يؤكد الرواقيون وفي مقدمتهم ماركوس اورليوس على أهمية مقاومة الظنون والابقاء على التفكير العقلاني وتذكّر دائما حتمية الكوارث. هذه المبادئ جرى تطبيقها عندما حل الطاعون الانطوني، فهل يمكن تطبيق المبادئ ذاتها على كارثة الوباء الحالي كوفيد 19؟ بدأ الطاعون الانطوني اولاً في الشرق، ربما قريب...
يؤكد الرواقيون وفي مقدمتهم ماركوس اورليوس على أهمية مقاومة الظنون والابقاء على التفكير العقلاني وتذكّر دائما حتمية الكوارث. هذه المبادئ جرى تطبيقها عندما حل الطاعون الانطوني، فهل يمكن تطبيق المبادئ ذاتها على كارثة الوباء الحالي كوفيد 19؟
بدأ الطاعون الانطوني اولاً في الشرق، ربما قريب من المنطقة التي بها الصين الحالية، ثم انتشر حالا في الغرب حين نقله الجنود والتجار العائدون من السفر. وبعد وقت قصير تفشىّ الفايرس المميت في المدن الاوربية الواحدة تلو الاخرى. ذلك الطاعون تفيد التقديرات انه قتل خمسة ملايين شخص في انحاء الامبراطورية الرومانية. لقد تحول المرض الى وباء استمر من عام 166 الى عام 180 م حيث كان من بين أشهر ضحاياه ماركوس اوريلوس والذي اُطلق فيما بعد على سلالته الحاكمة انطونيوس (اسم الوباء). كان الطاعون اختبارا للرواقية ولأهم رجالها ماركوس اورينوس. بعد جيل من الوباء كتب المؤرخ (Cassius Dio):
لم ينل ماركوس اورينوس القدر الذي يستحقه، فهو لم يكن قوي الجسد وكان دائما يواجه مشاكل لا حصر لها طوال فترة حكمه. لكني شخصيا، اعجب به لسبب واحد وهو انه في وسط الصعوبات الاستثنائية غير العادية استطاع إنقاذ نفسه وكذلك الحفاظ على الامبراطورية.
كان الطاعون من اكبر التحديات امام حكم ماركوس. هو بدأ بكتابة التأملات (The Meditations) بعد وقت قصير من اجتياح الوباء لمعسكرات جنوده. كان ماركوس أشار مرة واحدة فقط للوباء، وهو يلاحظ التفسخ الاخلاقي للروح باعتباره اكثر خطورة من الأضرار الجسدية للوباء. هو يذكر ان الكذب، الادّعاء، الافراط في الفخامة والفخر هي نوع من الشرور المدمرة. الوباء، كما يقول، يهاجمنا فقط فيزيقيا بينما هذه الشرور تهاجم طبيعتنا الداخلية، تحطّم ما هو ضروري لإنسانيتنا.
في الحقيقة، عبّر (Cassius Dio)، الذي عمل كساناتور في ظل حكم الوريث والابن المنحط لماركوس، عن فكرة مشابهة. يدّعي (ديو) ان روما مات فيها وحدها حوالي 2000 ضحية من الطاعون كل يوم، لكنه يستمر بالقول ان هذا المرض يتضاءل بالمقارنة مع الفساد الذي نخر الامبراطورية بواسطة كومودوس، الذي حكم كمستبد مستغلا الموقف للاستحواذ على المزيد من السلطة. كذلك، ذكر لنا مؤلف روماني آخر وهو (Philostratus)، بان الامبراطور بعد ان شهد المعاناة الناجمة، رغم رواقيته، أذرف الدموع عندما سمع امراً من الجمعية الاثنية يطلب "الرحمة لمن ماتوا في الوباء". المؤرخ اوغستا (Augusta) ادّعى بانه في ذروة الوباء مات عدة الاف وكان لابد من اخلاء جثثهم من مدينة روما بعربات تجرها الخيول. قيل ان ماركوس بنى عدة نصب تذكارية للنبلاء الذين قضوا في هذه الفترة. وفي مثال على طيبة القلب التي عُرف بها، أمر الامبراطور بآداء مراسيم جنائزية للطبقة الدنيا تُدفع تكاليفها من الدولة.
في بداية "التأملات" يعرض ماركوس مطولا واحدة من الاستراتيجيات الرئيسية للرواقية لتطوير مرونتها السايكولوجية الشهيرة. هو يصف السمات التي اعجب بها كثيرا في عائلته، اصدقائه ومعلميه وحوالي 17 شخصا. طوال حياته، لاحظ ماركوس كيف تعامل مختلف الناس مع الضغوط النفسية والمعاناة الجسدية الناتجة عن الامراض المزمنة. البعض تعامل بشكل افضل من الآخرين. نحن نستطيع النظر الى "التأملات" كما لو انها تتشكّل من هذه الملاحظات.
يقول ماركوس ان مرشده الرئيسي في الرواقية، وهو ابولونيوس (Apollonius)، بقي تماما نفس الرجل، غير آبه ولا مهتز اثناء الألم الشديد والمرض الطويل. هو بيّن لماركوس كيف يتصرف بحماس، مسترشدا بالعقل، ومسترخيا حول الأحداث الخارجية التي هي خارج سيطرتنا المباشرة. تأثر ماركوس بوضوح بـ "الشخصية التي لا تُقهر" التي تجسدت بهذا القائد العسكري المحنك والرواقي الصلب، حين كان يحتضر. وفي مكان آخر يشكر ماركوس الآلهة لأنه كان محظوظا جدا ليتعرف على ابولونيوس وماكسموس شخصيا. هما وفرا له امثلة حية عن معنى اتّباع الرواقية كطريقة في الحياة.
يشير ماركوس ايضا الى رسالة كتبها مؤسس الفلسفة المنافسة ابيقور، عندما كان يحتضر من مرض مميت قبل أربعة قرون. هو يكتب اننا عندما نقاسي لا يجب ان نتحدث باستمرار عن المعاناة، لا نشتكي بافراط او نعيش كثيرا في الجانب السلبي من الاشياء. بدلا من ذلك، استغل ابيقور مرضه الطويل كفرصة لتطبيق الفلسفة على الموقف، وبالتالي هو يوضح لأصدقائه كيف يمكنهم القيام بهذا بشكل بنّاء. هو ركز انتباهه على اختبار السؤال عن الكيفية التي يحافظ بها الذهن والوعي بالألم على صحته والاستفادة من التجربة. ماركوس يقول لنفسه، حتى في الامراض الشديدة، يجب ان يبقى متمسكا بالرواقية، كفلسفة له في الحياة، ويظل منتبها في كيفية التفكير والتصرف استجابة للألم والمعاناة التي يتحملها.
فوق كل ذلك، تطمح الرواقية القديمة لتعليم أتباعها كيف يعيشوا حياتهم بطريقة عقلانية. مثال على هذا كان اصرارها على التشبث بالحقائق. الرواقيون لا يسمحون للبلاغة العالية التحفيز او الأحكام القيمية ان تشوّه فهمهم للحقيقة. ماركوس يحذر نفسه من الذهاب الى ما وراء ما يمكن ملاحظته في الازمات، مثلما لو وقع احد ابنائه مريضا. هو كان لديه 14 ولدا، نصفهم ماتوا قبل وفاته. عندما مرض احد اولاده أصر ماركوس ان يركز على اللحظة الراهنة بدلا من السماح لذهنه بالاضطراب حول فقدان الابن. هو سوف يواجه ذلك لو حدث له لكن في الوقت الحاضر هو يجب ان يتعامل مع ما يحدث حقا الان وهنا، وهو المرض. التصقْ بالحقائق، لا تضيف اي شيء حول كم هي الاحداث مقلقة.
في الحقيقة، كما هو يقول، اذا كان عليك ان تضيف شيئا ما لملاحظاتك، تذكّر ان المصائب كالأمراض والموت يجب ان لاتسبب الدهشة لأنها جزء من النصيب العام للبشرية. هذا مبدأ اساسي آخر للفلسفة الرواقية: نحن يجب ان نكون مستعدين جيدا لكل شرور الحياة حتى الاشياء الكارثية كالطاعون الكبير. الرواقي الحكيم او المرأة الرواقية لا ينزعجان بالمرض او الموت لأن العقل يخبرنا ان مثل هذه الاشياء هي حتمية في الحياة ولا يجب ان نندهش بها. يؤكد ماركوس ان المرض والموت يجب ان يكونا "مألوفين لنا كالوردة في الربيع او الفاكهة في الخريف". خلال تفشي الطاعون، عندما اندفع الناس في هلع يصرخون "نحن لا نصدق ما يحدث"، بقي الرواقيون هادئين بتذكير انفسهم انهم دائما يعرفون ان هذه الاشياء يمكن ان تحدث لهم.
لكي يحافظ على هذا الاتزان، دائما ما يستخدم ماركوس اسلوبا تأمليا يستلزم التجوال في الماضي البعيد. هو لهذا يذكّر نفسه، عندما نأتي للتحديات التي تواجهنا في الحياة، فلا شيء هناك جديد تحت الشمس. ما نواجهه هو فقط مظاهر مختلفة لنفس الاشياء القديمة – التحديات الدائمة للانسانية. اثناء ذروة الطاعون الانطوني يذكّر ماركوس نفسه ان يتصور كل الناس الذين مرضوا وماتوا في الماضي قبل ان يولد، اثناء حكم الامبراطوران الرومانيان فيسباسيان وتراجان. هو يستنتج ان الحياة قصيرة وهو يجب ان يستمر في الكفاح مركزا الانتباه على عمل ما هو اكثر اهمية، وهو العيش طبقا للحكمة والفضيلة، مثلما يؤمن الرواقيون.
ربما مارس ماركوس الحجر الصحي الذاتي. في اليوم الأخير من حياته سمح فقط لابنه كومودوس بالحضور. الاخير كان على عكس ابيه، يخشى من الموت، وحالما اتيحت له الفرصة لاحقا انحدر الى حياة الاستبداد والترف. يشير المؤرخ اوغستا بانه في اليوم الذي سبق وفاة ماركوس، اصبح واضحا انه سيموت حتما، المقربون منه كانوا مضطربين جدا. هو سأل لماذا هم يبكون عليه بينما يجب ان يدركوا ان المرض والموت هما حقائق للطبيعة ويقبلون بها كقدر للبشرية. هذه الاشياء تحدث لكل شخص حتى الامبراطور نفسه. كانت تلك هديه الفراق لأصدقائه ومحبيه وربما لكل واحد منا.
اضف تعليق