لا يُمكن تحليل الظواهر التاريخية بمعزل عن البنية النفسية للأفراد والجماعات، لأن التاريخ المادي انعكاس عن التاريخ المعنوي، والأحداث الواقعية هي مِرآة للصُّوَر الكامنة في النَّفْس البشرية. وعندما نتعامل معَ المِرآة، ينبغي التركيز على شفافية رُوح الإنسان الواقف أمام المِرْآة، وليس شفافية زجاج المِرْآة وسَطحها...
(1)
لا يُمكن تحليل الظواهر التاريخية بمعزل عن البنية النفسية للأفراد والجماعات، لأن التاريخ المادي انعكاس عن التاريخ المعنوي، والأحداث الواقعية هي مِرآة للصُّوَر الكامنة في النَّفْس البشرية. وعندما نتعامل معَ المِرآة، ينبغي التركيز على شفافية رُوح الإنسان الواقف أمام المِرْآة، وليس شفافية زجاج المِرْآة وسَطحها المَصقول.
وهذا الأمرُ يستلزم وضع حاجز ذهني بين صُورة الإنسان الحقيقية، وانعكاس هذه الصُّورة في المِرْآة. وهذا الحاجزُ ضروري من أجل التفريق بين الأساس والانعكاس.
وكُلَّما ازدادت هذه الفِكرة رُسوخًا في بنية التقاطعات الاجتماعية معَ الزمانِ والمكانِ، ازدادت قُدرةُ الفكر الإنساني على التمييز بين الفِعل ورَد الفِعل. وهذا يُؤَدِّي بالضَّرورة إلى التفريق بين الأشكال الاجتماعية ومضمونها المعرفي، مِمَّا يُولِّد نظامًا معرفيًّا قادرًا على تحديدِ الوظائف الاجتماعية للعناصر والمُركَّبات، وتكوينِ فلسفة جامعة بين إحساس الفرد بالحقيقة والحقيقة ذاتها، تُشبِه رابطة الوجود الجامعة بين إحساس الفرد بحرارة الشمس والشمس ذاتها. وهذا المبدأ القائم على العلاقة بين الإحساس والمَصْدَر يُمثِّل أساسَ النظام الحياتي بأكمله.
(2)
الإحساسُ هو المادة الخام للألفاظ والمعاني، وإذا تَكَرَّسَ في الوَعْي الإنساني، تَحَوَّلَ إلى تطبيق فِعلي على أرض الواقع. وكُل تطبيق فِعلي (حَدَث واقعي) هو بالضَّرورة تاريخ مَحسوس. مِمَّا يدل على أنَّ الترابط بين البنية النَّفسية التي تتكوَّن مِن الأحاسيس الظاهرة والباطنة، وبين التاريخ المَحسوس الذي يتحوَّل معَ مُرور الوقت إلى ظواهر تاريخية قائمة بحد ذاتها، هو ترابط حَتمي واقعي فعَّال، وليس خيالًا ذهنيًّا، أوْ صُدفة عابرة.
والظواهر التاريخية هي تراكمات للأفعال ورُدود الأفعال، التي تقوم على الوَعْي الكامل بالمصير والمصلحة والسيطرة. وأيضًا، إن الظواهر التاريخية هي عمليات منطقية بشكل كامل، والتاريخ هو المنطق الخالص، لكنَّ العَبَث والفَوضى يَظهران في سِياق التاريخ بسبب اختلاف زوايا الرؤية، وسُوء التَّقدير، وظُهور المُفاجآت غَير المُتوقَّعة، وعدم دِقَّة الحِسابات، وعدم دراسة احتمالات الرِّبْح والخسارة، بسبب سَيطرة الطَّمع والجَشع والامتلاك والاستحواذ. وكما يُقال: مَصَارِع الرِّجال تحت بُروق الطمع.
(3)
لا أحد يَدخل حربًا كي يَخسرها، ولا يُوجد طالب يتقدَّم إلى امتحان مِن أجل الرُّسوب. جميعُ الناس يُريدون الفَوز والرِّبح والنجاح والانتصار، ولكن هذه الأُمور مُجرَّد أُمنيات وأحلام، ينبغي وضع خُطَّة مُحكَمة لتطبيقها على أرض الواقع. والفأرُ الذي وَقَعَ في المِصْيَدة لَيس غبيًّا ولا جاهلًا، ولكنَّ تفكيره كان مَحصورًا في قِطعة الجُبن، وهذا أعْمَاه عن تحليل عواقب الأُمور.
والفريسةُ التي تقع في يَد الصَّياد لَيست ساذجة أو عديمة الخِبرة، ولكن عدم تحليل عناصر المَشْهَد أدَّى إلى خسارة حياتها. وفي أحيان كثيرة، يَخسر الإنسانُ حياته، وتنهار الأُمم والحضارات، لأن الظواهر التاريخية لم تُشيَّد على أساس متين، وهذا يَجعلها فريسة سهلة للفراغ والعَدَم، مِمَّا يُؤَدِّي إلى سُقوط تاريخ الأُمم والشعوب في فَخ الحياة ومِصْيَدةِ الحضارة، وبالتالي اندثاره وزواله إلى الأبد.
(4)
مَن أرادَ العَسَلَ، عليه ألا يُفَكِّر في العَسَل لأنَّه نتيجة عادية، ولكن عليه أن يُفكِّر في كيفية تجاوُز إبَر النَّحْل، وإذا تجاوزها بنجاح دُون خسائر، فإنَّ العسل عندئذ يَكون تحصيل حاصل. ومَن أرادَ الانتصارَ في المعركة، عليه ألا يُفكِّر في أقواس النصر وأكاليل الغار، ولكن عليه أن يُفكِّر في كيفية إلحاق الهزيمة بِعَدُوِّه على أرض المعركة. ومَن أرادَ الوُصولَ إلى لَيْلَى، عليه ألا يُفكِّر في جَمَالها، ولكن عَليه أن يُفكِّر في كيفية التخلُّص مِن الذئب. وإذا تجاوزَ الفردُ العقبات بنجاح، فعندئذ تَكون كُل الأحلام والأُمنيات في مُتناول اليد. وفي الأمثال: لا تَعْبُر الجِسْرَ قبل وُصوله.
اضف تعليق