الحوار هو مسار طويل لتحقيق السلم المجتمعي في كل بلد، وعلى مستوى البلدان والشعوب عموماً، وهو الوجه الآخر لمواجهة تحدّيات التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، لاسيّما حين يكون هذا الحوار معرفياً وثقافياً وجزءًا من إيمان بالانتماء لهويّة جامعة على المستوى الوطني وهويّة مشتركة على مستوى شعوب...
أنت وحدك تُعلن من أنت دون أن يضعك الآخر في زاوية أو يحشرك في ركن أو ينتقص من اسمك أو لونك أو جنسك أو قوميتك أو دينك أو لغتك أو وضعك الاجتماعي. ولعلّ ذلك يفترض القبول بالتنوّع والإقرار بالتعددية والحق في الاختلاف، ونبذاً لأي عملية صهر أو قهر أو جبر، تارة بزعم " الوحدة الوطنية" وأخرى بحجة "المصلحة العامة"، وثالثة بدعوى "الأغلبية" ورابعة تحت عنوان " التفوق" أو "امتلاك الحقيقة"، تلك التي لا تعني سوى أحادية وتسيّد وهيمنة وعدم اعتراف بتراثات الشعوب ولغاتها وعاداتها وتقاليدها وفنونها وآدابها.
إنه باختصار تنكّر لخصوصياتها وهوّياتها المتميّزة على حساب روح التفاهم وثقافة التعاون وواقع المشاركة التي تتحقق بتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق كجزء من ثروات الأمم والشعوب وخصائصها التي تختلف بها عن غيرها. فالإنسان هو الهدف الأسمى لكل فكر وفلسفة وسياسة ودين، ويجب أن تكون حقوقه مصانة ومضمونة دستورياً وقانونياً، في النظرية والتطبيق.
إن الإيمان بالحوار يعني الإيمان بقيم ومبادئ مفتوحة لكل الناس، فالجميع لهم الحق في التعبير عن تطلعاتهم في كيانية إنسانية خاصة ضمن إنسانيات عامة وشاملة تتكوّن من تواصل وتفاعل وتداخل إنساني يتجسد في التلاقي والتفاهم والتعاون.
وبقدر كون الحوار مسؤولية فلا بدّ من تنقية الذاكرة المشتركة مما يشوبها من أحقاد وكراهيات ومرارات تكدست بمرور الأيام بسبب حروب أو نزاعات أو انتهاكات ، والانطلاق إلى مفهوم التقارب والتشارك دون نسيان الماضي، الذي يمكن أن يكون منصّة للمراجعة ونقداً للتجربة، لمنع تكرارها من جهة والاستفادة من دروسها التاريخية من جهة أخرى، وصولاً لتحقيق مفهوم جديد للأمن الخاص بالمجاميع الثقافية، سواء على صعيد كل بلد بتنوّعه الثقافي دينياً وإثنياً وسلالياً ولغوياً، أو على صعيد أمم المنطقة ودولها وشعوبها، بهدف استنهاض الجانب الحضاري من الهويّة الخاصة لكل مجموعة ثقافية أو لكل مجتمع ومن الهويات المشتركة، لاسيّما للأمم والشعوب بهوياتها العامة.
الحوار هو مسار طويل لتحقيق السلم المجتمعي في كل بلد، وعلى مستوى البلدان والشعوب عموماً، وهو الوجه الآخر لمواجهة تحدّيات التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، لاسيّما حين يكون هذا الحوار معرفياً وثقافياً وجزءًا من إيمان بالانتماء لهويّة جامعة على المستوى الوطني وهويّة مشتركة على مستوى شعوب ودول الإقليم ، والأمر يشمل فكرة حوار عربي- كردي أو حوار إسلامي - مسيحي أو حوار عربي- إيراني أو حوار عربي- تركي أو حوار كردي مع قوميات دول المنطقة من العرب والترك والفرس أو حوار جامع لأعمدة الأمم الأربعة، كما أطلق عليها سمو الأمير الحسن بن طلال.
وهدف الحوار هو استشراف آفاق حلول للمشكلات وبحث جاد في أسباب الأزمات وسبل تجاوزها واختيار الوسائل المناسبة لمعالجتها، ولذلك فهو يختلف عن المجاملات الشكلية والمخاطبات الدبلوماسية الناعمة، تلك التي تتجنب بحث الإشكالات والخلافات بواقعية وعدم القفز فوقها لأن ذلك لن يوصل الحوار إلى مبتغاه المطلوب، بل يراكم المشكلات ويزيدها تعقيداً واشتباكاً، وحسب المهاتما غاندي فالوسيلة جزء لا يتجزأ من الغاية، مثل البذرة إلى الشجرة، إذ لا غاية شريفة بدون وسيلة شريفة.
والمطلوب من الحوار بادئ ذي بدء توفير مناخ صحي لإشاعة روح الثقة وبالتالي التدرّج في تشخيص جوانب الأزمة والبحث في المشتركات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمواجهتها ، وهذا يقتضي تحريره من الاسقاطات المسبقة قومياً أو دينياً أو أيديولوجياً، لاسيّما بالعودة إلى علاقات الشعوب والمجاميع الثقافية بعضها مع البعض الآخر، في إطار البلد الواحد أو على صعيد دول الإقليم في مشرقه ومغربه، وذلك بتجاوز الثقافة السياسية السائدة القائمة على التهميش والإلغاء وعدم الاعتراف بالآخر، سواء على المستوى الوطني أو على الصعيد الإقليمي الخارجي، ويتطلب ذلك النهوض بالرسالة الحضارية لفكرة الحوار من خلال كونه استحقاقاً لا غنى عنه وضرورة ماسة وليس ترفاً فكرياً أو نزوة عابرة، والأمر يبدأ بالمراجعة للمشتركات والمختلفات، وللإيجابيات والسلبيات وتأثير دائرة التلاقي والتفاعل بحيث تكون مساحة الحوار شاسعة ومستمرة ودائمة، ولن يتحقق ذلك إلا بالمصارحة والشفافية والنقد المتبادل.
وكان أول حوار عربي- كردي قد نظّم في لندن العام 1992 بحضور 50 شخصية عربية وكردية في إطار مبادرة حقوقية شقت طريقها إلى "المنظمة العربية لحقوق الإنسان"، بعد ويلات ومآسي لا حصر لها،خصوصاً بما تعرّض له الكرد من انتهاكات، الأمر الذي كاد البعض أن يكفر بفكرة الحوار الذي تصدّع ركنه وتزعزع مفهومه، وكانت مثل تلك المبادرة بمثابة ردّ اعتبار وسباحة ضد التيار .
كما كان أول حوار بين مثقفي الأمم الأربعة (العرب والترك والفرس والكرد) قد انتظم لأول مرة في تونس 2016 حين استجاب "المعهد العربي للديمقراطية" لمبادرة تم الترويج لها لأكثر من عقد من الزمان، كما أشارت إليه الحركة الثقافية في انطلياس (العام 2017) لمناسبة تكريم أعلام الثقافة في العالم العربي ولبنان.
وتبعها قناعة من "منتدى الفكر العربي" الذي تحمّس للمبادرة، وكان ذلك في ندوة اتخذت اسم " أعمدة الأمة الأربعة" في 22 تموز (يوليو) 2018 والمقصود بذلك العرب والكرد والترك والفرس، وهي مواصلة لندوة حول "الحوار العربي - الكردي" في 1 آذار (مارس) 2018 حيث صبّت بذات الاتجاه وجميع تلك المبادرات اتخذت من الحوار وسيلة ضرورية للتفاهم والتواصل.
وقد أضفت ندوّة عمّان بشأن " أعمدة الأمة الأربعة" التي كانت برعاية من سمو الأمير الحسن بن طلال على الفكرة وهجاً جديداً، وبدأت تتّخذ جوانب عملية، خصوصاً حين عمدت إلى مأسسة عملها أولياً باتجاه التحضير للقاء موسع وضمن رؤية برنامجية مستقبلية، ولعل مثل هذه المبادرات ليست الوحيدة، فثمة توجهات تتشارك معها في المنطلق وجدت سبيلها في رحاب الجامعة اللبنانية في بيروت (5 تموز/يوليو/2018) وهي دعوة للتكامل الإقليمي، كما انعقد لقاء تكاملياً في برمانا في 10-11/5/2019 بذات التوجهات والمعنى.
لقد كان حصاد الحروب والنزاعات والصراعات في الإقليم الذي نعيش فيه والذي يضمّ الأتراك والفرس والكرد والعرب، عدّة ملايين من الضحايا وما يزيد عن 12 تريليون دولار في التقديرات غير المبالِغة خلال العشرين عاماً الماضية، وذلك ليس سوى الوجه الآخر لتعويم التنمية أو تعطيلها على أقل تقدير وعرقلة خطط الإصلاح التي لا يمكن الحديث عنها إلّا في ظل أجواء الاستقرار والسلام، فـ"الحروب تولد في العقول" ولذلك ينبغي "بناء حصون السلام في العقول أيضاً"، حسب دستور اليونسكو، ولأن وظيفة النخب الفكرية والثقافية بشكل عام التوجّه إلى الإنسان ومخاطبة عقله، فلا بدّ لها إذاً أن تتحرّك لتقديم رؤية نقيضة للحرب على الرغم من الخراب والدمار وثقافة العنف،وذلك عبر تغليب العقل ومنطق الحوار والتفاهم والتعاون والمصالح المشتركة.
ومثل هذه النظرة المستقبلية شغلت مثقفين من بلدان عدّة تلمّسوا بتجاربهم وكلٌ من موقعه أهمية الحوار خارج دائرة الاشتباكات الآيديولوجية والنزاعات الدينية والطائفية والاحترابات الإثنية والاستقطابات الأنانية الضيقة، لأنها تقوم باختصار على أن الأمم والشعوب التي تعيش في المنطقة والتي تعاني من توتّرات ونزاعات داخلية وصراعات إقليمية وخارجية، تحتاج إلى إعادة بناء علاقاتها مع بعضها لتنميتها بروح القيم الإنسانية التي تمثّل المشتركات بين البشر، بعيداً عن محاولات فرض الهيمنة والاستتباع والتدخل بالشؤون الداخلية ، تلك التي أضرّت ضرراً بليغاً بجميع شعوب المنطقة.
وإذا توقّفنا عند الحروب والصراعات والنزاعات التي تعيشها دول الإقليم، فسنراها حروباً مركّبة سياسية واقتصادية وآيديولوجية حتى وإنْ حملت في حقيقتها "مصالح" أو "أهداف" قوميّة ودينية وطائفية جيوسياسية ونزعات للتسيّد وفرض الإرادة، سواء حدثت بصورة مباشرة أم بالواسطة وبالتداخل والتناظر مع مصالح دولية أحياناً، وليس بعيداً عنها الدور "الإسرائيلي" العدواني المستمر.
فهل ثمة فرصة لأمم الإقليم لتعزيز الروابط فيما بينها والنهوض بمستلزمات التحدّي الذي يواجهها، خصوصاً وأن هناك استهدافاً شاملاً لها جميعاً دون استثناء ؟ ثم كيف يمكنها استثمار اللحظة التاريخية والتقاط ما هو جوهري ومستقبلي لبناء العلاقات وفقاً لقيم ومبادئ كونية جامعة قوامها: الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة واحترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية، وتلك جوامع إنسانية لبني البشر، فما بالك بالنسبة لشعوب المنطقة.
وبقدر ما تكون " القيم الخصوصية" رافداً مضافاً للقيم العالمية لكن التشبث بها لا ينبغي أن يكون مبرّراً للتحلل من "القيم الكونية" لأن ذلك يقود إلى الانغلاق والتقوقع والعزلة، كما أنه ليس مقبولاً باسم "الكونية" فرض الهيمنة والاستتباع وإملاء الإرادة، والتجاوز على الخصوصية. وتبقى العلاقة بين الخصوصية والكونية فضاءً مفتوحاً وحرّاً للأخذ والعطاء والتواصل والتفاعل ، وهو بحاجة إلى حوار مستمر ليس حول الماضي فحسب، بل فيما يخصّ الحاضر والمستقبل، فالماضي مضى ولا يمكن إعادته بما فيه من إيجابيات وسلبيات.
وإذا كانت أوروبا قد سبقتنا بوضع حدٍّ لحروبها الطائفية، ولاسيّما بين البروتستانت والكاثوليك، وخصوصاً "حرب الثلاثين عام"، بإبرام معاهدة وستفاليا 1648 فسيكون جديراً بدول الإقليم وأممه وشعوبه إعادة بناء علاقاتها وفقاً لهذه الأسس الجيوسياسية الثقافية وعلى قواعد القانون الدولي المعاصر وميثاق الأمم المتحدة ووفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التي يمكن أن تضع حداً لحروب عبثية باسم السنّة والشيعة وباسم "الإسلام" ضد الأديان الأخرى، وهذا ما كان قد طغى على خطاب داعش بعد هيمنته على ثلث مساحة كل من العراق وسوريا،لاسيّما باستهداف المسيحيين والإيزيديين وأتباع الأديان الأخرى، وجميع المسلمين وفقاً لاجتهاداته الجهنمية بتكفير الجميع.
إن النخب الفكرية والثقافية والحقوقية ومن موقعها التنويري يمكن أن تكون "قوة اقتراح" وخصوصاً، حين تستطيع بناء جسور الثقة مع أصحاب القرار، بحيث تصبح شريكاً فاعلاً
ومشاركاً لا غنى عنه في عملية التنمية المنشودة، سواء في صنع القرار أم في تنفيذه، لاسيما بإشاعة ثقافة الحوار والتواصل وصولاً إلى اعتمادها كمنهج رئيس في العلاقات بين الأمم والشعوب.
يمكننا تصوّر كم سيكون وجه الإقليم مختلفاً ومكانته كبيرة لو اعتمد صيغة أقرب إلى ويستفاليا تأخذ شكل "تعاهد" أو "ميثاق" أو" اتفاق" عام للسلام أساسه احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق تقرير المصير وإنماء التعاون والشراكة؟ وكم سيكون انعكاسه فاعلاً على كل بلد وعلى مستوى الإقليم، بل على المستوى الكوني، بالاستثمار لصالح الإنسان وحقوقه وحرّياته وتعليمه وصحته وبيئته وتنميته؟ وبالطبع ستفضي مثل تلك العلاقات والتعاون ليس لإنهاء التناحر أو وضع حد له فحسب، بل لتعزيز التكامل بين دوله وشعوبه وأممه، كما حصل في أوروبا التي تضم شعوباً وأمماً ولغات مختلفة، تلك التي توحدت في الاتحاد الأوروبي.
وبتقديري إن أمم الإقليم ودوله ستتمكّن من مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية بصورة أكفأ وأسلوب أجدر فيما لو كانت متعاونة بين بعضها البعض وموحّدة الأهداف مع مراعاة خصوصية كل منها، بما فيها من تنمية بكل جوانبها، سياسياً واقتصاديا واجتماعياً وثقافياً وتربوياً وقانونياً وصحياً وبيئياً ومائياً وخدماتياً وغيرها، وبالطبع فذلك يتطلب أولاً: وقبل كل شيء وقف الحروب فيما بينها سواء المباشرة أم بالواسطة، وثانياً: واعتماد الحوار والحلول السلمية وسيلة لوضع حدّ للصراعات القائمة، خصوصاً وأن الحوار أثبت جدارته كوسيلة فعّالة للتفاهم والتعاون بين الأمم والبلدان.
إن نقيض الحوار هو استمرار الحال على ما هو عليه من تنافر وتباعد وانغلاق وتشظّي وتشتّت وتفتت وانقسام، أو تفاقم الأوضاع وازديادها سوءًا وتدهوراً، وستكون انعكاسات ذلك وبالاً على التنمية وحياة الإنسان ورفاهه، فضلاً عن تعقيد أوضاع الإقليم وعلاقاته ككل، وسيعطي للقوى الخارجية مبرّراً لاستثمار الخلافات لإخضاع دول وشعوب المنطقة للهيمنة والاستتباع، فحوار سنة أفضل من قتال ساعة، لما تتركه من آثار معنوية ونفسية ومادية على الفرقاء.
وإذا كان العالم يتجه أمماً وشعوباً نحو التقارب والتعاون والتكامل، فإن شعوب الإقليم وأممه ما زالت تعيش حالة من عدم الثقة والنزاع والاحتراب، في حين يفترض فيها التلاقي والتراضي والتشارك، لما يجمعها من تاريخ مشترك وديانات وقيم مشتركة وعلاقات اجتماعية متداخلة وإمكانية تكامل اقتصادي وغيرها.
ولعلّ هذا الأمر سبب آخر لراهنية الحوار وضرورته لأنه بهذا المعنى يصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، خصوصاً حين تواجه دول الإقليم ظواهر التعصّب والتطرّف والطائفية والعنصرية والإلغاء والتهميش، فضلاً عن العنف والإرهاب، بل وتهديد الدول الوطنية، وأعتقد أن نموذج داعش ينبغي أن يظل ماثلاً نصب العين باستمرار كتهديد حقيقي للسلام والأمن والتنمية على مستوى كل بلد أو على مستوى دول الإقليم.
اضف تعليق