يمكننا أن نتوقف قليلا إلى الوراء بالضبط إلى الطرح الذي قدمه لنا الفيلسوف الألماني Karl Jaspers كارل جاسبرز من خلال مؤلفاته المثيرة للجدل خاصة فيما يتعلق بالتفسيرات الميتافيزيقية والفلسفية، اذ يرى أن العلم ليس شاملا ويتضمن في طياته القصور، والمحدودية، ولا يستطيع أن يكتفي بنفسه.

بل أكثر من ذلك إنه محاط بنوع من الإيمان في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان حسب كارل إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسان المعرفةَ العلمية من أجله لا يُسْتَمد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان، ويقول جاسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» "إن الفلسفة يجب أن تُثبت أنها قادرة على الاهتداء إلى الصيغ أو بعث المشاعر الدافقة التي يمكنها أن تنتشر بين الناس"، فهو طالما انتقد الحضارة الغربية التي حولت الإنسان الى آلة إنتاجية.

محتكما إلى فلسفة الوجود في كتابه الرائد «الموقف الروحي للعصر» Existenzphilosophie الذي ألفه عام 1930 بينما أثار كتابه "القنبلة الذرية ومستقبل الانسانية" عام 1961 Atomic Bomb and the Futu of Humanity ضجة كبيرة، متسائلا كيف ينبغي للبشرية أن تتعامل مع قدرة البشرية على إنهاء الإنسانية بطرق أكثر فاعلية لإبادة بعضها البعض، وقد دفع هذا الانحدار السريع في إمكانية موت الأنواع النووية الحرارية، فالشرط المسبق حسب طرح كارل لكل شيء هو التفكير، والنظر حولنا لمراقبة ما يجري، وتصور الاحتمالات وعواقب الأحداث، والإجراءات لتوضيح الوضع في الاتجاهات التي تظهر.

وبالطبع يمكننا القيام بذلك حول أزمة كورونا اليوم وفق جاسبيرز عن طريق استخدام عقلانيتنا حتى اذا لم نتمكن من "اعادة الأعماق النهائية" لكن وفق فلسفة جاسبيرز لا يستطيع العقل أن يمنحنا الوضوح بشكل مطلق، ونحن نختبر مصيبة الأحداث التي يسببها وينفذها البشر –طالما أننا نبدأ عقدًا جديدًا مدركًا تمامًا لهشاشتنا، ليس فقط كأفراد، ولكن كأنواع اذا سلمنا بواقعية مؤامرة الفيروس الصيني، أو الأمريكي- حيث يجادل التأمليين اليوم بالنظر إلى هذه الحقيقة القاتمة عن فيروس كورونا أن لدينا أزمة وجودية، أن الناس يدركون مدى هشاشة التفسير العلمي، فلا يمكن إثبات اليأس، ولا الثقة بالمعرفة العقلانية، واستنتاج حتمية المعرفة الكلية، ولا الحجج التي تثق في انتصار الفطرة السليمة، وهو ماجعل جاسبيرز ينتقد في كتابه «الإيمان الفلسفي» الروح العلمية، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، فعلى الرغم من الخطر الذي يمثله فيروس COVID-19 إلا أن الرواية العالمية كانت مغايرة لدى الكثيرين تمامًا عن حقيقة الفيروس، والهروب إلى التفسيرات الماورائية، فهل تتراجع مثالية العلم الوضعي؟

حتى لا نكون نمطيين في تحليلنا نحن في عصر طفرة التكنولوجيا، ومع ذلك كثيرا ما نعود لرأب الصدع إلى فطرتنا الأولى و تغلغل الفكر الميتافيزيقي لدى أوساط العامة كلما عجز العقل والعلم عن ايجاد تفسير في وقت عدم اليقين، رغم أن كلا من الميتافيزيقيا والعلوم تحاول شرح ما يوجد في العالم طالما أنهما يسيران معًا بحثًا عن المعرفة، قد يستوقفنا التحليل مرة أخرى أمام جدلية ثانية في الفلسفة المعاصرة بين "الميتافيزيقيا العقلانية" و"الميتافيزيقيا التجاوزية" وهذا ليس موضع تحليلنا الأساسي لكن يمكن اعطاء منحى لفهم أكثر التشوهات الحاصلة في كنه الاعتقاد الذي صاحب أزمة كورونا من خلال هذه الجدلية بأن المذاهب الميتافيزيقية، على الرغم من أنها لم تكن قابلة للتحقق منها تجريبيا، لأنها دائما غير مقبولة عقلانيا لدى الوضعيين، لكنها قابلة للنقاش، خاصة بعد ظهور الإبستيمولوجيا واثارة مجموعة من الأسئلة التي طرحها الفلاسفة حول مصادر المعرفة، وإمكانيتها والتساؤل أيضا عما إن كانت هناك حواس أخرى غير التي يمتلكها الإنسان.

هذا التطور المثمر للميتافيزيقيا جعلها تهتم بـقضايا الانطولوجيا "علم الوجود"، والإبستيمولوجيا " نظرية المعرفة"، الميثولوجيا" علم الأساطير" الكوسمولوجيا" علم الكون" وبالتالي فهي ليست مجرد تعبيرات ذاتية وعاطفية بقدر ما أنها تسعى إلى استكشاف ما يمكن أن يكون في الواقع، طالما أن التجربة وحدها لا يمكنها تحديد ما هو فعلي، في غياب تحديد ميتافيزيقي لما هو ممكن، لذا لا بد أن يقودنا بحثنا عن الحقيقة الخفية نحو استفزاز أكثر للعقل، والتعمق في منظورات ما بعد الحداثة وفلاسفة المدرسة النقدية.

يعضد هذا الطرح فيلسوف العلم توماس كون Kuhn الذي جادل في كتابه عام 1962،"هيكل الثورات العلمية " The Structure of Scientific Revolutions بأن العلم لا يمكنه أبدًا تحقيق الحقيقة المطلقة والموضوعية، وأن الحقيقة غير معروفة، ومخفية إلى الأبد خلف حجاب افتراضاتنا، وتصوراتنا المسبقة وتعريفنا، ففي تاريخ البشرية، كانت هناك أوبئة متكررة مثل الطاعون في العصور الوسطى، والأنفلونزا الإسبانية في عام 1918 ومن هنا نطرح سؤالا آخر كيف يقدم العلم والفلسفة تفسيرا لمثل هذه الأزمات الصحية؟

الخلفية النظرية للأزمة البيولوجية في فلسفة ميشيل فوكو

إن عدم اليقين الذي لم يسبق له مثيل وسط جائحة الفيروس التاجي أظهر للعالم القدرة التفسيرية لفلسفة ميشيل فوكو، حيث قدم لنا الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو Michel Foucault في كتابه "المجتمع والعقاب" societies punish الصادر عام 1975 مقاربة للظاهرة البيولوجية من خلال دراسته للطاعون بشكل مفصل، حيث يعتقد أن مكافحة العدوى هي أكثر من مجرد إجراء طبي بل تتعلق بفكرة الانضباط والعقاب Discipline and Punish، ففي نهاية القرن السابع عشر كانت الإجراءات التي يجب اتخاذها عندما ظهر الطاعون تشبه إلى حد ما الاجراءات الحالية في ما يخص التعامل مع جائحة كورونا من اغلاق المدن التي تفشى فيها الفيروس الى فرض اجراءات الحظر المنزلي، فتلك المشاهد التي أطلت علينا عبر وسائل الاعلام، ومواقع التواصل الإجتماعي من الصين تبدو قاسية ببساطة قلنا إنها صورة للأنظمة التسلطية التي طالما انتقدها الغرب -حتى كان يُنظر إلى الفيروس على أنه فرصة لتقويض قوة الصين- لكن في الواقع تعبر عن المشهد الأساسي للمجتمع التأديبي الذي تحدث عنه فوكو في ادارة الحياة الإجتماعية لدرء الاضطرابات الناجمة عن موجات القلق والذعر، والاستهلاك التي شكلت بعدا لعلاقة جديدة أساسية بين الدول الوطنية، والعنصر البيولوجي للحياة البشرية، ما يخولها من فرض رقابة قوية على الصحة.

وبالمعنى الدقيق للكلمة هي صورة تضعنا أمام تصور فوكو لتقنيات إدارة السكان يترجم إلى حاجة حقيقية لفهم وتفسير موجات الذعر الجماعي التي يسببها الوباء من جهة منح أحقية للذرائع التي تقدمها الحكومات حول قيود الحرية التي تفرضها باسم الأمننة الصحية.

وفي تحليل للفيلسوف السياسي الإيطالي جورجيو أغامبين Agamben.G الذي يستخدم منهجه النظري المعروف بنهج اختيار شخصية من الماضي لوصف شيء يحدث في الوقت الحاضر كما هو الحال مع فيروس كورونا يقدم لنا تفسيرا عن كيفية انتشار الفيروس في ايطاليا بين اشكالية العلاقة الحاصلة بين العدوى والسلطة السيادية العنيفة، فإذا كانت فلسفة ميشيل فوكو الأقرب اليوم في اعطاء تفسيرات أكثر منطقية للبشرية، عن الأوبئة وكيفية التعامل معها، فإن ما يمكن قوله على صعيدنا التشخيصي أن فيروس كورونا سيستمر بلا هوادة في استفزاز العلم والفلسفة، مما يعني مزيدا من الفوضى والغموض حول نظرية المعرفة.

ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سيتعدى إلى اثارة محادثات جديدة حول عديد القضايا سواء على مستوى الجغرافية السياسة، أو على مستوى تمكين الحكومات على شعوبها ومركزية السلطة، أو على مستوى النمط الجديد من "البعد الإجتماعي والمسؤولية الجماعية والأفضلية" أضف إلى ذلك مزيدا من النقاشات الجديدة حول مصير العولمة -التي أصبحت عولمة بلا تضامن- وزيادة التعاون العالمي والإقليمي، لتحقيق الأمن البيولوجي العالمي بشكل يتجاوز الاعتبارات القومية.

وبالتالي من الضروري التفكير في هذا النقاش الجدلي في عالم يزداد تشعبا، ويتصاعد فيه الزيف والتضليل يوما عن يوم مع قدر كبير من عدم اليقين الذي يحيط بوباء كورونا وهي دعوة أطلقها الفيلسوف سفينيا فلاسبولر قائلا: "إن توقف الفيروس التاجي يعطينا مساحة للتفكير" من زاوية أخرى فإن المنحنى الإستبدادي في السياسة العالمية آخذ في الارتفاع نتيجة لـ covid-19 بينما يشهد تراجعا في منحنى الديمقراطية ربما يؤدي إلى تفعيل ديناميكية فكرية جديدة بين العلم والفلسفة تفرضها التأثيرات العكسية لأزمة فيروس كورونا سيكون من الصعب تحديد حدودها المنطقية، ومعالمها الإنسانية.

ومن ثم يمكن القول أن ما علينا إلا أن ننتظر ما سيخفيه المستقبل حول نمط مرحلة ما بعد هذا الفخ الوبائي كورونا، الذي جعل صورة سيادة العلم والتكنولوجيا في مجال مكافحة الأوبئة تهتز عكس ما كان يفترض أن يمكن سلطان العلم عبر هذه القفزة البشرية التكنولوجية من مواجهة حاسمة للحروب البيولوجية، وتحديدًا هذا الوباء المفاجئ والغامض، قد نعيد مرارا وتكرارا الغوص مجددا في دراسة التجربة العلمية والفلسفية الصينية وما تقدمه كتفسير عن القضايا الأنثروبولوجية في تاريخ الأوبئة عبر ما تطرحه فرضية الفلسفة الآسيوية مقابل الفلسفة الغربية، في عالم مضبوط.

وهنا نختم بقول ويليام ديفيز عالم اجتماع واقتصادي سياسي ".. سوف يستغرق العالم سنوات أو عقود لفهم أهمية عام 2020 بشكل كامل، وما يمكننا أن نتأكد من أنها كأزمة عالمية حقيقية هي أيضًا نقطة تحول عالمية، اذ هناك قدر كبير من الألم العاطفي والجسدي، والمالي في المستقبل القريب، ولن يتم حل أزمة بهذا الحجم على الإطلاق حتى يتم إعادة صياغة العديد من أساسيات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية".

* سامية بن يحي، باحثة أكاديمية متخصصة في الإدارة الدولية، جامعة باتنة-الجزائر
samia20171935@outlook.fr

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق