يذهب كيسنجر الى أهمية اتحاد الشعوب في مواجهة أزمة كورونا، وهو مؤشر خطير على تطور في الخطاب السياسي الأميركي الذي كان يضع الولايات المتحدة في موقع التمثيل للمجتمع الدولي ونبذ الدول والأفكار المخالفة له، وهنا يقول كيسنجر \"يجب أن تتحد الشعوب وتفكيرها وأن تتوقع مؤسساتها...
يعد هنري كسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق من المصادر الدولية التي يركن اليها في التحليل السياسي وتعد بوصلته التحليلية الأهم في مجال السياسة والاعلام، وهو من عقول السياسة الحديثة التي رسمت مسارات العلاقات الدولية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية في الفترة من 1969م الى 1977م، حيث شغل في هذه الفترة منصب مستشار الأمن القومي في العام 1969م وشغل منصب وزير الخارجية في العام 1973 م.
وقد عاش في أيامها ذروة الأزمات الدولية الكبرى ومنها أزمة السباق النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأزمة حرب فيتنام وحرب اكتوبر العربية الاسرائيلية وذروة المواجهة غير المسلحة بين حلف الناتو وحلف وارشو، وبذلك استطاع أن يستوعب طبيعة السياسات والعلاقات الدولية وطبيعة الأزمات التي شهدها العالم في ذروة الصراعات الدولية بين المعسكرين الشرقي والغربي مما مكنه من استنباط صورة ممكنة لطبيعة الصراعات في العالم وانعكاساتها على المستقبل السياسي لدول العالم، ومن هنا تأتي مصدريته وأهميته في التحليل السياسي واستشراف افاق هذا المستقبل الذي صار موضع اهتمام العالم دولا وشعوبا وحتى أفرادا.
لكن الى أي مدى استطاع هنري كسنجر أن يضبط ايقاع تصوراته وتوقعاته بشأن مستقبل العالم؟
لقد كان الحدث السياسي الأبرز في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين هو العلاقة المتوترة دائما بين اسرائيل ودولة ايران الاسلامية، ومحاولة استعادة روسيا نفوذها دوليا بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي، وظهور الصين دولة تشغل قوة اقتصادية كبرى باتت الأقوى على منافسة الولايات المتحدة الاميركية مما جعل هذه القوى الصاعدة أيديولوجيا/ايران وسياسيا/روسيا واقتصاديا/الصين مركز اهتمام وانشغال السياسات الخارجية الأميركية وموضع اهتمام مراكز ومؤسسات البحث السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة.
وهنا كانت أفكار وتوقعات كسنجر تحظى بأهمية وتداول اعلامي واسع النطاق حول مستقبل هذه الأحداث السياسية وسيناريوهات نهايات هذه الأزمات بالنسبة للولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل.
وفي حوار أجرته معه جريدة (ديلي سكيب) الأميركية في العام 2013م أكد كسنجر أن الحرب العالمية الثالثة باتت على الأبواب، وان ايران ستكون هي ضربة البداية في هذه الحرب، وتحدث في حواره هذا عن مخطط للجيش الأميركي باحتلال سبع دول في الشرق الأوسط نظرا لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة بما تمتلكه من مصادر الطاقة/النفط وموارد اقتصادية أخرى، معتبرا في حواره ذلك أن طبول الحرب قد قرعت وأن من لا يسمعها فهو أصم وفق قوله، متوقعا بعد ذلك بناء مجتمع عالمي تكون فيه حكومة واحدة تتمتع بالقوة الخارقة.
وفي صورته المأساوية التي يرسمها لوقائع هذه الحرب فان اسرائيل ستقتل فيها الملايين من العرب واحتلال نصف الشرق الأوسط، وأما روسيا والصين فانهما قد جهزت لهما نعوشا في أميركا واسرائيل محذرا الصين ضرورة انتباهتها من غفوتها.
وهي تكشف عن حجم الثقة التي يمنحها العقل السياسي الأميركي للقوة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل لا سيما في مواجهتها للأصولية الاسلامية، فقد توقع كسنجر أو كشف عن وجود شباب أوربيين وأميركيين قد تلقوا تدريبات جيدة وحين تصدر لهم الأوامر فانهم سيخرجون الى الشوارع لمحاربة الذقون المجنونة في اشارة رمزية منه الى الأصولية الاسلامية، ويتوقع أن يتحول ذوي اللحى الطويلة أو المجنونة الى رماد على أيدي أولئك الشباب في الغرب، وطبعا لم يتحقق شيئا من هذا القبيل مما يكشف عن تراجع بوصلة كيسنجر في تحديد صور المستقبل أو السيناريو الذي رسمه للعالم في المستقبل قبل سبع سنين وتعطلت اتجاهات بوصلته نحو حرب عالمية ثالثة.
ثم ما لبثت بوصلته أن تتجه نحو توقعات او متطلبات فهم الاسباب السياسية التي زادت من حدة التوتر بين الولايات المتحدة ودولة الصين مستبدلا بها الحديث عن مسامير النعوش التي تجهزها الولايات المتحدة واسرائيل للصين، فقد نقلت وكالة بلومبرغ الأميركية عن كيسنجر تصريحاته في جلسة منتدى الاقتصاد الجديد -الذي عقد في بكين في الفترة من 20 الى 22/نوفمبر/2019 م – التي قال فيه (من وجهة نظري... أن يتبع فترة التوتر –بين الصين وأميركا– جهد حقيقي لفهم أسبابه السياسية... لم يفت الأوان بعد كوننا لا نزال على أعتاب الحرب الباردة).
وفكرة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين تعبير عن سيناريو ممكن في حلول الصين محل القوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة على مستوى الندية غير المتوقعة أميركيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي مما يدع امكانيات وأسباب الصراع قائمة.
وفي الحذر من أثار وتوقعات هذا الصراع فان كسنجر يدعو الى الحد من تأثير هذا الصراع بين الدولتين الكبريين في العالم، فالنتيجة في توقعاته تكون أسوأ مما حدث في أوربا في الحرب العالمية الأولى وفي هذا يقول كيسنجر (اندلعت الحرب العالمية الأولى نتيجة أزمة صغيرة نسبيا فشلت أطرافها في ادارتها... بينما الأسلحة أقوى اليوم بكثير) وقد عبر عن أمله في أن تؤدي المفاوضات التجارية بين أميركا والصين الى فتح محادثات سياسية بين عواصم الدولتين.
ولعل تراجعه عن فكرة المسمار في نعش الصين جاءت نتيجة ادراكه القوة العسكرية الصينية كما تضمنت اشارته حول قوة السلاح اليوم.
ويبدو أن كورونا ضغطت باتجاه تغيير بوصلة التوقعات لدى كيسنجر مرة أخرى، فقد تحدث في مقال له نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية بادئا بالمقارنة على مستوى الشعور الشخصي بين أجواء الحرب العالمية الثانية التي عاش أيامها جنديا مقاتلا وبين اجواء كورونا التي بدت لديه متشابهة، وهو يتضمن تحديد خطر كورونا كخطر حرب عالمية ثالثة يشهدها العالم كله لاسيما وأنه يقول "هو خطر لا يستهدف أحدا بعينه" فالعالم كله مهدد بإزاء خطر كورونا، لكن كيسنجر يتناول هذا الخطر من وجهة نظر أميركية وليس من وجهة نظر عالمية، وهي الطريقة التي اعتادها العقل الأميركي في التفكير السياسي.
فأميركا تبدو بلدا منقسما في مقال كيسنجر وعلى ضوء هذا الانقسام السياسي الداخلي فان كيسنجر يستشعر الخطر على مستقبل أميركا، فقد انتصرت أميركا في الحرب العالمية الثانية لأن "القوة والقدرة الأميركيتين كان يعززهما الدافع الوطني" وفق قوله مما يؤكد الحاجة الآن في مواجهة كورونا الى "حكومة فاعلة عملاً بعيدة النظر للتغلب على عقبات غير مسبوقة وغير مجربة" وهو يتضمن تنديدا بسياسة ترامب رغم ثنائه الظاهر عليها.
لكن يبرز اتجاه لدى كيسنجر نحو سياسات التهدئة وإرساء نوع من التضامن الاجتماعي يتخطى الى كل المجتمعات التي يقرن ذكرها في مقالته بالسلام والاستقرار الدوليين انه يقول "ان الحفاظ على ثقة الجمهور أمر حاسم للتضامن الاجتماعي وعلاقة المجتمعات ببعضها البعض وللسلام والاستقرار الدوليين".
بل يذهب كيسنجر الى أهمية اتحاد الشعوب في مواجهة أزمة كورونا، وهو مؤشر خطير على تطور في الخطاب السياسي الأميركي الذي كان يضع الولايات المتحدة في موقع التمثيل للمجتمع الدولي ونبذ الدول والأفكار المخالفة له، وهنا يقول كيسنجر "يجب أن تتحد الشعوب وتفكيرها وأن تتوقع مؤسساتها كارثة، وأن تعيد الاستقرار لتكبح آثار تلك الكارثة" وأكثر من هذا فان كيسنجر يرى من الخطأ أن "يعمل القادة على أساس وطني في التعامل مع الأزمة... أثار الفيروس لا تعترف بحدود".
وفي تطور أخر ناتج عن تحديات كورونا أمام الحكم الديمقراطي فان كيسنجر لم يعد يرى أهمية معيارية الحكم العادل، وكأنه يوحي ضمنا بالإشارة الى الصين التي يرسخ في العقل الأميركي سمة الاستبداد الشيوعي في نظام الحكم لديها، وبذلك فانه بالنهاية يضع أنظمة وأفكار الديمقراطية بازاء تحد عالمي جديد وعلى جميع المستويات في عالم ما بعد كورونا، فهو يقول "ستكون النظرة الى العديد من البلدان بعين الريبة والفشل ولن يكون حينها مهما اذا كان هذا الحكم عادلا أو موضوعيا فالحقيقة هي أن العالم لن يكون بعد كورونا كما كان قبله" –بعض الترجمات لمقال كيسنجر حذفت عبارة الحكم العادل والموضوعي- وهو مأزق الليبرالية الأميركية التي تسعى الولايات المتحدة الى التأسيس الدولي لها وهيمنة أنظمتها وأفكارها في العالم، مما يستوجب لدى كيسنجر ان تسعى الدول الديمقراطية الى حماية ودعم قيمها التنويرية وان تسارع الولايات المتحدة الى العمل على حماية النظام الليبرالي الذي يصفه بالعالمي في خطوة ثالثة بعد أن تتمكن الولايات المتحدة في خطوة أولى وبشكل سريع من ايجاد علاج لفيروس كورونا، ومن ثم في خطوة ثانية تقديم المساعدة لإعادة بناء الاقتصاد العالمي وفق مقترحاته الثلاث التي ضمنها مقاله الأخير لتجاوز أزمة كورونا بالنسبة للولايات المتحدة.
لكن كيسنجر هذه المرة يجد ضرورة الاستعانة بالعالم من جانب الولايات المتحدة لإنجاز هذه المهمة في مواجهة كورونا مشددا "لن تتمكن أي دولة حتى أميركا من التغلب تماما على الفيروس، ويجب أن تكون هنالك الآن رؤية وتعاون عالميان، وإن لم نتمكن من تحقيق هذا فسنواجه الأسوأ ".
وبذلك تم استبعاد سيناريوهات الحرب التي كان يتوقع حدوثها بل تغيرت البوصلة لديه كثيرا نحو التحذير من الفشل بمواجهة كورونا التي قد تتسبب في دمار اقتصادي دولي غير مسبوق قد يحرق العالم وفق تعبيره.
هذا الحريق المدمر لم يكن في حسابات بوصلة كيسنجر حين تحدث عن الحرب العالمية الثالثة لكنه كان يتحدث عن الرماد الذي ستؤول اليه الذقون المجنونة. وأخيرا بدت الحرب غير مجدية في أخر تغيرات بوصلة كيسنجر التحليلية.
اضف تعليق